قال: (وقوله تعالى: ((
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ))[يونس:62] أولياء: جمع ولي، فالمؤمنون أولياء الله) والله ولي المؤمنين، وكلا المعنيين حق، ومعنى أن المؤمنين أولياء الله: أي: المتقربون إليه والمحبون المطيعون له، وتأتي بمعنى النصرة، لكن بمعنى الناصرون لدينه ولأنبيائه، وإلا فهو سبحانه وتعالى غير محتاج إلى نصرة أحد، لكن كما قال الله تعالى: ((
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ ))[الحج:40] أي: ينتصر لدينه ولهداه ولوحيه وما بعث به رسله، يقول الشيخ: (فالمؤمنون أولياء الله) وبناء على هذا يكون هناك المؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليهم، والكفار أعداء الله، وهذا الكلام تحت أصل وهو: أن هناك ولاية وعداوة ثابتة، لكن هل يمكن أن نثبت ولاية أو عداوة على الإطلاق أم أنها نسبية؟ يمكن أن تكون على الإطلاق ويمكن أن تكون نسبية، لكن موضع الإشكال هو: هل نثبت ولياً مطلقاً وعدواً مطلقاً أم لا؟ أولياء الله بإطلاق: الأنبياء وحواريهم ومن كان من المقربين، وأعداء الله بإطلاق: الطواغيت والكفار والشيطان وأولياؤه، وقلنا: بإطلاق؛ لأن هناك من يحاول أن ينفي هذا في القديم وفي الحديث، فمن القديم:
الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور وليس له إرادة! فهو يعتذر لصاحب الذنب بالقدر، فإذا سئل: لماذا تعصي الله؟ يقول: قدر الله! وهذه الدرجة الدنيا من الجبر، وهي عامة على أفواه المسلمين العوام إلا من وفقه الله، فتجد أن أسهل ما يكون أن يحتج بأنه ما أراد الله وما قدر الله، وهذا الاحتجاج خطأ إن كان على المعصية، وذلك أنه إنما يحتج بالقدر على المصائب لا على المعايب، فهذا درجة، ويليه من ازداد ويقول: العباد ليس لهم إرادة كما قال
الجهمية ، فجعلوا العبد مثل الريشة في مهب الريح ليس له إرادة مطلقاً بحال من الأحوال، ونحن نجد أن العباد يفعلون أو يعملون الشر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (
أصدق الأسماء: حارث وهمام ) فلا يمكن أن تمر على العبد لحظة في حياته إلا وهو حارث أو همام، فإما أن يعمل أو يفكر في شيء وهكذا خلق الله البشر، ومذهب
الأشاعرة -مذهب معروف- يقول: بالكسب والقدر، فيقولون: إن الفاعل الحقيقي هو الله، ومهما فعل البشر شيئاً فهم على الحقيقة لم يفعلوا شيئاً، ونحن عندما ننسب الفعل إلى العبد فهذا مجاز عندهم؛ لأن العبد لا يملك قدرة ولا إرادة ولا أي شيء، وبالتالي فـ
القدرية الجبرية غلبوا جانب القدر، و
القدرية النفاة الذين قالوا: إن الله تعالى ليس له أي دخل في أفعال العباد، غلبوا جانب الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيقولون: الله تعالى لا دخل له إذا فعل العبد الذنب، فيجب أن يعاقب وأن يتحمل مسئولية فعله؛ لأنه فعل مريداً مختاراً راغباً غير راهب، فغلبوا جانب أمر الله ونهيه وشرعه ودينه وثوابه وعقابه ووعده ووعيده، مع أن الإيمان بها حق، لكن عندما تغلب فينسى القدر فهذا باطل وبدعة وضلال والعياذ بالله، و
الجبرية عكسوا ذلك فغلبوا جانب الصفات فقالوا: إن الله تعالى هو الفاعل والخالق، والمخلوق ليس له أي شيء؛ لأن الذي خلق فيه الإرادة والقدرة وأعطاه الأعضاء هو الله تعالى، إذاً: الفاعل هو الله، وهذا ضلال مبين، بل ربما يكون من بعض الوجوه -كما سنبين إن شاء الله- أشد ضلالاً من مذهب
القدرية النفاة ، وإن كان كلاهما ضلالاً لا ريب.إذاً: يأتي درجة من يقول: إن الفاعل هو الله، وتأتي بعدهم درجة أو دركة -لأنها في الحضيض- من يرون أن الأمر أعمق من ذلك، وليس فقط القول: إن الفاعل هو الله، وإنما يقولون: إن العاصي مطيع لله إلا بسبب أنه أتى بما أراد الله كوناً، أي: إن كان قد عصاه شرعاً فقد أطاعه كوناً، وهؤلاء في الحقيقة يصل بهم الحال إلى ما يسمى: شهود الحقيقة الكونية، ومن قرأ كتاب
العبودية لـ
شيخ الإسلام يجد ذلك، إذ إنه من شدة أو من عظيم إيمانه وتعظيمه وإجلاله لله، وإيمانه بأفعال الله وصفاته، وأن الخالق والمتصرف هو الله، وصل في نظره إلى إثبات الحقيقة الكونية وهو: إن كل ما يفعله البشر فهو من عند الله وبرضا الله وطاعة الله، وفي النهاية يقولون: لا موجود إلا الله! فانظر كيف تدرجت وانتقلت من: لا فاعل إلا الله، وأصبح يقول: ما دام ليس بفاعل إذاً ما قيمة أنه موجود؟! وهكذا البدع يؤدي بعضها إلى بعض، ويجر بعضها بعضاً؛ ولهذا قال أحد السلف: يحذر من صغار البدع؛ فإن صغار البدع تغدو كباراً والعياذ بالله، وهذه من البدع التي تكبر ثم تكبر، فإذا كان لا فاعل إلا الله -بزعمهم- فإذاً نصل إلى أن نقول: لا موجود إلا الله، والخلق هؤلاء ليس لهم وجود على الحقيقة، وبالتالي سيقول: أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات؛ لأنه قد شهد الحقيقة الكونية أو وصل إلى درجة اليقين كما يؤولون بتأويلهم الباطل قوله تعالى: ((
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ))[الحجر:99] فمتى ما وصل إلى اليقين، ورسخت في ذهنه الحقيقة الكونية يقول: أصبحت كل أعمالي طاعات، ومهما ترك من الواجبات أو ارتكب من المحرمات، وهذا ما يقولونه ويصرحون به. والشاهد في موضوع الولاية هنا: كيف تكون المناسبة بين هذا القول والقول: بأنه لا ولاية ولا عداوة مطلقاً؟ على هذا يصبح الخلق كلهم سواء فمن فعل الطاعة فالفاعل هو الله، ومن فعل المعصية فالفاعل هو الله، فالكل منفعلون له.وعليه؛ فعلام تلوم أحداً على كفر أو على ذنب؟ حتى ذكروا في أخبار
الحلاج الصوفي المقتول على وحدة الوجود أو الحلول مر برجل من المسلمين يقول لرجل يهودي: يا يهودي! يعيره وهو من أهل الذمة في
بغداد ، فغضب عليه
الحلاج غضباً شديداً، وعمله هذا مثل كثير من الكتّاب والصحفيين في هذا العصر، فلو سب واحداً من المسلمين لا يهم، لكن لو سب
اليهود فهذه مشكلة عظيمة، ثم قال له
الحلاج : لا تسبه. فقال له الرجل: ولم؟ فقال له: لأنك إذا قلت: إنه يهودي فقد أثبت له الاختيار، أي: أن اللوم يتوجه إلى من يختار، فإذا عيرته بدينه فقد أثبت له الاختيار، وكأنه هو الذي اختار أن يكون يهودياً، ثم ذكر أبياتاً من الشعر:
تفكرت في الأديان جداً محققاً فألفيتها طرقاً إلى شعب شتىأي: أن الأديان كلها طرق لها شعب شتى مختلفة، فهي مظاهر لشيء واحد وهو العبودية لله عز وجل، لكن كل يختلف في تعبده على الآخر، فالنصراني يعبد من خلال نصرانيته، واليهودي من خلال يهوديته، والبوذي من خلال بوذيته والعياذ بالله، وهذا من أجلى وأوضح أنواع الكفر، حتى إن
ابن عربي قال في قول الله تعالى: ((
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]: ومن الذي استوى، وعلى أي شيء استوى، وما ثم إلا هو، تعالى الله عما يصفون، أي: أن الخالق والمخلوق شيء واحد، حتى أنهم صححوا قول فرعون: ((
أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ))[النازعات:24]، فقالوا: كان ناطقاً بلسان الألوهية بقوله ذلك! فهؤلاء ليس عندهم كفر ولا إيمان، بل لا تقل: فرعون كافر وموسى مؤمن! إذ إن عندهم لا فرق، فعباد الأصنام عبدوها لتجلي الألوهية فيها، ومن يعبد الله يعبده كذلك، ومن يعبد الأولياء والأشخاص فلذلك، ومن عبد الكواكب فمن أجل ذلك، فالكل يريد شيئاً واحداً، وهذه أكثر صور الكفر بشاعة، وأجلى أنواع الكفر في العالم، وهي في الحقيقة ما عليها الديانة
الهندوسية ديانة الهندوس، إذ إنهم يعبدون كل شيء؛ لأنهم يعتقدون أن كل شيء هو الله، أو أن الله حال فيه تعالى الله عما يقولون؛ ولذلك حينما كانوا في
الهند يعبدون الفيلة والبقر وغيرها، ثم جاء الإنجليز واحتلوا
الهند فمدوا القطارات، فصار الهنود يتجمعون ويعبدون القطارات! وأصبحوا يسجدون للقطار، وهكذا كل شيء جديد -في نظرهم- يعبدونه على أساس أن سر الألوهية وحقيقة الربوبية فيه! فهذه العقيدة
الهندوسية الباطلة تفشت بين المسلمين، أو من يدعون الإسلام وهم ليسوا في الإسلام في شيء، وذلك بدعوى أن هذه هي حقيقة شهود الحقيقة الكونية والإيمان بالله حق الإيمان.