الولي لله عز وجل: هو كل إنسان مؤمن عبد الله سبحانه وتعالى كما سنبين، وهم في هذا على درجات عظيمة جداً نوضحها إن شاء الله، والله تبارك وتعالى يصطفيهم ليكونوا أولياء له رحمة منه بهم، واختياراً واصطفاءً وتكريماً لهم؛ لقربهم منه، أو تقربهم إليه، ولمحبتهم له، فهذا إحسان من الله تبارك وتعالى، ومنة وفضل على هؤلاء الأولياء، وليس بالمعنى المعروف أو المتداول عند المخلوقين، وهو أن الأولياء يكون بعضهم لبعض نصيراً، وتكون الولاية له لحاجة كل منهما للآخر، فالله تبارك وتعالى منزه عن هذا، كما قال تعالى في الآية من آخر سورة الإسراء: ((
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ))[الإسراء:111] هذه الأمور من خصائص الله عز وجل.أما الخلق فإنهم يتخذون الأولياء لحاجتهم إليهم من الملوك فمن دونهم؛ وذلك أنه كما وضح
شيخ الإسلام رحمه الله في رسالة
العبودية ، أنه قيل: أي الناس عبد للآخر، الولي الأدنى أو الولي الأعلى؟ لأنه كما قلنا: الولي يطلق على الأدنى -يعني: المتولى- فيقال له: ولي، ويطلق على المتولي، فيقال له: ولي، فإذا قلنا: هذا ولي لله كما جاء في الحديث: (
من عادى لي ولياً ) أي: متولى توليته، وإذا قرأنا قول الله تعالى: ((
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ))[البقرة:257] فهو هنا المتولي.إذاً: يطلق الولي على الأدنى وعلى الأعلى، المتولي والمتولى، فقالوا: بالنسبة لمن اجتمعوا وتحابوا وتآخوا على غير مرضاة الله، أيهما العبد وأيهما الحاكم؟ أي: أيهما المتولي وأيهما المتولى؟ أيهما المسترق وأيهما الحر أو الآمر؟ فقال بعض الناس: إن العبيد هم الأتباع، فقوم فرعون مثلاً كلهم أتباع، فهم عبيد، وفرعون هو المتحكم والولي والآمر والمتسلط عليهم، وقال البعض: لا، في الحقيقة إنا لو تأملنا لوجدنا أن فرعون هو العبد، وهو الذي يحتاج إليهم؛ لأنه لولاهم لم يكن ملكاً، ولما استطاع أن يدعي الربوبية، فهم السبب الذي جعله يدعي، فيهم ما يدعي ويقول ما يقول في نفسه أو فيهم، وهو محتاج إليهم، فلهذا لا يخرج عن مراضيهم وعما يريدون، وإن كان في الصورة هو الحاكم وهو الآمر، لكنه في الحقيقة هو العبد وهو المأمور، فبقدر ما يتسلطون وكما يريدون يعمل.يقول
شيخ الإسلام رحمه الله: (والتحقيق أن كلاً منهما فيه عبودية للآخر)، وهذا هو القول الصحيح، فهؤلاء المتسلطون من جنس فرعون وأمثاله، هؤلاء فيهم عبودية للأتباع؛ لأنهم بالفعل يراعون هؤلاء، ولا يعملون إلا ما يرضيهم غالباً، ويجتهدون في ذلك، فإذا أرادوا أن يعملوا عملاً ويعلمون أنه لا يرضيهم، مهدوا له بتغيير الحقائق لديهم، ونشر وبث ما يشعر أو يفيد بأن هذا أمر محمود، وأن عاقبته حسنة، وأن فيه من الخير والمصالح لكم ما فيه، حتى تتوطأ قلوبهم لذلك، فإذا فعلوا أو عرضوا عليهم ما يريدون وافقوهم عليه، فهم إذاً لا يعملون عملاً إلا ويراعون فيه ما سيقول الأتباع، ومن ذلك مثلاً: قصة
هرقل كما ذكر ذلك الإمام
البخاري رحمه الله وغيره، فإن
هرقل لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم عرف أنه الحق، فلما جمع الأتباع من البطارقة عنده وغيرهم وعرض عليهم الأمر، فحاصوا حيصة وتدافعوا نحو الأبواب، فوجدوا الأبواب مغلقة قد أحكمها سياسة منه، فأعادهم إليه، وقال: إنما فعلت ذلك لأمتحن دينكم، حتى أختبر عقيدتكم وأرى ثباتكم على دين
النصرانية ، فلما رأى أنهم لا يريدون هذا الدين رضخ لهم، مع أنه هو في نفسه لو خلي له الأمر لاختار الإسلام.إذاً: كثيراً ما يترك الملوك والسلاطين وهؤلاء المتسلطون والمتجبرون رغباتهم، أو يفعلون خلافها ويعملون برغبات الأتباع؛ لأنه في الحقيقة إذا انفض الأتباع لم تبق له أي قيمة، فهو بشر لا قيمة له كسائر الناس، فلو أن فرعون عندما قال: ((
أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ))[النازعات:24] قيل له: قف، كيف تكون ربنا والرب هو الخالق، وأنت معلوم عنك أنك ليس لك ولد؛ لأن الله تعالى جعله عقيماً، وهذا من حكمة الله عز وجل؟ كذلك لو كنت أنت الرب الذي خلقتنا لخلقت لنفسك ولداً، على كثرة ما أخذت من النساء وحرصت وتزوجت! ومع ذلك لم ترزق بولد.إذاً: لو كان لديهم عقول لقالوا ذلك لفرعون، ولو قالوه له لما ادعى الربوبية مرة أخرى، لما قال لهم: ((
مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ))[القصص:38] أبداً، فالذي يجعل الطواغيت يتسلطون ويتجبرون هم الأتباع، الذين ينعقون خلفهم، ويصدقون ما يقولون، حتى لو قالوا لهم: الشرق غرب والغرب شرق صدقوا ذلك. العبودية من المتبوعين أو المتسلطين للأتباع موجودة، وأما عبودية الأتباع للمتسلطين فهي أيضاً معلومة وظاهرة.فإذاً: كما قال
شيخ الإسلام : التحقيق أن كلاً منهما فيه عبودية للآخر. وكذلك كما ذكر رحمه الله عشاق الصور، الذين يبتليهم الله تعالى بالعشق -والعياذ بالله- حتى ينسى الإنسان عقله ودينه وخلقه، فإن الرجل لو عشق امرأة وفني في حبها حتى تمكن وتزوجها، فإنا نجد أنها تتحكم فيه وتسيطر عليه، مع أنه في الصورة هو الزوج الذي له القوامة، فلو تأملت لوجدت أن كلاً منهما محتاج للآخر، وكلاً منهما فيه عبودية للآخر.. وهكذا، فهي مشتركة من الطرفين.هذه هي محبة أو ولاية المخلوقين، أما الله تبارك وتعالى فهو الغني من كل وجه كما قال عز وجل: ((
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15].وكما قال: ((
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ))[آل عمران:97] فالله تبارك وتعالى غني عن العالمين، ليس بحاجة إلى طاعة مطيع، كما لا تضره معصية عاص، وذلك ما ذكره في الحديث القدسي الذي رواه
أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ) سبحان الله العظيم! هو ليس في حاجة أبداً إلينا، وهو الذي كل من في السموات والأرض عبد له، ((
كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ))[البقرة:116] إما عبودية اختيارية، كما هي عبودية المؤمنين، وإما عبودية اضطرارية، كما هي عبودية الكافرين، وكل ما خلق الله عز وجل فهو عبد لله، لا يخرج عن ملكه ولا عن تصرفه: ((
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ))[المدثر:31] فلا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، وبيده ملكوت كل شيء، وعنده خزائن كل شيء.إذاً: من كانت هذه هي صفاته وأسماءه الحسنى سبحانه وتعالى، فهو غني عن أن يتخذ ولياً من الذل، فأولياؤه إذاً هم خاصة من خلقه أو أناس من خلقه، تعبدهم الله عز وجل بأوامر فعملوها، فرض عليهم واجبات ففعلوها، ونهاهم عن محظورات فتركوها، فكانوا أولياء لله عز وجل، كما سيأتي في شرح حديث الولي.إذاً: هذا هو الفارق بين ولاية الله وبين ولاية المخلوقين.