وقد قال مرجئة الحنفية : لنا عليكم حجة، فقلنا: ما حجتكم؟ قالوا: ما تقولون في الأخرس الذي لا يستطيع النطق؟ قلنا: نحن لا نجبره على أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله؛ لأنه أخرس لا يستطيع النطق. قالوا: إذا سقط الركن، والركن لا يحتمل السقوط، فمتى سقط أصبح مجرد علامة.وقالوا كذلك: ما رأيكم في رجل آمن بقلبه ومات فجأة قبل أن يستطيع أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، هل تقولون: إنه كافر؟ والجواب على هذين الاحتجاجين أن نقول: إن هاتين الصورتين من الأمور الشاذة، فهي استثنائية خارجة عن الأصل، وكلامنا كله إنما هو في حق القادر السوي، ولو أن كل حكم راعينا فيه الحالة الشاذة لما بقي لنا شيء، فإذا قال فقيه: القيام ركن من أركان الصلاة، فقال آخر: وما حكم العاجز؟ فقال: يسقط عنه القيام، فقال: إذاً لا تجعله ركناً؛ لأنه يسقط عن هذا؛ فمعنى ذلك أنه لا يبقى عندنا شيء، حتى الصيام، أليس الله سبحانه وتعالى قد أسقطه عن الكبير والعاجز؟! إذاً: فما هو بركن من أركان الإسلام! فنحن نقول: الأصل أن القادر السوي المقيم -إلى آخر هذه الأوصاف- يلزمه الصوم، والصلاة، والنطق بالشهادة، فهذا هو الذي نتكلم عنه، فنحن دائماً نتكلم عن الحالة الأصلية العامة، أما الشذوذ فله أحكام، والاستثناء له حكمه، ولا نناقش فيه ولا نجادلكم فيه، لئلا يعكر علينا الأصل، فاتفقوا معنا على الأصل ونحن نوافقكم في الفرع.وأما بالنسبة للأخرس والذي آمن ومات قبل أن ينطق فليست صورة شذوذ، بل هي صور مجرد افتراض؛ لأن الإنسان لو آمن حقيقةً فإنه يستطيع أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وهل يعقل أنه مات بمجرد أن صدق بقلبه؟! وكيف اطلعتم على هذا؟! فهذا شيء لا ينضبط، فهو مجرد افتراض عقلي ذهني، المقصود منه إبطال الأصل.وهذا المذهب أصله -في الحقيقة- مذهب
الأشاعرة ، لكن
الماتريدية أخذوه عنهم، فشهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة علامة عندهم على الإيمان القلبي، أو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية.ولاشك في أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ) أنه في الأحكام الظاهرة، لكنَّه يدل أيضاً على تلازم الأحكام الظاهرة والأحكام الباطنة، فهم أخرجوا الباطن وجعلوا هذا مجرد علامة على الظاهر.فبعض الناس يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي ويصوم ويزكي ويكون مؤمناً ظاهراً وباطناً، وهذا هو الذي حقق الإيمان، لكن لو أن رجلاً شهد بلسانه وصلى وأدى الزكاة وهو غير معتقد بقلبه؛ فقد عصم دمه ظاهراً، وهذه حالة ليست هي المقصودة في الأصل، لكنها قد تقع، فحسابه على الله وأمره إلى الله في الآخرة، لكن ليس المقصود من الحديث مجرد إجراء الأحكام الظاهرة، بل إنما يؤمر بهذه الأعمال الظاهرة ليحقق معها وبها الأعمال الباطنة التي هي المقصود، كما قال تعالى: ((
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ))[التوبة:73] فنحن نجاهدهم لأنهم كفار، فنجاهدهم ليكونوا مؤمنين حقاً وصدقاً، فإن لم يفعلوا فحسابهم على الله. فالحاصل أن في قولهم رداً لصريح الكتاب والسنة، ولذا قلنا: إن هذا مذهب بدعي، وإن ما ورد من كلام السلف -
سفيان و
وكيع و
سعيد بن جبير و
سعيد بن المسيب و
يحيى بن سعيد و
عبد الرحمن بن مهدي و
عبد الله بن المبارك والإمام
أحمد و
يزيد بن هارون وغيرهم من أئمة السلف- في ذم
المرجئة ينصرف إلى هؤلاء؛ لأنهم ردوا صريح السنة، وكذلك دلالة القرآن.أما القول بأن الإيمان هو ما في القلب فقط فهو الذي آل إليه الحنفية فيما بعد، وهو مذهب
الجهمية ، و
الجهمية قد أخرجوا من الإسلام.