المادة    
القضية الأخرى والمهمة، وهي ترد وتبين ما في كلام الشارح رحمه الله من خطأ عندما تخيل أو تصور وغيره كثير قديماً وحديثاً: أن للإيمان أصلاً وقدراً لا بد منه، ثم بعد ذلك يتفاوت الناس فيما يبنى عليه.
  1. حقيقة الجدال السائد اليوم حول الإيمان والكفر

    واليوم لا يخفى ما يدور بين الدعاة مثلاً في مصر من جدل حامي الوطيس حول الإيمان والكفر وحقيقة كل منهما، ومن أسباب هذا الخلاف وهذا الجدل: أن السائد في مصر هو مذهب الإرجاء؛ لأن المقرر عندهم الجوهرة وشروحها، سواء في الأزهر أو في غيره من المعاهد الأزهرية، والشباب الذين رفضوا هذا الإرجاء ليت كل أحد فقه تفصيلات مذهب أهل السنة والجماعة ، فكان الخطأ واللبس أن بعض الدعاة تصور فعلاً أن الإيمان لا بد له من أصل، فهو قدر معين لا بد أن يؤمن به، فكل مؤمن في قديم الدهر وحديثه عنده هذا القدر المحدد المعين، ثم بعد ذلك الناس يزيد بعضهم، وبعضهم زيادة أقل، فيقولون بحد أو مقدار لا بد منه عند كل أحد، أما البقية فقد يطول وقد يقصر، أو قد يزيد وقد ينقص، وهذا شيء آخر، لكن مهما زاد الإيمان فهو ثابت موجود، ومهما نقص فلا ينقص ويخل بهذا الأصل، ثم بعد ذلك يأتي كل واحد ويضع هذا الأصل ويقول: لا بد أن يقر بكذا وكذا، وهذا هو الحد الأدنى للإسلام، وبعد ذلك يزيد عليه، لكن لو نقص هذا الحد لا يكون مؤمناً ولا يكون مسلماً، ويعتبر كأنه كافر مثل الروس والصرب والأمريكان؛ لأنه يرى أن هذا الذي وضعه غير مكتمل لديه، وبعضهم قد يجعلها عشرة أشياء، وبعضهم اثنان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة، فيصبح الخلاف بينهم في هذا الشيء، أما هذا فقد اتفقوا عليه؛ ولذلك إذا نقضنا وبينا خطأ هذه النظرية من أصلها فينتقض المذهب من أساسه؛ لأن الإيمان الأصل أو إيمان القلب والفرع شيء واحد، فإذا نقص الإيمان من هنا فإن ذلك ينقص من هنا، مثل الشجرة الصغيرة جذورها في الأرض صغيرة، كأن تكون الشجرة فوق الأرض متراً، وشجرة أخرى من نفس النوع طولها فوق الأرض ثلاثون متراً، فهل تكون جذور المتر مثل جذور الثلاثين؟ لا، لكن هم على كلامهم الجذور في الأرض واحدة، لكن قد تطول وقد تقصر ما فوق الأرض، فنقول: هذا الكلام غير صحيح لا عقلاً ولا شرعاً، وإنما هو شيء واحد، إما أن يطول كله، أي: الذي إيمانه أكثر يرتفع إلى ما شاء الله، والذي إيمانه أقل ينقص حتى يتلاشى؛ ولذلك آخر من يخرج من النار الجهنميون الذين في قلوبهم أدنى مثقال ذرة؛ لأنه شيء لا يرى، لكن على كلامهم يكون عنده هذا الشيء كله، ومع ذلك يقل ولا ينقص عنه.
  2. إثبات التفاوت في الإيمان

    وعلى هذا نقول: إن الإيمان الذي افترضه الله وطلبه من عباده متفاوت، فيتفاوت إيمان هذا عن إيمان هذا، حتى عندما يقولون: إن هذا معلوم من الدين بالضرورة، فنقول: في الحقيقة هذه العبارة نفسها لا تنطبق، إنما معلوم من الدين بالضرورة عند شيخ تخرج من كلية الشريعة، وعرف الدين وأصوله، وغير معلوم من الدين بالضرورة عند من جاء من البادية، فهل نجعلها سواء؟ ثم لو أن هذا العالم أحل مثلاً شرب الخمر بإطلاق، فهل يكون مثل هذا العامي الذي جاء من إحدى الدول التي كانت شيوعية سبعين سنة ويقول: أنا مسلم، لكن يشرب الخمر؟ لا نقول: إن هذا مثل هذا؛ لأنه ليس من العدل ولا يصح ولا يجوز.
    إذاً: فقولنا: معلوم من الدين بالضرورة التي يظن البعض أنها تحل الإشكال لا تحل الإشكال؛ لأن من كان عنده معلوماً فهو في حدود علمه، ومعلوم عند الآخر في حدود علمه؛ ولذلك عندما تأتي تناقش أحداً وتقرر الحجة وتقيم عليه بالقطعي غير الظني، فهذا شيء آخر، إنما نحن نتكلم عند الحكم عليه بمجرد أن يأتيك بما عنده، فبماذا تحكم عليه؟ فإذاً: الإيمان في الحقيقة متفاوت، فمثلاً: هل الإيمان الذي افترضه الله تبارك وتعالى على نوح وقومه عليه السلام هو نفس الإيمان الذي افترضه الله على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من كل الوجوه ؟ لا، بدليل قوله تعالى: (( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ))[المائدة:48]، أي: لنا شرع غير شرعهم، فالصلاة عندنا شعبة من شعب الإيمان غير ما كان عندهم، وكذلك يجب علينا أن نؤمن بموسى وعيسى عليهما السلام، لكن قوم نوح هل خوطبوا بالإيمان بعيسى وموسى؟ لا؛ لأنهم ما بعثوا، وإنما خوطبوا بالإيمان بالذي نص عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ))[آل عمران:81] الآية، النص وأما الباقي فهو عام، أي: عليك أن تؤمن بكل رسول يبعثه الله، بمعنى: أنه ما دام أن الشريعة قابلة للنسخ، والرسالة لم تختم بعد، فكل نبي يبعثه الله تبارك وتعالى عليك أن تؤمن به، حتى ولو كان الرسول الذي قبله ما يزال حياً، لكن عندما ختم الله تبارك وتعالى الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم انتهى الأمر، وما بقي إلا أن نؤمن بكل الأنبياء السابقين.
    والمقصود: أن هناك فرقاً في التفصيل في الإيمان بين من نؤمن به نحن وبين ما يؤمن به من كان قبلنا، وبين ما يؤمن به العالم وبين ما يؤمن به الجاهل وهكذا.