المادة كاملة    
لا يزال الكلام متواصلاً في هذا الدرس عن صفة الحوض، وذكر أقوال أهل العلم في أيها قبل الآخر: الحوض أم الصراط أم الميزان؟ وقد اشتمل هذا الدرس أيضاً على ذكر ذود أناس من أمته صلى الله عليه وسلم عن الحوض وطرق تخريج الأحاديث في هذا، ثم استطراد في الرد على من يزعم أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، مع بيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لا في حياته ولا بعد موته إلا ما أطلعه الله عليه في حياته، ثم ورد ذكر خلاف العلماء في الحوض وهل هو ثابت لنبينا خاصة أم له ولغيره؟ وذكر سبب اختلاف العلماء في هذا، وهل سيكون الحوض في هذه الأرض الموجودة الآن أم في غيرها؟
  1. مقدمة في الكلام على الحوض

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يختلج عنه، ويمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط، وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أنا فرطكم على الحوض } والفرط الذي يسبق إلى الماء.
    وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً ليردن على أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم.
    قال أبو حازم فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدث هذا، فقال: هكذا سمعت من سهل؟
    فقلت: نعم.
    فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها فأقول: إنهم من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي}
    سحقاً: أي بعداً، والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض: أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة، من نهر الكوثر، الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع، عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر.
    وفي بعض الأحاديث: {أنه كلما شُرب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في حالٍ من المسك والرضراض من اللؤلؤ وقضبان الذهب ويثمر ألوان الجواهر} فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء.
    وقد ورد في أحاديث: {إن لكل نبي حوضا وأن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، أعظمها وأجلها وأكثرها واردا } جعلنا الله منهم بفضله وكرمه .
    قال العلامة أبو عبد الله القرطبي -رحمه الله تعالى- في التذكرة: واختلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر؟
    فقيل: الميزان وقيل: الحوض.
    قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل . قال: القرطبي: والمعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم، فيقدم قبل الميزان والصراط قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب كشف علم الآخره: حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله قال القرطبي: هو كما قال، ثم قال القرطبي: ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم، ولم يظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله، لفصل القضاء . انتهى، فقاتل الله المنكرين، لوجود الحوض، وأَخْلِقْ بهم أن يُحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر ] إهـ.

    الشرح:
    قد سبق الحديث عن الحوض لما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، وذكرنا بعض من خالف فيه، وهل الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أم أنَّ لغيره من الأنبياء حوضاً؟
    وتعرضنا للقول في كثرة الطرق التي ورد منها، والروايات التي كثر فيها إثبات الحوض، فهو متواتر من حيث كثرة من رواه من الصحابة فمن بعدهم، وكذلك شرحنا الأحاديث التي ذكرها المصنف هنا.
    ومنها: حديث أنس الذي رواه البخاري، والإمام أحمد رحمه الله تعالى.
    والرواية الأخرى التي أخرجها مسلم من حديث أنس في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) [الكوثر:1] .
    ثم بعد ذلك يبين المصنف رحمه الله تعالى، معنى [ يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض]، وقد بينا أن المراد بذلك أن الكوثر نهر عظيم في السماء السابعة كما في حديث الإسراء والمعراج في الرواية الصحيحة، وليس في السماء الدنيا كما ورد في رواية شريك بن عبد الله، وهذا النهر من أعظم أنهار الجنة، ومعنى يشخب: أي يصب منه ميزابان فينزل ذلك الماء من الجنة إلى أرض المحشر، ويتكون من الميزابين الحوض الذي ترده هذه الأمة، وأول من يرده منها نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أول الواردين على الحوض، وتأتي أمته تباعاً له لتشرب وترد منه، ثم يذاد عنه من يذاد كما سبق.
    والصراط: هو جسر منصوب على متن جهنم، ويعبر الناس عليه بحسب أعمالهم، وفيه كلاليب تختطف من يعبر عليه ممن كتب الله تبارك وتعالى عليه الشقاوة والعذاب، ودعوى الأنبياء في ذلك اليوم حين عبور الناس للصراط {اللهم سلم سلم} فمن نجى منه فقد زحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن اختطفته تلك الكلاليب وقع في النار، هذا أحد الأهوال والمواقف التي لا بد منها يوم القيامة للناس جميعاً.
  2. خلاف العلماء في أيهما أقدم الحوض أم الصراط

     المرفق    
    اختلف العلماء هل الحوض يكون بعد الصراط أم قبله؟
    1. القول الأول

      من المعلوم أنه قد جَاءَ في أحاديث الحوض الثابته أنَّ قوماً يذادون ويردون، فإن كَانَ هَؤُلاءِ الذين يذادون عن الحوض من أهل النار، فكيف نجو من الصراط ولم تختطفهم الكلاليب، ثُمَّ بعد ذلك يذادون ويطردون من الحوض ويُقال لهم سحقاً سحقاً، أو بعداً بعداً؟
      فهذا يقتضي أن يُقَالَ: إن الحوض قبل الصراط، والذين يذادون عن الحوض يردون بعطشهم، ثُمَّ أثناء اجتياز الصراط تخطفهم الكلاليب، فيكونون من أصحاب النار، هذا هو ما قاله بعض العلماء لمقتضى الأحاديث.
    2. القول الثاني

      وذهب بعض أهل العلم إِلَى عدم ذلك، ولم يثبت في ذلك حديث صريح ولا قولٌ لأحد من الصحابة أو علماء الأمة المتقدمين، وإنما هذا اختلاف من العلماء، كـالقاضي عياض وأبي طالب المكي والقرطبي والغزالي والسيوطي والحافظ ابن حجر وأمثالهم رحمهم الله.
      والعلماء الذين يرون أن الحوض بعد الصراط يقولون: إنه قد ثبت في الأحاديث أن الحوض يشخب فيه ميزابان من نهر الكوثر الذي في الجنة، فمعنى ذلك أن النَّاس بعد أن يجتازوا الصراط يقفون في أرض دون الجنة يشخب فيها هذان الميزابان، فالنهر الذي في الجنة هو الكوثر، والميزابان يصبان منه في أرض المحشر في الحوض، ويكون النَّاس قد اجتازوا الصراط ولكنهم لم يدخلوا الجنة بعد، وإنما بعد ما نالهم من النصب والتعب في الموقف وفي الحساب، وأثناء الأهوال العظيمة التي تقع لهم، واجتياز الصراط، فإنهم حينئذ يشربون ثُمَّ يدخلون الجنة ولم ينظروا إِلَى مصير الذين يذادون أول الأمر، بل يقولون: يقتضي الأمر أن تكون أرض الحوض قريبة من الجنة فيصب الميزابان من الكوثر الذي في الجنة إِلَى أرض الحوض، وهذا يقتضي أن الحوض بعد الصراط.
    3. القول الثالث

      وقال بعض العلماء لما رأوا المسألة تحتمل هذا وذاك: نجمع بين الأحاديث بأن هذا الحوض كبير وعظيم، ومنه ما هو قبل الصراط، ومنه ما هو بعد الصراط، وأن ذلك بحسب أعمال الناس، فمن النَّاس السعيد من السابقين المقربين، فهَؤُلاءِ يشربون ويجتازون -أو العكس- ولا يتوقفون. وأما الآخرون الذين لهم ذنوب فإنهم قد يشربون، ولكن تخطفهم بعد ذلك الكلاليب، فيعذبون في النار، أو أنه من شدة الحساب يحجزون بعد أن يطردوا من الحوض، ثُمَّ أثناء عبور الصراط تخطفهم الكلاليب، أو يعفوا الله عمن شاء منهم، وقد طُرِدَ من الحوض، لكنه يضل بعطشه، كأن ذلك من ضمن أهوال الموقف، وهو أن هَؤُلاءِ لا يشربون من الحوض؛ بل يذادون ويطردون، ولا يعني ذلك أنهم لا يغفر لهم، أو أنهم لا يجتازون الصراط.
    4. بيـان الراجح في هذه المسألة

      الحقيقة أن هذه المسألة ليس فيها نص قاطع، وهي تحتمل هذا وذاك، وهي من أمور الغيب التي لا يجوز الخوض ولا القول فيها بالظن، ولا بمجرد الاستنباط الذي يبدو لصاحبه رجحانه، ولو دقق فيه لتبين خلافه، ولهذا لو قيل في هذه المسألة: إن الأرجح فيها هو التوقف، وأن يُرَّد علم ذلك إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيُقال في ذلك: الله أعلم، فنسبة العلم إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أسلم، فهذا الذي نميل إليه ونختاره، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
  3. أهمية ذكر الحوض

     المرفق    
    وما دام أنه لم يثبت في الحوض هل هو قبل الصراط أم بعده نص صريح ولا يترتب عليه كبير فائدة، فإن العبرة والموعظة قائمة سواء كَانَ ذلك قبله أو بعده، وسنكمل ما يتعلق بذلك عندما نتعرض لكلام العلامة القرطبي في الأخير، لأن المُصنِّفُ فصَل الكلام هنا، فذكر بعضه وأشار إليه في الأول، ثُمَّ أكمل في الآخر.
    فقال رَحِمَهُ اللهُ: [والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يُختلج عنه، ويُمنع منه أقوام قد ارتدَّوُا عَلَى أعقابهم، ومثل هَؤُلاءِ لا يجاوزون الصراط] هذا هو الرأي الذي اختاره المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ:
    [وروى البُخَارِيّ ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قَالَ: سمعت رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {أنا فَرَطُكُم عَلَى الحوض}.
    قَالَ: والفَرَطُ الذي يسبق إِلَى الماء.].
    هذا الحديث متفق عَلَى صحته، ورواه أيضاً الإمام أَحْمَد وغيره وفيه الدلالة عَلَى أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو صاحب الحوض وهو أول من يرد عَلَى الحوض، فالفرط هو المقدمة أو الأول، وفي هذا دليل عَلَى ثبوت الحوض، وقَالَ: [وروى البُخَارِيّ عن سهل بن سعد قَالَ: قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنا فرطكم عَلَى الحوض ثُمَّ قَالَ: من وَرَدَهُ شرب منه}] وهناك خلاف في الألفاظ حسب الروايات {ومن شرب منه لم يظمأ أبدا} فمن ورد الحوض سمح له بأن يشرب منه، فإذا شرب منه فإنه لا يظمأ بعد ذلك أبدا، والكيزان: جمع كوز، يعني: آنيته، كما ورد ذلك في الروايات، كعدد نجوم السماء، فهو عَلَى سعته وكبره وحجمه فيه من الآنية بعدد نجوم السماء، أعداد لا يعلمها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    1. هل يسقي النبي صلى الله عليه وسلم الناس بيده

      وليس في هذه الروايات أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسقي النَّاس بيده الشريفة، كما يزعم بعضهم فيدعو ويقول: (اللهم اسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا) فهذا لم يرد في حدود ما اطلعت عليه من الروايات، هذا من جهة النص.
      ومن جهة النظر، فكأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وحده وبيده الشريفة يسقي هَؤُلاءِ الناس، وبهذا العدد الكبير وعلى هذه السعة العظيمة، ثُمَّ إن ذلك لا يتناسب مع مقام النبوة، فكأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو سقاء يسقيهم الماء مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أول من يرد، والحوض حوضه.
      ولا يقتضي إعطاءه الحوض أنه يسقي النَّاس بيده، وإنما هو صاحبه الذي يتقدم أمته ثُمَّ يُسر برؤيتهم وهم يشربون مع كثرتهم، وهم يردون من هذا الخير العظيم الذي أعطاه الله إياه، وأكرمه به ويتألم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ما يرى أن قوماً يذادون، إذاً هو لا يسقي لأن التصريح جَاءَ بأنهم يردون ويشربون، وهَؤُلاءِ يطردون؛ بل يذادون.
    2. ذود أناس من أمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض

      قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث سهل {أنا فرطكم عَلَى الحوض من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا ثُمَّ قَالَ: ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثُمَّ يحال بيني وبينهم} وهذه الرواية تصريح بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرفهم وأنهم يعرفونه.
      وقد سبق أن قلنا: إن الذين يذادون عن الحوض إن كانوا من عموم أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يقول: {أمتي أمتي} فذلك محتمل أن يذاد أناس من عامة الأمة، وهو أمر واقع ممن ينتسبون إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى أمته، ولو بعد وفاته بقرون، وهَؤُلاءِ ليسوا من أمته في الحقيقة بل هم مبدلون ويعرفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلامات التي يعرف بها أمته، أو يكون هذا الحوض له ولأمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحينئذ يتعجب أو يستغرب، لماذا يذادون؟
      وأيضاً كونهم ممن رآهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورؤه، فهذا الاحتمال أيضاً وارد، ولا تعارض بينهما، ولا ينفي ذلك كما سبق، أو لا يقتضي ما يقوله أهل البدع من الروافض وأشباههم من أن بعض الصحابة ارتدوا بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عرف أقواماً، ثُمَّ ارتدوا بعد وفاته، وهَؤُلاءِ ليسوا من الصحابة ولا يشملهم اسم الصحبة، كما وقع ذلك من مسيلمة الكذاب وغيره من المرتدين، فينطبق عَلَى هَؤُلاءِ قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أعرفهم ويعرفونني، ثُمَّ يُحال بيني وبينهم}، وظاهر الفاعل المجهول للفعل "يحال" أنهم ملائكة العذاب يذودون ويطردون أهل الشقاوة، الذين لم يكتب الله لهم ورود الحوض.
    3. ذكر طرق أحاديث الحوض

      سبق ذكر كلام ابن حجر أنه قَالَ: "أحصيت نحو خمسين أو زدت عليها".
      ومنهم من قَالَ: إنها ثمانين، والحديث روي عن عدد من الصحابة وبعض الرواة قد يزيد أو ينقص بحسب الرواية وبحسب المجالس، فقد يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدث بذلك في مجالس متعدده، فلما سمع أبو حازم هذا القدر من الحديث عن النعمان بن أبي عياش قَالَ: هكذا سمعته من سهل قَالَ: نعم.
      قال أبو حازم: وأنا أشهد عَلَى أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه -أي: في موضوع الحوض- أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنهم مني أي هَؤُلاءِ من أمتي، فلماذا يذادون عن الحوض قَالَ: فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، أي أنت تعرفهم ويعرفونك، وهم منك عَلَى عهدك عَلَى حد علمك، وأنت في الدنيا، ولكنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
    4. هل النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ في قبره ؟

      وفي الحديث السابق دليل عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب، وليس كما يقول أهل البدع: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي في قبره حياة حقيقية، وأنه بجسده وروحه يجوب الأرض ويطلع عَلَى أحوال الْمُسْلِمِينَ ويعرفها ويشفع ويفعل.. وغير ذلك مما يبتدعون، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو أنه يعلم بعد موته، لكان أول ما يعلم ما وقع من الردة، فإنها أمر عظيم وخطب جلل كبير، كيف يلتحق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرفيق الأعلى بعد أن جمع الله تعالى جزيرة العرب كلها تحت لواء الإيمان، وأطاعت وانقادت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يموت وإذا بكثير منها من الشرق واليمن يرتدون حتى أنه لم يثبت الثبات الكامل إلا الطائف ومكة والمدينة وبنو عبد القيس، إذاً الموضوع مهم، فكان هذا من أول ما ينبغي أن يعلمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأنه قريب عهد به؛ لأن الردة كانت بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      إذاً.. فالقول بأنه يطلع عَلَى أحوال الأمة وهو حي في قبره حياته العادية من قول أهل الضلال الذين يريدون أن يجعلوا ذلك ذريعة إِلَى الشرك من دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاستغاثة به من دون الله فيوقعون الأمة في الشرك الأكبر الذي جَاءَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميع الرسل لمحاربته، وللدعوة إِلَى توحيد الله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    5. النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب

      وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه، وهذا في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد وفاته فإنه لم يبق له في هذا العالم تأثير، وإنما بقيت رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمانة في عنق الأمة يجب عليهم أن يتمسكوا ويقتدوا بها، فقد تركنا عَلَى المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولم يتركنا للأوهام والظنون والتخرصات والافتراءات، وإن كَانَ المقصود بها تعظيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أعظم تعظيم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن يطاع أمره، وتتبع سنته، ويحب حباً لا يقدم عليه حب شيء من المخلوقات.
  4. صفة الحوض

     المرفق    
    والأحاديث التي وردت في الحوض، رواها جمع غفير من الصحابة، ووردت بطرق كثيرة، وورد بعضها ضمن أحاديث القيامة والمحشر، فأراد المُصنِّفُ أن يجمع الكلام في الحوض، فقَالَ: [والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض، أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك].
    ونهر الكوثر وردت فيه بذاته أحاديث منها الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد، وكذلك رواه الإمام مسلم: حديث أنس بن مالك الذي تقدم {((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ))[الكوثر] ثُمَّ قال لأصحابه: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: هو نهر أعطانيه ربي عَزَّ وَجَلَّ في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنيته عدد نجوم السماء، يختلج العبد منهم ...}
    وفي حديث الإسراء المتقدم: نهر عظيم في الجنة، وفي أحاديث أخرى وصفت ماءه بأنه أشد بياضاً من اللبن، وأنه أبرد من الثلج، وأحلى من العسل؛ وأطيب ريحاً من المسك، وكما ورد في الحديث الذي تقدم أيضاً أنه يشخب أي يصب ميزابان من هذا النهر فيكونَّان الحوض.
    وفي عرض الحوض ذكر المُصنِّفُ ما رواه البُخَارِيّ عن أنس قَالَ: {إن قدر حوضي كما بين أيلةإلى صنعاء}، وهذه من أرجح الروايات وأكثرها شهرة.
    وفي رواية {ما بين جرباء وأذرح}، وهاتان الروايتان هما الأكثر والأشهر والله أعلم.
    وفي رواية أخرى: {ما بين أيلة إلى مكة}.
    وفي رواية بين عدن وفي بعضها عُمان وفي بعضها بصرى.
    اختلفت تلك الروايات، فقيل: هو إما بحسب السرعة، أو بحسب الاتساع، أو بحسب اختلاف الصحابة في السماع، أو بحسب اختلاف من بعدهم أيضاً في النقل، وما أشبه ذلك، فمن هذه الروايات نفهم أن الحوض في غاية الاتساع.
    يقول المصنف: [وفي بعض الأحاديث أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع] أي: لا ينقص ذلك منه شيئاً، وهكذا حال الجنة فإن نعيمها لا ينفذ أبداً كحال هذه الدنيا التي ينفد ما فيها من الخير وإن كَانَ كثيراً، أما الجنة فإن أكلها دائم وظلها، لا ينفد شيء من نعيمها ولا ينتهي، وأنه ينبت في حالٍ من المسك -أي ينبت المسك فيه- والرضراض في لغة العرب هي: الحصى الصغيرة، وهي من اللؤلؤ يجري هذا النهر فوقها، [وأنه يثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء، ولا تنفد خزائنه، ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [يّـس:82].
  5. اختلاف العلماء ! هل الحوض ثابت لنبينا وحده أم له ولغيره

     المرفق    
    ثُمَّ قَالَ: [وقد ورد في أحاديث {أن لكل نبي حوضاً وأن حوض نبينا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظمها وأحلاها وأكثرها}].
    وقد سبق أن ذكرنا أن الاختلاف واقع في الحوض هل هو خاص بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أم ثابت لغيره؟
    1. سبب الخلاف

      إن سبب الخلاف يرجع إِلَى الخلاف في ثبوت الأحاديث، وإن كَانَ الأظهر -على قاعدة المحدثين- أن الحوض خاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن حديث {إن لكل نبي حوضاً} قال فيه التِّرْمِذِيّ إن المرسل أصح، أي: أنه ورد مرسلاً صحيحاً، ورفع هذا الحديث لا يصح.
      وأيضاً الرواية الأخرى فيها ضعف ذكر هذا الأرنؤوط فقَالَ: أخرجه التِّرْمِذِيّ: في صفة القيامة، باب ما جَاءَ في صفة الحوض من حديث سمرة بن جندب قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن لكل نبي حوضاً وإنهم يتباهون أيهم أكثر وارده، وأني أرجو أن أكون أكثرهم وارداً} يقول: قال التِّرْمِذِيّ ورد مرسلاً والمرسل أصح هذا الذي في التِّرْمِذِيّ، ثُمَّ يقول: (وذكر الهيثمي في المجمع قَالَ: ورواه الطبراني وفيه مروان بن جعفر السُمري وثقه ابن أبي حاتم، وقال الأزدي: يتكلمون فيه، وبقية رجاله ثقات).
      أما الشيخ الألباني فقَالَ: حديث حسن، أخرجه التِّرْمِذِيّ وقَالَ: غريب، ثُمَّ ذكر أنه ورد مرسلاً، وقَالَ: وهو أصح، ورواه الطبراني أيضاً كما في المجمع وقَالَ: (وفيه مروان بن جعفر السمري وثقه ابن أبي حاتم، وقال الأزدي: يتكلمون فيه وبقية رجاله ثقات، ثُمَّ وجدت ما يقوي الحديث فخرجته في الصحيحة...) اهـ.
      فلا بأس بالأخذ بأحد القولين: قول من يرى بأن هذه الطرق الضعيفة يجبر بعضها بعضاً، فيثبت بها أنَّ لكل نبي حوضاً، وقول من يرى بأن هذه الطرق ضعيفة جميعاً وبأن الاختصاص في قوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) [الكوثر:1] فيه إشعار بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فُضل أو خصص بذلك من دون الأَنْبِيَاء.
    2. الترجيح بأن الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم

      وإن كنا قد نميل إِلَى القول بأن هذا اختصاص بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا نحرج عَلَى من يقول: إن الروايات تجبر بعضها بعضاً، وإن للأنبياء أحواضاً بناءاً عَلَى ذلك، فإن هذه من الأمور المحتملة التي لا ينبغي أن تكون مثار النزاع.
    3. اختيار الحافظ ابن حجر

      أما الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ فكأنه توقف في المسألة، ولم يرجح أو لم يرَ أنها تستدعي أن يقف عندها، والله أعلم.
  6. هل الحوض قبل الميزان أم العكس

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [قال العلامة أبو عبد الله القرطبي -رَحِمَهُ اللهُ- في التذكرة: واختلف في الميزان والحوض أيهما يكون قبل الآخر، فقيل: الميزان وقيل: الحوض] ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ يتحدث عن الميزان، ثُمَّ عقبه بالصراط فقَالَ: [قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل، قال القرطبي: والمعنى يقتضيه فإن النَّاس يخرجون عطاشاً من قبورهم -كما تقدم فيقدم- قبل الميزان والصراط] هذا كلام القرطبي.
    ويريد أن يقول: إننا إذا نظرنا إِلَى المعنى بالعقل، فإنه يقتضي أن يكون الحوض قبل الميزان وقبل الصراط ووجه ذلك بأن النَّاس يخرجون عطاشاً من قبورهم، فيقتضي ذلك أن يشربوا أولاً ثُمَّ توزن أعمالهم، ثُمَّ بعد ذلك يكون الصراط، إذاً هذا بالنظر العقلي فقط، ولم يأت بدليل ينص عَلَى أن الحوض قبل الصراط وقبل الميزان، وهذا في الحقيقة ليس بالمستند القوي أو الحجة التي يثبت بها مثل هذا.
    ثُمَّ يقول: [قال أبو حامد الغزالي رَحِمَهُ اللهُ في كتاب كشف علم الآخرة: حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله] هذا البعض الذي قال عنه: إنه بعض السلف هو أبو طالب المكي صاحب كتاب قوت القلوب، فإن غالب كلام أبي حامد الغزالي في الرقاق كما في الإحياء وغيره منقول عنه، وهذا الكتاب قوت القلوب من أوائل الكتب التي صنفت في "التصوف" وقوله: قال بعض السلف وهو ليس من السلف لأنه في القرن الخامس تقريباً، فليس بينه وبين الغزالي كبير فرق.
    وقد وافق صاحب القوت عَلَى ذلك القاضي عياض -رَحِمَهُ اللهُ- فقَالَ: إن الحوض بعد الصراط، وقوله: [وهو غلط من قائله] هذا من كلام الغزالي، فهو يغلط أبا طالب ومن معه، وكذلك وافقه القرطبي فقَالَ: [هو كما قال] أي هو غلط فـالقرطبي والغزالي، وكذلك السيوطي يرون أن الحوض قبل الصراط، إذاً أصبح عندنا القاضي عياض وصاحب كتاب قوت القلوب يقولون: الحوض بعد الصراط، ومال إِلَى ذلك أيضاً السيوطي.
    أما القرطبي والغزالي فيميلون إِلَى غير ذلك.
  7. هل الحوض يكون في الأرض أم لا ؟

     المرفق    
    ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [قال القرطبي: ولا يَخْطُرْ ببالك أنه في هذه الأرض] يقول: إذا قلنا: إن الحوض هو في أرض المحشر، أو أنه قبل دخول الجنة -وهو كذلك- فهو ليس في هذه الأرض التي نراها اليوم: بل في الأرض المبدلة، والأرض المبدلة هي أرض المحشر كما قال الله تعالى: ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَات))[إبراهيم:48] فهي أرض مُبدَّلةٌ، ثُمَّ وصفها القرطبي فقَالَ: [أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم، ولم يُظلم عَلَى ظهرها أحد قط تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء] وهذه الأرض سوف يأتي بإذن الله تَعَالَى التفصيل في حقيقتها عند الحديث عن أهوال يَوْمَ القِيَامَةِ ومنها هذا التغيير.
    يقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخلق بهم أن يُحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر] نعم، قاتل الله الذين ينكرون الحوض، وإنهم لجديرون أن يحال بينهم وبين وروده، لأنهم أنكروه وهو ثابت صحيح، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم ممن يرده ويشرب منه.