المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فنستعرض هنا جملة المذهبين الرئيسين: الماتريدي والأشعري؛ لأنهما المذهبان اللذان بقيا في الأمة، وانتشرا انتشاراً كبيراً في العالم الإسلامي، واليوم يمكنك استثناء المدارس والجامعات والمعاهد السلفية التي توجد في بعض البلدان؛ وإلا فالكثير على عقيدة الماتريدية ، أو العقيدة الأشعرية.
فمثلاً هناك أبو منصور البغدادي وهو من الأئمة المتقدمين عند الأشاعرة ؛ لأنه متوفى سنة أربعمائة وإحدى وعشرين، وله كتاب مشهور ومعلوم عند الجميع في الفرق وهو الفرق بين الفرق ، وله كتاب آخر وهو أصول الدين ، ويقصد بذلك الأشاعرة ، ويسميهم: أهل السنة ، وهنا يكون الإشكال واللبس.
  1. أقسام الطاعات عند الأشاعرة

    يقول البغدادي في كتابه أصول الدين عن موضوع الإيمان: (الطاعات عندنا -أي الأشاعرة - أقسام، أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً -وهذا في نظرهم- وتكون عاقبته لأجلها الجنة إذا مات عليها، وهي: معرفة أصول الدين في العدل، والتوحيد، والوعد، والوعيد، والنبوات، والكرامات). وعندما تجد مثل هذه العبارات فإنك تعرف أن هذا المذهب ليس مذهب أهل السنة والجماعة ؛ لأنهم لا يسمون العدل أو التوحيد بمثل هذا كما هو معلوم، وقد سبق في شرح أصول المعتزلة الخمسة وهي: العدل، والتوحيد، والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مذهبهم هم.
    فهناك توافق في المصطلح بين الأشعرية و المعتزلة ، و الأشعرية في الحقيقة هم من المعتزلة لكنهم خالفوهم في أمور.
    يقول: (والأمر الآخر معرفة أركان شريعة الإسلام هي: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر).
    يعني: أن من عرف هذه الأمور خرج عن دائرة الكفر بالمعرفة وليس بالعمل.
    يقول: (والقسم الثاني: به يسلم من الجزية، والقتال، والسبي، والاسترقاق، وبه تحل المناكحة، واستحلال الذبيحة، والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين، والصلاة عليه أو خلفه -وهو- إظهار ما ذكرناه باللسان مرةً واحدة في العمر)، فإذا قال ذلك أصبح له هذه الأحكام.
    إذاً: فالأمر الأول: معرفة أصول الدين معرفة قلبية، ويترتب عليها النجاة عند الله، والقسم الثاني: هو إظهار ذلك ولو مرة واحدة، ويترتب عليه النجاة في أحكام الدنيا.
    يقول: (والقسم الثالث: إقامة الفرائض، واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار، ويصير مقبول الشهادة).
    يعني: أنه إذا صلَى، وزكى، وصام، وحج، وأتى بالواجبات جميعها فهذا يسلم من دخول النار؛ فالأول ينجو عند الله، وهذا يسلم من دخول النار ابتداءً؛ لأنه فعل هذه الشعائر، وفي أحكام الدنيا يصبح عندنا مقبول الشهادة، وأما لو ترك الفرائض -أي: عندهم- فهو مؤمن لكنه غير مقبول الشهادة، وهذه زيادة في العدالة: يصلي، ويأتي ببقية الأركان.
    يقول: (والقسم الرابع: زيادة النوافل فوق أداء الواجبات، وترك المحرمات، فيكون له الزيادة في الكرامة والولاية)، وهذه أعلى الدرجات عندهم.
  2. أقسام المعاصي عند الأشاعرة

    ثم قال: (للعاصي -أيضاً- قسمان: الأول: كفر محض، وهو عقد القلب على ما يضاد القسم الأول) أي: أن يعتقد ما يضاد تلك المعرفة؛ فالإيمان عنده معرفة القلب بالعدل، والتوحيد، وبقية ما ذكر من المعاد والنبوات.. إلى آخره، والكفر هو: عقد القلب على ما يضاد ذلك من أمور، أي: بخلاف ما جاء في عقيدتهم في النبوات، أو العدل، أو التوحيد، فهذا هو الكفر عندهم. قال: (أو الشك فيها أو في بعضها) أي: أن يعتقد خلاف الحق، أو يشك في الحق، أو في بعضه، فإن فعل ذلك كان عندهم كافراً، ومن مات على ذلك كان مخلداً في النار. (والقسم الثاني أيضاً يقابل الثالث الذي هو: فعل الواجبات، ومن هنا فالأول يشمل الاثنين: اعتقاد ما يخالف العدل والتوحيد، أو عدم معرفة أركان شريعة الإسلام) فالأولان من الطاعات يشملها في المقابل الأول من المعاصي، والثاني في المعاصي يقابل الثالث في الطاعات، والذي هو أداء الفرائض، والثاني هنا هو ركوب الكبائر، وترك الفرائض من غير عذر.
  3. الحكم على مذهب الأشاعرة في الأعمال

    يقول: (وذلك فسق تسقط به الشهادة، ويستوجب الحد من القتل أو التعزير، ومع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات إذا كان عنده المعرفة)، فهو مؤمن ولو لم يأت بالواجبات، فالإيمان عندهم في الحقيقة هو الإيمان الباطن.
    ومذهب جهم أن الإيمان هو المعرفة، وفي الحقيقة ليس هناك فرق واضح بين كلام البغدادي ومذهب جهم وإنما هو فصّل المعرفة: معرفة كذا وكذا، ومعرفة الشرائع، فيظهر لنا أن مذهبهم هو مذهب جهم ، والإقرار باللسان عندهم ثمرته والمقصود منه أحكام الدنيا، وفي الأخير يختلفون هل هو شرط لإجراء الأحكام، أو علامة على إجراء الأحكام؟ والمقصود: أن هذه هي منزلة العمل عندهم.
    ولذلك يقع التناقض في كلامهم، ولو سألناهم وقلنا لهم: لو أن أحداً اعتقد في الأمور القلبية العلمية الاعتقادية -أي: مجرد المعرفة- اعتقد خلاف عقيدتكم في النبوات، أو في صفات الله، أو في التوحيد كما تسمونه، أو العدل، فإنه على كلامه يكون كافراً، فهل هم فعلاً يكفرون من فعل ذلك؟
    فإذا فعلوا ذلك فقد شابهوا الخوارج وغيرهم في أن ما يؤصلونه هو الإيمان، ومن اعتقد خلافه فهو كافر، فهم من ناحية فروا من إثبات العمل -رغم ما جاء فيه من النصوص- فوقعوا في إثبات ما لم يثبته الله، واشتراط ما لم يشترطه الله من أمور العدل والتوحيد .. إلى آخره؛ فجعلوها ديناً من لم يعرفه فهو كافر، فعرضوا عقائد المسلمين للخطر؛ بناءً على هوى وتحكم ما أنزل الله به من سلطان.
    فالإيمان المجمل عند أهل السنة والجماعة يكفي، ثم بعد ذلك كلما علم الإنسان شيئاً مفصلاً وجب عليه الإيمان به، لكن على كلامهم هم -مع أن كثيراً من عقائدهم باطلة- إذا اعتقد خلاف عقائدهم فقد كفر، فهذا فيه غاية الإحراج على الأمة، وهم لا يكفرون أهل البدع الذين يخالفونهم، فهم مضطربون في التكفير، فبعضهم يقول: لا نكفر إلا من كفرنا، وبعضهم يقول: نكفر من خالف في بعض الأصول دون بعض.. إلى آخره.
    إذاً فهذا أيضاً مما يلاحظ في كلامهم من الاضطراب في هذا الأمر.
  4. النطق والإقرار وموقعهما من الإيمان عند الأشاعرة

    ومن أشهر أئمتهم سعد الدين التفتازاني -وهم دائماً يستشهدون ويحتجون بكلامه، وهو متوفى سنة سبعمائة وثلاث وتسعين، وهو من أكبر -إن لم يكن أكبر- الأئمة عندهم في علم الكلام، وكتبه - كما في الأزهر الآن وغيره من الجامعات- في القمة، وهي الغاية، والذي يستطيع أن يفهم كلامه، أو أن يشرحه فإنه يكون عندهم قد بلغ غاية العلم، وله كتب كثيرة.
    يقول التفتازاني عن موضوع النطق: (إن هاهنا مطلبين، الأول: أن الإقرار -أي: بالشهادتين- ليس جزءاً من الإيمان، والثاني: أنه -يعني: الإيمان- التصديق لا غير، والدليل على أن الإقرار ليس جزءاً من الإيمان هو: دلالة النصوص على أن محل الإيمان هو القلب، وما دام كذلك فلا يكون الإقرار الذي هو فعل اللسان داخلاً فيه).
    والنصوص التي تدل على أن الإيمان محله القلب هي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( التقوى هاهنا )، وكذلك قوله تعالى: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22] وكذلك قوله: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106]، فيقولون: إذاً فالإيمان محله القلب، وليس في الآيات ما يقتضي أن الإيمان محله فقط في القلب، لكنها تدل على أن الإيمان أصله في القلب، فإذا كتب في القلب فإنه يظهر على الجوارح، لكن لو عملت الجوارح أعمال الإيمان والقلب لا إيمان فيه؛ فإن ذلك لا ينفع؛ إذاً: فهذا لأنه هو الأصل هو الذي يؤمن أو يكفر في الحقيقة، لكن هم جعلوا هذا دليلاً على أن الإيمان محله القلب فقط.
  5. احتجاج الأشاعرة باللغة على أن الإيمان هو التصديق والرد عليه

    يقول: (وأما الثاني: وهو أنه التصديق لا سائر ما في القلب من المعرفة والقدرة والعفة والشجاعة). فأخرج جميع أعمال القلب، فهم يقولون: إن الإيمان هو التصديق، وأما بقية أعمال القلب فليست من الإيمان، وأتى بأشياء أخرى كالمعرفة العلمية: كأن تعرف أن الكل أكبر من الجزء، وكذلك أي معرفة من المعارف البشرية لا تدخل، وكذلك القدرة والعفة والشجاعة، فهذه ليست داخلة عنده في الإيمان.
    والإشكال ليس في العفة والقدرة، وإنما الكلام في اليقين، وفي المحبة، وفي الإنابة، وفي التوكل، وفي الخشوع، وفي أعمال إيمانية ارتباطها بالإيمان واضح.
    يقول: (وأما الثاني فلوجوه: الأول: اتفاق الفريقين على أنه ليس سوى التصديق). يعني: الأشاعرة والماتريدية، والكلام متناقض؛ لأنه يريد أن يرجح أحد القولين باتفاق الفريقين، ولو اتفقا لم يكن عندنا قولان نحتاج أن نرجح بينهما، فالكلام إذاً فيه تناقض.
    يقول: (إن الإيمان في اللغة التصديق) ولم يعين في الشرع لمعنى آخر، وهذه من شبهاته، فنرد عليه من ناحية اللغة أن الشرع قد نقل الحقائق والأسماء، فكل اسم فيها فهو منقول عما كان عليه في لغة العرب إلى مفهوم ومدلول شرعي، فالصلاة في لغة العرب هي الذكر، والزكاة في لغة العرب: النماء، والحج في لغة العرب: القصد، وكذلك الإيمان وغيره، فلو فرض أن الإيمان في لغة العرب هو: التصديق فقط؛ فإنه يكون قد نقل، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله جبريل فقال: ( أخبرني عن الإيمان )، وهو لم يسأله عن معنى الإيمان في اللغة، وإنما يريد أن يخبره عن الإيمان الشرعي الديني، ولهذا قال في آخر الحديث: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )، وفي حديث وفد عبد القيس قال: ( أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال‎: الإيمان: أن تشهد أن لا إله إلا الله... ) الحديث، فهذا هو الإيمان في الشرع وليس مجرد اللغة.
    ثم يقول: (الثالث أن النقل خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا بدليل)، أي: أن نقل المعنى من اللغة إلى الشرع خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه إلا بدليل، والدليل هنا واضح، وهذا الكلام باطل لمن تأمل كلام العرب ولغتهم، وعرف الشرع أيضاً ومدلولاته، وهذا الكلام موجود في شرح العقائد النسفية لـسعد الدين التفتازاني.
  6. الرد على زعم الأشاعرة بأن الإيمان هو التصديق دون العمل والإقرار

    ويستدل على كلامه: بأن محل الإيمان هو القلب، وأنه لا يدخل فيه أي عمل حتى الإقرار، فيقول: (كما في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) )، فيستدل بهذا على أن محل الإيمان هو القلب، وأن من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فإنه يخرج من النار.
    فنقول في الرد عليه: إن الإيمان هذا -وإن كان قليلاً- فلا بد أنه مقترن بالعمل، وهذا الحديث هو في آخر من يخرجون من النار، ليس محله القلب فقط، ولكن نقول: إن الإيمان أصله ما في القلب، فلو كان منافقاً لم يدخل الجنة مطلقاً، ولم يخرج من النار مطلقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، إن الله حرمها على الكافرين )، فالجنة وما فيها محرمة على المشركين، قال تعالى: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ))[المائدة:72].
    إذاً: فلا يدخل الجنة إلا مؤمن، فهذا الرجل ليس هو الحالة الأصلية، أي: ليس هو المطلوب، فالله سبحانه وتعالى لم يبعث نبيه صلى الله عليه وسلم، ويأمر أن يدعو الناس إلى أن يؤمنوا بالله، أي: بأن يوجد عند الإنسان مثقال ذرة من إيمان؛ لا، لكنها آخر ما يفقد؛ لأن الإنسان قد يفقد أو يترك الأعمال الواجبات، وقد يترك أيضاً ما يجب باللسان، لكن لو ترك كل شيء حتى ما في القلب فهذا كفر كلية، وإنما بقي لديه أصل ضعيف، ومحله هو القلب؛ لأنه هو أساس دخول الجنة، وهذا الشيء القليل الذي في القلب لا ينفي الإيمان بالعمل مطلقاً، بل له لازم ضعيف مثله، فإذا كان الإيمان القلبي مثقال ذرة؛ فأعمال الجوارح مثقال ذرة على قدرها، وإذا كان الإيمان القلبي مثقال شعيرة؛ فلا بد من عمل للجوارح بقدر الشعيرة.
    إذاً: فالإيمان ظاهره وباطنه شيء واحد، فمنه جزء ظاهر ومنه جزء باطن، ولازمه وجود العمل، فلو ترك العمل بالكلية، ولم يعمل بشيء مما أنزل الله بالكلية؛ لما كان عنده شيء من الإيمان مطلقاً، وأما الخروج من النار فمبني على ما في القلب، وهذه الحالات هي آخر شيء، وهي حالات استثنائية، فهي في آخر من يخرج من النار، كما جاء في الحديث الآخر: ( يعرفونهم بعلامة السجود )، فالنار تأكل كل شيء من ابن آدم إلا موضع السجود؛ ولهذا تارك الصلاة لا حظ له في هذا؛ لأنه لا يسجد، قال تعالى: (( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ))[المدثر:43]، فليس له علامة السجود.
    إذاً: فالحديث يدل على أن أصل الإيمان هو القلب، لكن لا يدل على أنه لا يوجد إلا في القلب، ولا دلالة على هذا الحصر، وهذه حالة استثنائية وليست الحالة الأصلية التي يبنى عليها حقيقة الإيمان، وإنما هي حالة عارضة، أو هي خلاف الأصل، فهي حالة قلة الإيمان إلى حد أن ليس وراء ذلك شيء، وليس حالة وجود الإيمان الشرعي الذي نقول فيه: الإيمان شرعاً هو كذا؛ فهذا آخر ما يبقى من الإيمان وليس هو الإيمان.
    وهذا الحديث يدل على أن الإيمان يزيد وينقص وأنتم لا تقولون بذلك، فما دام هنالك ذرة، وغيره عنده شعيرة، فغيره عنده مثل الجبال.. وهكذا، فالناس يتفاوتون في الإيمان.
  7. خطورة مذهب الأشاعرة في الإيمان

    وانظر كيف تهافت كلامهم عندما ينقل عن شرح المواقف فيقول: (إن السجود للصنم بالاختيار يدل بظاهره على أنه ليس بمصدق)؛ فلو وجد صنم يعبده المشركون، ووجد مجموعة من الناس يسجدون لهذا الصنم ويعبدونه؛ فـأهل السنة والجماعة يحكمون بأنهم مشركون كفار، والمرجئة يقولون: (أما في الظاهر فهو مشرك)، فالعمل شرك، والعمل كفر في الظاهر، يقول: (ونحن نحكم بالظاهر؛ فلذلك حكمنا بعدم إيمانه؛ حتى لو علم أنه لم يسجد له على سبيل التعظيم، واعتقاد الألوهية، بل سجد له وقلبه مطمئن بالإيمان؛ لم يحكم بكفر فيما بينه وبين الله عز وجل).
    فنقول لهم: وهل يمكن أن يسجد للصنم اختياراً وقلبه مطمئن بالإيمان؟ ومن هنا تناقض المرجئة ، ومن هنا نعرف خطر مذهبهم، ولذلك تعد معرفة هذه الأمور ضرورية وأساسية، فلو ذهبت تدعو إلى الله في أي بلد ورأيت الأعمال الكفرية: من عبادة غير الله، ومن دعاء غير الله، والذبح له، والاستغاثة به، ورأيت أيضاً الحكم بغير ما أنزل الله، واتباع الشرائع المحرفة، أو الشرائع الوضعية التي يتحاكمون إليها وغير ذلك؛ فإنك تختلف أنت وهم في الحكم على هذه الأمور، وسبب الاختلاف الحقيقي: هو أن الإيمان عندك غير الإيمان عندهم، فهذه قضايا مهمة جداً، فينبغي أن تعرف لماذا هم يرون أن هذه الأمور لا تنافي التوحيد.
    هذا عند من يوافقك على أنها شرك، وأما الذي يقول لك: ليست بشرك، وهذا مجرد توسل؛ فهذا أدهى وأمر، لكن حتى الذي يقول: هذا كفر؛ فإنه يقول لك: لم يكفر الرجل، فيسجد للصنم باختياره، ومع ذلك يمكن أن يكون في الباطن مؤمناً كامل الإيمان، فيكون قلبه مطمئناً بالإيمان.
    إذاً: فليس عندهم ما أصله وقرره أهل السنة والجماعة من أن الباطن والظاهر متلازمان ومترابطان، وهما شيء واحد؛ فمن المستحيل أن يكفر الإنسان ظاهراً باختياره ويكون قلبه مؤمناً باطناً أبداً، وهذا يكون في حالة الإكراه، فيأتي بالحركات ظاهراً ولكنه مؤمن باطناً، وهذا كما ذكر الله تعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106].
    وحالة النفاق عكس ذلك: أن يظهر الإيمان ظاهراً لكنه في الباطن كافر، فهذه ليس فيها خلاف، لكن نريد أن نبين أنه يمكن أنه يوجد الإيمان الظاهر مع خلو القلب، ولا يمكن عند أهل السنة والجماعة أن يوجد إيمان باطن مع خلو الظاهر من الإيمان؛ لا يمكن هذا، فلا بد أن يظهر، فحتى المنكر بقلبه لا بد أن يظهر عليه غضب، وألم، وتأثر، والكلام هنا ليس في حالة عارضة، أو في شعبة من شعب الإيمان، وإنما الكلام في الإيمان جملة.