قال رحمه الله تعالى: (ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركنٌ زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب
أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن
أبي حنيفة رضي الله عنه).ليس هذا بصحيح، فـ
أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مات ولم يُبحث بعد موضوع الماهيات ويُتكلم ويُخاض فيه، ولكن جاء من نسبوا إليه
رسالة العالم والمتعلم كما يسمونها، فقالوا: إن
أبا حنيفة يقول ذلك.فالشاهد هو أن الحنفية أصبحوا في الغالب
ماتريدية، فالرجل منهم يقول: أنا حنفي في الفقه ماتريدي في العقيدة، كما يقول الشافعي: أنا فلان بن فلان بن فلان الشافعي مذهباً، الأشعري عقيدةً، وبعد ذلك ينتسب إلى الطريقة، فيقول: الرفاعي، والنقشبندي... إلخ! فأكثر الحنفية مالوا إلى هذا، وبعض الحنفية المشتغلين بالحديث ظلوا على القول الأول، ومنهم الإمام
الطحاوي باعتباره محدثاً رحمه الله، و
ابن أبي العز أيضاً باعتباره يحب السنة وأهلها، وله اطلاع في الحديث، وكذلك بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى المذهب الحنفي، وهو من أهل الاطلاع في الحديث، والذي يهمنا كيف نوضح ونبطل ونفند قولهم: إنه ركن زائد وليس بأصلي. فنقول: إذا جعلنا للإيمان ركنين فقد عددناه وبعضناه وجزأناه وركبناه... إلى آخره، وهم لا يرون التركيب، بل يرونه جزءاً واحداً فقط. وقد تبين لنا أن الماهية لا يمكن أن تكون إلا شيئاً واحداً، ولذلك أولوا كلام أئمتهم، فقالوا: إن أئمتنا -رحمهم الله- يقصدون بقولهم: إنه ركن أي: ركن زائد.وبتعبير آخر قالوا: إن الإقرار بالشهادتين إما شطر -أي: أن الإيمان نصفه اعتقاد ونصفه إقرار- وإما شرط، واختار الأكثرون أنه شرط؛ ليتخلصوا من الإشكال؛ لأن الشرط لا يدخل في الماهية، وليس جزءا منها، كشروط الصلاة، فدخول الوقت ليس من الصلاة، بل منفصل عنها، وليس بداخل في ماهيتها، لكنه شرط لصحتها. والذي يليق بفقه الإمام
أبي حنيفة رحمه الله -وهو الفقيه الذي يحكم ويقضي ويعلم الناس ويفتي الدولة- أنه حين يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة... ) يقول: إن من لم يقر بالشهادة كافر بالتالي فيقاتل قتال الكفر، وهذا هو المنقول في كتب الحنفية في الفروع، لكنهم يؤولون هذا الحديث، فيقولون: ما ذكر فيه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، ففرق بين أن نقول: إن الإقرار شرط لصحة الإيمان، وبين أن نقول: شرطٌ لإجراء الأحكام الدنيوية!فانظر كيف أن الإنسان إذا بدأ يتفلت فإنه يتدحرج ولا يقف عند حد، فما كفاهم أنهم قالوا: الإقرار شرط وليس شطراً حتى دخلوا في متاهة أخرى، فقالوا: إن كان شرطاً لصحة الإيمان فلا يمكن أن يؤمن أحد إلا إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأقر بلسانه، فعلى هذا يكون الخلاف لفظياً، فليس هناك فرق بين شطر وشرط، المهم أنه لا يصح إيمانه إلا بهذا، كاستقبال القبلة، فلو قال قائل: استقبال القبلة شرط في الصلاة، وقال آخر: ركن؛ فليس هناك فرق في النهاية، فالقضية اصطلاح.لكنهم يقولون: لا نريد أن يلزمنا لازم كونه شرطاً في صحة الإيمان، فجعلوه شرطاً في إجراء الأحكام الدنيوية.ثم تنازلوا بعد ذلك ولم يقفوا عند هذا الحد، فقالوا: لا يشترط أن يكون أيضاً شرطاً، وإنما هو علامة، فإذا قال المرء: أشهد أن لا إله إلا الله، فذلك علامة على أنه مؤمن بقلبه، وإذا لم يأت بالعلامة يكون عاصياً، وما نقص شيئاً ذا بال! فوصل الأمر بهم إلى أنهم أخرجوا أعمال القلب وأعمال الجوارح من الإيمان، وهذا مذهب خطير، نسأل الله العافية؛ لأن الثابت بالقرآن والسنة وإجماع علماء السلف أن من لم يقر بالشهادتين كافر ظاهراً وباطناً في أحكام الدنيا وفي أحكام الآخرة.