المادة    
نقل المؤلف رحمه الله تعالى مذهب أهل السنة أولاً، ثم نقل المذهب الثاني في بيان حقيقة الإيمان، فقال: (وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله، أنه الإقرار باللسان والتصديق بالجنان).
إذاً يعني بقوله: (من أصحابنا): الحنفية؛ لأن الإمام الطحاوي رحمه الله حنفي، وابن أبي العز هو أيضاً على المذهب الحنفي، والمقصود هنا مذهب أهل الكوفة أو مذهب مرجئة الفقهاء ، إذ إنه قبل أن تظهر المذاهب الأربعة، عندما كان الأئمة المجتهدون كثيرين كان يقال: أهل الكوفة ، أهل العراق ، لذا قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: وقد كان أهل الشام في عافيةٍ من هذه البدعة حتى أتى بعض أهل العراق.. إلخ؛ لأن الإرجاء ما ظهر في بلاد الشام ، وإنما ظهر في العراق ، فكانت هذه البدعة تنسب إلى الكوفة أو إلى العراق أو إلى الفقهاء، وأحياناً يقال: إرجاء العُباد.
فلما أصبحت الأمة على أربعة مذاهب مرت فترة من الفترات لا يمكن أن يوجد فيها مسلم إلا وهو ينتسب إلى مذهب، فانحصر القائلون بالإرجاء في مذهب الحنفية، فالإرجاء الذي هو قول الفقهاء انحصر في مذهب الحنفية باعتبار الموضع والأصل، ولأن فقه أهل العراق أصبح هو الفقه الحنفي، أي: فقه أهل الرأي.
والكلام المنقول عنهم هو أنهم يقولون: إن الإيمان هو اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان. ولا يدخلون عمل الجوارح.
  1. شبهة الحنفية فيما ذهبوا إليه

    وشبهتهم أنهم قالوا: إذا قلنا: إن عمل الجوارح من الإيمان؛ فإنه إذا ترك أحد عملاً من أعمال الجوارح فقد ترك الإيمان، فيكون كافراً، فنكون قد أصبحنا كـالخوارج والمعتزلة ! ولذلك قلنا: إن الأصل الجامع الذي يجمع المعتزلة و المرجئة وكل من ضل في الإيمان هو اعتقادهم أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتركب .. إلى آخره، فإذا جعلناه ثلاثة أجزاء -أي: اعتقاد وإقرار وعمل بالجوارح- وقَصَّر أحد في أعمال الجوارح فمعنى ذلك أنه ترك الإيمان بالكلية؛ إذ لا يتبعض، فإذا انتفى انتفى كله، وإذا وجد وجد كله، ولذا قال الخوارج : هذا هو الصحيح، فلذلك إذا ارتكب العبد كبيرة أخرجوه من الإيمان، وبذلك ضلوا ومرقوا من الدين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: ( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ).
    وأما المرجئة -ومنهم مرجئة الفقهاء - فقالوا: كيف نقول: إن الذي يزني أو يسرق أو يشرب الخمر يكون كافراً بالله ورسوله واليوم الآخر؟! فهذا ليس بصحيح؛ إذ قد وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في عهده زنى ماعز وزنت المرأة الغامدية والجهنية ، وسرقت المرأة المخزومية ومع ذلك لم يخرجوا من الإسلام، فدل على أن صاحب الكبيرة لا يزال من المؤمنين، فقولكم أيها الخوارج باطل، والصواب أن نخرج العمل من الإيمان، فنقول: ما هو من الإيمان.
    وعليه فالإيمان يوجد كاملاً بغير العمل! وهذا مصدر الضلال الذي وقعوا فيه.
    فالشبهة هي أننا لو قلنا: إن العمل من الإيمان لكان من ترك العمل أو شيئاً من الواجبات الظاهرة كافراً؛ لأن الماهية تنتفي بانتفاء جزئها؛ لأنها لا تقبل النقص، فلذلك قالوا: إن الإيمان هو ما في القلب وما في اللسان فقط.
  2. رد أهل السنة على شبهة مرجئة الفقهاء

    ولكن ما سلم لهم هذا القول، وما اطرد لهم، بل اختلفوا فيما بعد حين وقعوا بين قول أهل السنة والجماعة من جهة، وبين قول الخوارج وإلزامهم لهم من جهة، فاضطربوا.
    ذلك أنا إذا قلنا: إن الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان فكأن عمل القلب لا يدخل في الإيمان، فنقول لهم: عندما تقولون: هو اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان، هل يدخل في ذلك عمل القلب؟!
    وأهل السنة والجماعة دائماً أذكى الناس وأمهر الناس وأعقل الناس وأفهم الناس، ولا شك في ذلك، لكن قد تبتلى الأمة بوجود من يدافع عن السنة وهو ضعيف، فيُظن أن أهل السنة مخطئون أو مقصرون، والتقصير إنما هو من بعض من ينتسبون إلى السنة، ومع وضوح الحق وظهور الحجة يندحر الباطل، فإذا ضعف أهل السنة قوي أهل الباطل، وإلا فالسنة في ذاتها واضحة، والحق في ذاته واضح جلي.
    فإن قالوا: نحن ندخل كل أعمال القلب في الإيمان؛ فاليقين والإخلاص والتوكل والصبر والإنابة والخشوع والمحبة كلها من الإيمان، والذي نخرجه فقط هو عمل الجوارح؛ قلنا: وهل يعقل أن أحداً يكون لديه اليقين والإيمان والإخلاص والصدق والمحبة والإذعان والانقياد والخشوع ولا يعمل بجوارحه؟! فالتلازم بينهما قوي جداً، فإن قالوا نعم.. أقروا قالوا: يدخل العمل في الإيمان، والتلازم بينهما قوي، ولابد من أن يعمل؛ قلنا: فلم لا تدخلونه؟! فهذا عمل أخرجتم جزءه الظاهر من الإيمان، وأدخلتم جزءه الباطن، فالصلاة تجعلون خشوعها ويقينها وإخلاصها من الإيمان، وتجعلون الحركات من الركوع والسجود خارج الإيمان، فلماذا فرقتم بين ذلك وهي صلاة واحدة؟!
    فيصبح الأمر على هذا الاعتبار كأنه مجرد خلاف لفظي، فحين يقول قائلهم: العمل ليس من الإيمان، لكنه من لوازمه المؤكدة الثابتة، يقال له: قل: هو منه، أي: لا تقل: هذا البناء الظاهر هو من لوازم الأساس الذي يرتبط به ارتباطاً وثيقاً قوياً، بل قل: البناء هو جزء ظاهر، والأساس جزء باطن، وبذلك تكون قد اتبعت السلف وما أخطأت وما تعبت وما أولت.
    وإن قالوا: لا ندخل أعمال القلوب في الإيمان يقال لهم: يلزم من ذلك أن نصبح كـالخوارج ، فكما أنه إذا ترك عملاً ظاهراً يكفر، فكذلك لو ترك عملاً باطناً -كالحياء أو الخشوع- فإنه يكفر فإن قالوا: نحن لا نجعل الإيمان إلا عملاً واحداً من أعمال القلب فقط، وهو الإقرار أو التصديق، ولا نجعله مع ذلك إلا قول اللسان؛ قيل لهم: إذاً أصبحتم -في الحقيقة- مرجئة غلاة، فما بقي بينكم وبين الجهمية والصالحية أتباع الصالحي والأشعرية فرق إلا أنكم تقولون: إن الإقرار باللسان ركن مع ركن التصديق، وهم يجعلونه ركناً واحداً.
    ثم إن الماهية لا تتجزأ ولا تتركب ولا تتبعض، ومرجئة الحنفية جزءوا الإيمان، فجعلوا جزءاً منه اعتقاد القلب، وجزءاً منه الإقرار باللسان، فأصبح جزءين.
    فقال لهم المتكلمون و الأشعرية و الجهمية : أنتم جعلتموه جزأين، فيلزمكم أن تكونوا كـالخوارج ، فإما أن تقولوا: كل الأعمال من الإيمان، وإما أن تجعلوه عملاً واحداً، فاختاروا القول بأن الإيمان هو التصديق فقط، أو الاعتقاد والإقرار القلبي.