المادة    
وهنا كلام قيم نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (وهؤلاء غلطوا من وجوه -أي: المرجئة - أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك، فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأوجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول القرآن، أو قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول جميع القرآن) فمثلاً: قبل أن يشرع الحج كانت أركان الإسلام كما في حديث وفد عبد القيس من غير ذكر؛ لأن الحج لم يشرع بعد، فبنوا عبد القيس لما آمنوا وقالوا: آمنا بما ذكرت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكانوا مؤمنين بكل ما فرضه الله عليهم، وبعد أن شرع الحج وفرض لو جاء رجل وقال: أنا أؤمن بمثل ما آمن به بنو عبد القيس، وأما ما بعد ذلك فلا أؤمن به، فلا يقبل منه ويكون كافراً، يقول: (والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً). وهذا بين عالم مطلع وبين عامي جاء من البادية، فهذا يعلم من تفصيلات الإيمان ما لم يعلم ذاك، فالإيمان الذي يجب على هذا غير الإيمان الذي يجب على ذاك، وهذه حالة يعيشها كل إنسان، فمن قرأ حديثاً أو اطلع على أمر من أوامر الله لم يكن قد اطلع عليه من قبل، فيجب عليه أن يؤمن به، والذي لم يطلع عليه لا يجب عليه إلى الآن حتى يطلع عليه.
فإذاً: الإيمان التفصيلي متفاوت؛ ولذلك أكثر الناس إيماناً إذا تساووا في التقوى والخشية هم أكثرهم علماً؛ لأنه يعلم أن هذا حلال وهذا حرام، وهذا مستحب وهذا مكروه، وهذا فيه من الأجر كذا، وهذا فيه من الأجر كذا، فيعلم هذه التفصيلات فيؤمن بها، لكن آخر مثله في التقوى، في الطاعة، في الإنابة إلى الله، في الرغبة في الخير، لكن ليس عنده تفصيلات هذا العلم، فلا يكون كذلك، ومن هنا تبرز وتتضح أهمية العلم.
يقول: (فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك). أي: لم يجب عليه من الإيمان إلا ما سمع، كمثل الذين توفوا بعد البعثة بقليل، وكمثل الذين توفوا في الحبشة ولم تشرع بعض الشرائع أو لم تبلغهم، فهؤلاء لا يجب عليهم من الإيمان إلا في حدود ما بلغهم، (وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيها من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبرٍ وأمر أمرٍ) أي: بكل خبر واحد واحد، وبكل أمر واحد واحد، فهذا يجب عليه (ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شيء آخر) والله تعالى يقول: (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ))[البقرة:286]، فهذا لا يكلفه أن يؤمن إيماناً مفصلاً، وهو إنما آمن بما أخبر به ربنا تبارك وتعالى، أو أخبر به رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الله، فآمن به ثم مات، لكن من مد له في عمره وعلم من الدين الشيء الكثير؛ فإنه مطالب بأن يؤمن بكل ما بلغه وبكل ما علمه، ولهذا كان السلف الصالح يحذرون من العلم بلا عمل، والبعض قد يقول: إذاً أبقى جاهلاً من أجل أن لا آثم، فهذا ليس بصحيح، لكن تعلم واعمل، وقد قال قائلهم: أو قد عملت بكل ما علمت؟ قال: لا، قال: فلم تستكثر إذاً من حجة الله عليك؟ ما دام أنك علمت فأين العمل؟ لكن الذي لم يعلم قد يعذر بأنه لم يعلم؛ ولهذا من الأسئلة الأربعة التي يسأل كل إنسان عنها يوم القيامة: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن علمه ماذا عمل به … )، في حدود علمه لا في حدود أكبر العلماء، وإلا لهلك الناس.
إذاً: يجب عليك من جهة أن تتعلم العلم، ويجب عليك من جهة أن تعمل به. يقول: (وأيضاً لو قدر أنه عاش -هذا في حالة أنه بلغه شيء فمات- فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول، وكل ما نهى عنه، وكل ما أخبر به) صلى الله عليه وسلم بمعنى: بعض الأعراب أو ممن أسلم أول الإسلام لا يطالب بمثل ما يطالب به العلماء الكبار، فمثلاً: يقول: عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه: (لو رأيتني وأنا ربع الإسلام). وإن كان هذا قد لا يكون في الواقع، لكن فيما ظهر له أنه ما عرف إلا ثلاثة من المسلمين وهو الرابع، والمقصود أنه أسلم في أول الإسلام، لكن هل هو مطالب أن يؤمن بمثل ما آمن به أبو بكر و عمر ممن لازم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف التفاصيل، أو بمثل ما آمن به عبد الله بن مسعود أو معاذ بن جبل ؟ إن العلماء يتفاوتون في العلم، فيجب على كل أحد أن يؤمن بما بلغه، فالمسلمون من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى اليوم يتفاوتون في العلم، من العامي إلى العالم الجهبذ النحرير الكبير المتعمق، وهذا يجب عليه ما لا يجب على ذاك.
يقول: (بل إنما عليه أن يعرف -العامي- ما يجب عليه هو وما يحرم عليه) لأنه ليس مفتى يفتي الناس، فالمفتي يجب عليه أن يعلم ما يفتي به الناس، لكن العامي عليه أن يعلم ما يجب عليه هو وما يحرم عليه هو في ذاته، فمثلاً يقول: (فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة) لكن بائع الذهب أو من يملك الذهب يجب عليه أن يعلم ذلك، وهكذا يجب على هذا ما لا يجب على هذا، والمتزوج يجب عليه من معرفة أحكام العشرة الزوجية ما لا يجب على غيره حتى يتعامل معها بما شرع الله، وكما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل أن يتزوج عليه أن يتعلم أحكام العشرة الزوجية كلها إلى نهاية الطلاق والعدة والحداد وغير ذلك.
إذاً: الواجب على كل إنسان بحسب ما يحتاج إليه هو، لكن من تصدر للعلم والفتيا فيجب عليه أن يعلم ما يُعلِّم الناس، ولا أنه لا يجب عليه أن يعلم كل شيء، لكن يجب عليه زيادة عما يجب على من لا يجب عليه إلا ما هو في حدود نفسه؛ لأنه ليس لنفسه وإنما هو للناس، فمثلاً: إمام المسجد لا يصح أن يكون علمه كعلم العامي؛ لأنه إمام، وإذا كان أكثر من إمام مسجد، كأن يكون في منصب الإفتاء، فيجب عليه أن يكون أعلم من أئمة المساجد وهكذا؛ لأنه متصدر لأمور العامة وليس فقط فيما يخصه في دينه، فلو لم يكن لديه ولا شيء من الذهب أو الفضة أو الإبل، بل لا بد أن يعرف أحكام الزكاة في هذه الأمور، وكذلك حتى لو لم يتزوج، ففرضاً لا بد أن يعرف أحكام ذلك كله وهكذا.
يقول: (ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك) لكن إذا أراد الحج وقدر عليه أو استطاع يجب عليه أن يعرف أحكام الحج وأن يؤمن بها. وقال: (ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين) إذاً: يجب على إنسان ما لا يجب على غيره، فالذين تخيلوا -وإن نسبوا ذلك إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله أو غيره- أن الإيمان شيء واحد، وأن الناس -بل حتى مع الملائكة، حتى مع الرسل جميعاً- يؤمنون بشيء واحد، ويصدقون بشيء واحد، فهذا خطأ لا يقر شرعاً ولا عقلاً أيضاً.
ويقول رحمه الله: (إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب على هذا، ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن وجب عليهم الإيمان بعد استقرار الشرع فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد) فمن لم يبلغه الإيمان بأن الخمر حرام، ومن لم يبلغه الإيمان بأن فلاناً أو فلاناً من الرسل هم رسل الله أرسلهم وهو لا يعرفهم مثلاً، أو أي أمر من أمور الإيمان، أو ما بلغه شيئاً عن الميزان، أو عن تطاير الكتب، فهذا لا يجب عليه إلا بعد أن يبلغه.
فالأمور نوعان، أو العلم يكون بنوعين من العلم: إما أخبار فنعتقدها، وإما أوامر فنعمل بها، وهذا هو المهم، فالأخبار مثلاً: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال ، وعن الجساسة والدابة التي جاءت في القرآن؛ فنؤمن بها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أمور العمل فما كان من عمل وجب علينا أن نعمل به، ولا يلزم أحد أن يؤمن بشيء قبل أن يبلغه، ولا أن يعمل أيضاً بشيء قبل أن يبلغه، وإنما عليك أن تبلغ وتقيم الحجة عليه، ثم بعد ذلك تأمره وتلزمه، أو يأثم عند الله تبارك وتعالى إن لم يمتثل لذلك، سواء علمت أنت أو لم تعلم.
قال: (وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه، فإن هذا لا يقدر عليه أحد، فالوجوب مما يتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة) فهم جميعاً يؤمنون بما أتاهم من أوامر إذا بلغتهم، وعلى فرض أن الأمر بلغ الجميع، لكن القدرة على الأداء تكون متفاوتة، فهذا معذور وهذا غير معذور.
إذاً: يتفاوتون في الإيمان ويتفاوتون كذلك في العمل بما هو مقتضي هذا الإيمان أو النص أو الدليل.
يقول: (ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل والقوة والضعف ودوام الحضور والغفلة، فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريده فيها ذكرها في قلبه، ثم رغب إلى الله في كشف الريب) فحتى هذا الإيمان قد ثبت ويستمر وينمو في القلب، وقد يتلاشى ويضمحل ويغفل عنه صاحبه.
إذاً: هناك مسألة العلم، ثم هناك العمل به، ثم دوام هذا العلم والعمل، أي: قد يبلغه أمر من أمر الله ويواظب عليه ويؤديه، وقد يبلغه فيعمله مدة ثم ينقطع، ثم ينسى أنه واجب، فتتفاوت إذاً معرفة الناس بين التفصيل وبين الإجمال، إلى آخر ما ذكره في الإيمان الكبير.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين.