المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63]، الآية، الولي: من الولاية -بفتح الواو- التي هي ضد العداوة، وقد قرأ حمزة (مَا لَكُمْ مِنْ وِلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، بكسر الواو، والباقون بفتحها، فقيل: هما لغتان. وقيل: بالفتح النصرة، وبالكسر الإمارة، قال الزجاج : وجاز الكسر؛ لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكل ما كان كذلك مكسور، مثل: الخياطة ونحوها. فالمؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليهم، قال تعالى: (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ))[البقرة:257]، الآية، وقال تعالى: (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ))[محمد:11]، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، قال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[التوبة:71] الآية، وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))[الأنفال:72] إلى آخر السورة، وقال تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ))[المائدة:55-56].
فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء لله، وأن الله وليهم ومولاهم، فالله يتولى عباده المؤمنين، فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له ولياً فقد بارزه بالمحاربة، وهذه الولاية من رحمته وإحسانه ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه، قال تعالى: (( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ))[الإسراء:111]. فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل لله العزة جميعاً، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذله وحاجته إلى ولي ينصره]
.
إن موضوع الولاية والأولياء موضوع مهم جداً، ولا سيما في العصور المتأخرة، حيث اختلط الحق بالباطل، أو التبس الحق على الناس، وارتكبت كثير من الكبائر الاعتقادية أو العملية باسم الولاية، وخرج كثير عن الصراط المستقيم كلية أو جزئياً بدعوى الولاية، ولو أن أحداً رحل إلى أرجاء العالم الإسلامي وطاف بأنحائه لرأى البدع والقباب المشيدة على القبور والأضرحة التي يدعى أهلها، ويعظمون ويقدسون من دون الله، وغير ذلك من مظاهر الشرك أو ذرائعه، ثم أراد أن يجمل سبب ذلك كما يسمعه من أفواه من يترددون إليها أو ممن يعظمونهم، لكان من أوفى وأجمع العبارات أو الكلمات أو الدعاوى: دعوى الولاية، حتى أنه لو قيل لك: إن في القرية الفلانية ولي، فستفهم أن هناك قبراً يزار ويعبد ويعظم على غير ما شرع الله تبارك وتعالى.
وكلمة (الولي) اليوم أصبحت علماً على الشرك والضلال والبدعة والعياذ بالله، وأصبح من يدعو إلى توحيد الله، ونبذ عبادة ما سوى الله تبارك وتعالى، وإرشاد الناس إلى التوحيد الذي هو حق الله تبارك وتعالى على العبيد، وتحذيرهم من أعظم الظلم وأكبر الكبائر وأشد الموبقات وهو الشرك بالله تعالى، أو من الذرائع المفضية والموصلة إلى ارتكابه؛ فإنه سرعان ما ينبذ وينبز، ويقال: إنه يكره الأولياء، وإنه ضد الأولياء، وإنه لا يحب الأولياء، وينكر ولاية الله، بل وتجد العامي من المسلمين الذي يجهل كثيراً من أمور دينه، وقد لا يحفظ من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً، إذا حذرته من هذه الضلالات وقلت له: كيف تفعلون هذا؟! تجده يقول لك: ألم تسمع قول الله: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63]! ويظن أنه إذا قرأ عليك هذه الآية فهي جواب كاف مقنع، فتسكت وتقره على ما هو عليه؛ لأنه يقول: هؤلاء أولياء الله، وكما تقدم في موضوع التوسل فهم يقولون: ما دام أن هذا ولي، وأنا لا أستطيع أن أصل إلى الله تعالى، أو أدعو الله بمفردي لكثرة ذنوبي ومعاصي، فأنا أتوسل إلى الله بالولي، وبالتالي فيفسرون كل هذه الشركيات بأنها توسل أو وسيلة، وهكذا باسم الولاية والتوسل بالأولياء يبررون الشرك الأكبر الذي يحبط العمل؛ بل يخرج صاحبه من الملة فيخسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله؛ ولذلك فمن المهم جداً أن نعرف حقيقة الولاية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح، ومن هو الولي؟ وهل الولاية تطلق على شيء يختلف عن النبوة أم هي من صفات أتباع الأنبياء، أو الأنبياء وأتباعهم؟ وهل الناس درجات في الولاية أم أن الولاية تختص بأقوام معينين؟ ومن هم الذين لا يمكن أن يكونوا أولياء وإن كانوا في عداد المسلمين، بل في عداد المعذورين الذين رفع عنهم التكليف ونحو ذلك؟ وسنضرب الأمثلة مع الأدلة الشرعية على الأمور التي لا بد من بيان الأدلة فيها من كلام هؤلاء الصوفية المعظمين بفهمهم للأولياء الذين يعبدونهم ويدعونهم من دون الله، ويضفون عليهم صفات الألوهية وخصائص الربوبية، وسنأتي بشواهد من كلامهم وأحوالهم ونظرتهم إلى أوليائهم؛ ليتبين للعاقل الذي يريد الحق، وبه يهدي ويعدل وينصف من نفسه من أن هؤلاء ليسوا من هذا الدين في شيء والعياذ بالله، وأن عبادتهم أو تهجدهم أو تنسكهم أو صيامهم أو ترهبهم ليس على شيء؛ لأنهم أخلوا بالأساس الذي لا يمكن أن يصح أي عمل بدونه، ألا وهو توحيد الله تبارك وتعالى، وإخلاص العبودية له ظاهراً وباطناً، ودون هؤلاء من خلط الحق بالباطل، والبدعة بالسنة، وإلى ذلك أشار الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع، فالولاية شبيهة بالإيمان؛ لأن موضوع الإيمان والولاية وكل أعمال القلب -كما تقدم- متقارب، فهي شبيهة بالإيمان من جهة أن الرجل قد يكون فيه ما يوالي له من جانب، وما يعادى له من جانب، فيجتمع فيه كونه ولياً وكونه غير ولي على ما سنبين إن شاء الله.
  1. معنى الولاية

    ذكر الشارح رحمه الله تعالى (أن الولي: من الولاية) -يريد أن يعرفها لغة- (بفتح الواو، التي هي ضد العداوة، وقد قرأ حمزة: (ما لكم من وِلايتهم من شيء) بكسر الواو، والباقون -أي: بقية القراء- بفتحها، فقيل: هما لغتان) وهذا كثير ما تفسر القراءات به، فتكون القراءة على لغة من لغات العرب، وعلى هذا تصح كلا القراءتين أو كلا المعنيين لغة، فيجوز لك لغةً أن تجعل إحداهما مكان الأخرى، فتقول: ولاية -بفتح الواو- وولاية -بكسر الواو الثانية- لكن إذا كنت ممن يقرأ بقراءة معينة فتلتزم بها، وإن كان يجوز لك أن تلتزم قراءة قارئ آخر، فتقرأ بها وإن خالفت قراءة ذاك.
    وعليه؛ فإن أصل الخلاف في القراءة إنما هو في اللغة وهذا واقع، فإن الله سبحانه وتعالى يسر القرآن للذكر فأنزله على سبعة أحرف، فتكون قراءتان كل منهما تدل على نفس المعنى، وذلك إذا كانت الكلمة في سياق واحد؛ فإنه غالباً يكون المعنى الذي يفسر به واحد، وما دام تفسيرها واحداً مع الاختلاف في الحركة -الفتح أو الكسر أو غيرها- فإن المعنى واحد، فهما لغتان تدلان على معنى واحد، وإن كان أحياناً يكون اختلاف اللغة أو اختلاف القراءة يسبب اختلافاً في التفسير وفي المعنى، يقول: وقيل: (بالفتح النصرة، وبالكسر الإمارة) أي: أن من أعظم معاني الولاية النصرة، فإذا قلت: فلان ولي فلان، أي: نصيره ينصره ويؤيده، إذا قالت العرب: الولاية -بالفتح- فتعني بها النصرة والتأييد، وإذا قيل: الولاية -بالكسر- فيعنون بها الإمارة، كما إذا قيل: فلان عين فلاناً على ولاية الشام ، أو تولى فلان ولاية الشام أو ولاية العراق، أي: تولى إمارتها. قال: (وقال الزجاج) -وهو من أئمة اللغة المعروفين المشهورين-: (وجاز الكسر) أي: كأنه يرى أن الأصل هو الفتح، ثم قال: (لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكل ما كان كذلك فمكسور، مثل: الخياطة ونحوها) أي: أن عادة العرب أن تجعل كثيراً من الصنائع على وزن فعالة -بكسر الفاء- فتقول: الأصل في الصناعة أن تكون على زنة فعالة، فنقول: الحرافة الزراعة الحياكة الخياطة التجارة الصناعة الطبابة النجارة الحدادة الطباعة، وهذا قياس في اللغة، وعلى كل حال فهذا تخريج فلسفي -إن صح التعبير- من الزجاج رحمه الله، فهو من المتأخرين وقد حاول أن يفلسف ورودها أو يخرجها بهذا الشكل، فالأصل الفتح، لكن جاءت على زنة (فعالة) لما فيها من جنس الصناعة، أي: كان هذا المتولي للآخر اتخذ ذلك حرفة أو مهنة له من جنس الصناعة والعمل، يقول: (الولي: من الولاية التي هي ضد العداوة) وهذا الموضوع غير مترابط، لكن لا بأس، فـشيخ الإسلام رحمه الله في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كعادته يسترسل في الكلام، وتتداخل النصوص والأدلة مع اعتراضات الخصوم ورد الشبهة، ثم يرجع إلى المعنى الأصل، ثم يستطرد أحياناً، ثم يرجع وهكذا، فهو رحمه الله مثل البحر أو النهر المتدفق من كل جهة، فيتكلم عن مسائل حديثية ولغوية وأصولية، وما يقوله أهل وحدة الوجود والحلول والاتحاد والفقراء والصوفية ، وكل ذلك بعضه يمكن مع بعض.
    قوله: والولي. مشتق من الولي -بفتح الواو- وهو الدنو والقرب، يقال: وَلي يلي، قال ابن مالك في المصادر:
    فَعلٌ قياس مصدر المعَدَّى             من ذي ثلاثة كعدَّ عدَّ
    فالفعل الثلاثي المتعدي دائماً مصدره -فعل القياس- على وزن فعل، وفي هذا دليل على أن الشذوذ كثير في اللغة العربية خاصة في المصادر، وبالتالي يكون وزن فعل من وَلي: ولي، وليس الولاء أو الموالاة أو الولاية، وإن كانت أيضاً هي مصادر، لكن أصل الكلمة ثلاثي: ولي.
    فإذاً: (وَلِي) على وزن (فَعِل) إذا كان مشتقاً من الوَلْي -بفتح الواو- وهو الدنو والقرب، وهذا الذي نحن نستخدمه، فنقول: فلان يلي فلاناً، أي: قريب منه، و(ولي الله) هو من والى الله بموافقته في محبوباته، و(الولي) أو المتقرب إلى الله تبارك وتعالى هو الذي يطلب أو يرغب بعبادته ولاية الله؛ ولهذا تكون كلمة (الولي) من معانيها: الداني المتقرب، والنصير والمؤيد؛ ولذلك يطلق على الله تبارك وتعالى في القرآن أنه (ولي) ويطلق على العبد أنه (ولي) فهما من الأضداد، فهي في حق الله باعتبار كذا، وفي حق المخلوق باعتبار آخر، فإذا قرأنا قوله تعالى: (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ))[البقرة:257]، أي: ناصرهم ومؤيدهم ومعينهم، وقوله: (( وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ))[محمد:11]، أي: لا ينصرهم ولا يؤيدهم، وإن كان قد يقال: لم ينف عنهم الولاة مع أن الشيطان وليهم؟ وهل ينصر الشيطان أولياءه على الحقيقة؟ لا، وإنما يزين ويوسوس لهم، ويعدهم ويغرهم ويمنيهم، وهو في الحقيقة لا ينصرهم ولا يملك ذلك، أما الله تبارك وتعالى فإنه مالك الملك، وبيده النصر والتأييد، فهو الذي يؤيد بنصره من يشاء، وهو ولي الذين آمنوا وناصرهم.