المادة    
انتقل الشيخ رحمه الله إلى موضوع آخر وهو موضوع تفاضل الأولياء؛ لأنه قال: (والولاية أيضاً نظير الإيمان، فيكون مراد الشيخ أن أهلها في أصلها سواء وتكون كاملة وناقصة)، وقوله: (إن أهلها في أصلها سواء) هذا يرجع إلى ما قلنا من أن قوله في الإيمان: (أهله في أصله سواء) أن العبارة خطأ، ولا يصح أن نقول أيضاً: إن أصل الأولياء في الولاية سواء، وإنما نقول: إن الأولياء يتفاوتون، فبعضهم أكثر ولاية لله تبارك وتعالى، وأعظم في درجات الولاية من الآخر. إذاً: هذه المسألة لا نعيدها ولا نكررها، لكن نبين قبل أن نتعرض للآية وما جاء فيها أن للولاية نوعين من الترتيب، ونوعين من الدرجات، ما النوعان من الترتيب؟ ‏
  1. ترتيب الأولياء بحسب الأشخاص

    النوع الأول: هو الترتيب الشرعي المأخوذ من الكتاب ومن السنة، ومما عليه السلف الصالح وهو عقيدة أهل السنة والجماعة ، فلهم ترتيب في الولاية ودرجاتها.
    والنوع الآخر: ترتيب بدعي أحدثه أهل التصوف وأشبابهم من المتفلسفة، فجعلوا للولاية ترتيباً آخر مخالفاً ومغايراً لما جاء عن الشرع.
    فأما ترتيب الأولياء أو درجات الولاية في الشرع، فإنه يبدأ بأفضل الأولياء، وأفضل الأولياء هم الأنبياء، وأفضل الأنبياء هم أولو العزم الخمسة، وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم.
    نستطيع أن نأخذه من الآية: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63] فأكثر الناس إيماناً وأكثرهم تقوى هم الأنبياء.
    إذاً: هذه هي المرتبة العليا، وكل مرتبة تحتها مرتبات وكل مرتبة فيها درجات، فالمرتبة الأولى من مراتب الولاية مرتبة النبوة، والأنبياء أيضاً متفاضلون: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ))[البقرة:253] كما تقدم في مبحث النبوة والرسالة، فالله سبحانه وتعالى فضلهم حيث قال سبحانه: (( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ))[الإسراء:55] وأفضلهم أولو العزم، وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم.
    أما هذه الأمة فنرتب من جهة درجات ولايتها والأفضلية، فأفضل رجل في هذه الأمة، أو أفضل الأولياء من هذه الأمة هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لا شك في ذلك؛ ولذلك فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يريد أن يبطل كلام الصوفية وغيرهم، بأن الأمة الإسلامية كلها اتفقت سنيها وشيعيها أيضاً على أن أفضل الناس وأفضل هذه الأمة وأفضل الأولياء هو أحد الخلفاء الراشدين، لكن عامة المسلمين أهل السنة والجماعة يقولون: إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها الصديق رضي الله تعالى عنه، وأما الرافضة وسائر الشيعة بدرجاتهم فيقولون: إنه علي رضي الله تعالى عنه؛ ليخرج قول الصوفية وأمثالهم عن أن يكون من أقوال هذه الملة من أقوال المسلمين؛ لأن الرسالة رسالة شيخ الإسلام رحمه الله الفرقان هذه رسالة عظيمة جداً، وموجودة في الفتاوى ، ويمكن قرأتموها وهي مخرجة من غير الفتاوى.
    فموضوع المفاضلة ذكره الشيخ في هذه الرسالة فهو يكتب ويسترسل ثم يعقد فصلاً، ثم يسترسل ثم يعقد فصلاً، فتتداخل الموضوعات، بحيث لو أنك أردت أن تلخص هذه الرسالة وترتبها من جديد، إن استطعت أن تركبها تركيباً أو ترتبها ترتيباً آخر، ففي صفحة (223) من مجموع الفتاوى الجزء الحادي عشر، يقول: (وبالجملة اتفقت طوائف السنة و الشيعة -على اختلاف طوائف الشيعة بين الغالي منهم وبين ما هو أدنى اتفقوا مع أهل السنة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها -وهو أفضل الأولياء- واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة) أفضل من الصحابة، هذا القول الذي اتفقت عليه أهل السنة و الشيعة على اختلاف درجاتهم، ومن كان منهم في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن بعضهم أظهر القول بأن علياً هو الأفضل؛ ولهذا خطب علي رضي الله تعالى عنه وقال من على المنبر: [ لا أوتين برجل فضلني على أبي بكر و عمر إلا جلدته ثمانين جلدة حد الفرية ] حد الافتراء.
    فالمقصود أن هذا دليل على أنه لا يصح لأحد أن يأتي من بعد فيزعم أو يدعي أن أفضل الأولياء هو رجل آخر من غير جنس الصحابة رضي الله تعالى عنهم، هذا هو المقصود.
    والإجماع منعقد على أن الولي يكون من الصحابة، وإن ضلت فيه الشيعة ، وقالت: إنه علي ، لكن أصل اعتقاد أن الولي لا بد أن يكون من الصحابة هذا حق، بغض النظر عمن عينوا، هذا يرد على من سنذكرهم إن شاء الله فيما بعد.
    فإذاً: عندنا النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأولياء عند الله عز وجل قاطبة من الأنبياء وغيرهم، ثم أفضل الأولياء من هذه الأمة هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ثم ترتيبهم في الولاية كترتيبهم في الفضل المعلوم، فيكون الخلفاء الأربعة الراشدون أفضل ممن بعدهم، وبقية العشرة أفضل ممن دونهم، ثم أصحاب بدر أفضل من غيرهم، ثم أصحاب الشجرة أفضل وأكثر ولاية لله تعالى من غيرهم، ثم عموم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولو أن الواحد منهم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحظة واحدة رآه ومات مؤمناً به، فهو أفضل ممن بعده، ثم بعد الصحابة أفضل الناس هم التابعون.
    إذاً: الولاية كما ترون درجات، ودرجاتها بحسب الفضل هكذا.
  2. ترتيب الأولياء بحسب الأعمال

    أما ترتيب الأولياء بغير القرون فهناك ترتيب آخر بحسب الأعمال، أفضل الأولياء بحسب الأعمال، إذا قسمنا الأمة كما قسمها الله تبارك وتعالى فإنها صنفان: السابقون، وأصحاب اليمين، إذاً: هما على هذا الترتيب، فأكثر ولاية لله هم السابقون.
    فالسابقون هم أولياء الله، وكذلك من دونهم أصحاب اليمين من أولياء الله، والمؤمنون كلهم أولياء الله، لكن السابقون أعظم في سلم ودرجة الولاية من أصحاب اليمين.
    فإذاً: إذا قسمنا الناس كما قسم الله سبحانه وتعالى في أول سورة الواقعة وآخرها فهم ثلاثة أصناف، وتكون هذه الأمة صنفين، فمن هذه الأمة السابقون، ومنها أصحاب اليمين، وأما الصنف الثالث فلا يكون من هذه الأمة، وإنما هم أصحاب الشمال، أي: الكفار.
    وهذا التقسيم كما ذكر الشيخ رحمه الله هو موجود في سور أخرى، في سورة الإنسان: (( إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ))[الإنسان:5-6] وفي آية المطففين نفس الشيء أبرار، ولكن بدل عباد الله قال: (( وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ))[المطففين:27-28] في سورة الإنسان: (عباد الله) وفي سورة المطففين: (المقربون) فالمقربون يشربون من هذه العين خالصة نقية، وأما الأبرار الذين هم أدنى درجة فهم يشربون منها ممزوجة.
    فإذاً: أولئك أفضل، وهم الذين يشربون من هذه العين العظيمة المثني عليها من قبل الله عز وجل بالثناء العظيم، وهذا الوصف لا نعلم إلا اسمه وأما حقيقته فهي في علم الغيب عند الله عز وجل، فهؤلاء عباد الله المقربون يشربونها خالصة، وأما الأبرار الذين هم أقل منهم فإنهم يشربونها ممزوجة مخلوطة، فأولئك أفضل من هؤلاء.
    والجنة درجات عظيمة، فمنها درجات عظيمة للمقربين، ومنها درجات عظيمة للأبرار.
    أما في سورة فاطر فإن أقسام هذه الأمة ثلاثة، وإذا قلنا الأقسام وأردنا العالمين فستكون أربعة، فهذه الأقسام الأربعة هي:
    السابقون: (( وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ))[فاطر:32] السابق بالخيرات في سورة (فاطر) هم السابقون في سورة (الواقعة)، وهم عباد الله في سورة (الإنسان)، وهم المقربون في سورة (المطففين).
    المقتصد: (( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ))[فاطر:32] المقتصد الذي هو من أصحاب اليمين في سورة (الواقعة)، ومن الأبرار في سورة (الإنسان) وفي سورة (المطففين).
    الظالم لنفسه؛ لأن الله تعالى يقول في الآية: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ))[فاطر:32] فالظالم لنفسه هذا هو من جملة الأمة المصطفاة، والسياق هذا يفيدنا زيادة فائدة عما ذكر هنا، وهي أن هذا الظالم لنفسه هو من أهل الجنة ولو باعتبار المآل والعاقبة، ولا يعني ذلك أن الظالم لنفسه يدخل الجنة ابتداء.
    إذاً: عندما ننظر إلى آيات (الواقعة) و(الإنسان) و(المطففين) فهي تتكلم عمن يدخلون الجنة، وتتحدث عن أوصافهم، فهؤلاء هم أهلها، لكن درجاتهم متفاوتة.
    أما الظالم لنفسه فهو من أهل الوعيد، لكنه لا يخلد في النار؛ ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآية: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ))[فاطر:36] الآية، وهم أهل النار، فهؤلاء مخلدون فيها، فمرتكبو الكبائر والظالمون لأنفسهم من هذه الأمة هم من جملة أهل الجنة، وإن كان منهم من لا يدخل ابتداء، وإنما يدخل عاقبة ومآلاً، بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الشافعين، وتحنن الله عز وجل ورحمته بهم.
    فعلى هذا يكون هؤلاء هم الدرجة الدنيا في الولاية، أدنى درجات الأولياء هم الظالمون لأنفسهم، لكن على كلٍ هم من جملة هذه الأمة.
    فإذاً: تكون هذه الأمة كلها أولياء لله عز وجل، أعلاهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبعده صحابته، وأدناهم الظالمون لأنفسهم من أهل الكبائر والمعاصي، الذين هم من أهل التوحيد، كل هؤلاء أولياء لله عز وجل.
    إذاً: فالولاية متفاوتة بحسب ما بين أهل الطبقة الأولى العليا وبين أهل الطبقة الدنيا، وهذا ليس فيه إشكال.
  3. ترتيب الأولياء بحسب السبق للإسلام

    ويمكن أن نقسم الأولياء أو الفضل أيضاً قسمين، فنجعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي ) هذا القول قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، المقصود بقوله: (أصحابي) هم السابقون الأولون الذين قاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح، الذي هو فتح أو صلح الحديبية .
    فيمكن أن نجعلهم طبقتين:
    الطبقة الأولى: الذين قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنفقوا من قبل الفتح.
    الطبقة الثانية: الذين أسلموا بعد الفتح، ولا يستوي هؤلاء وهؤلاء كما بين الله تبارك وتعالى في آية الحديد.
    الصحابة أنفسهم درجات أو طبقات في الولاية ومن بعدهم أفضل الناس هم التابعون، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) فهذا دليل على أن التابعين هم أفضل الناس بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما قال الله عز وجل: (( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ))[التوبة:100] فهم بعدهم، وهم الذين يلونهم في الفضل، فهم إذاً يلونهم في قوة الإيمان، فهم يلونهم في الولاية.
    إذاً: لا يمكن أن يكون ولي من التابعين أفضل من أحد الصحابة، هذه حقائق واضحة، لكن لها أهمية لأننا عندما نناقش ما قاله الصوفية ، نجد أنهم خرجوا عن هذا خروجاً عظيماً، فمهما بلغ التابعي في العبادة واجتهد فيها، وكان من العلم والفضل والخير والجهاد والصلاح والتقوى والاستقامة، وبلغ ما بلغ من الولاية، فلا يمكن أن يكون أفضل ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصحابة لهم فضل الصحبة الذي لا يعادله أي فضل.
    فلا يصح ولا يمكن أن يأتي أحد فيزعم أن من التابعين -فضلاً عمن بعدهم- من يمكن أن يكون ولياً لله، فضلاً عن أن يأتوا ويقولوا: إن خاتم الأولياء هو رجل يأتي في آخر الزمان، في القرن السادس أو العاشر أو الثاني عشر إلى آخر ما ادعوا وافتروا في هذا.
    إذاً: هذا هو الترتيب بالنسبة لـأهل السنة والجماعة وهو واضح بحسب الفضل والقرون.