المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال رحمه الله تعالى: (فأما الخوف والرجاء فأكثر السلف على أنهما يستويان، لا يرجح أحدهما على الآخر، قاله مطرف و الحسن و أحمد وغيرهم، ومنهم من رجح الخوف على الرجاء وهو محكي عن الفضيل و أبي سليمان الداراني ، ومن هذا -أي: من قبيل ترجيح أحد أركان العبادة الثلاثة المحبة والخوف والرجاء على الآخر- قول حذيفة المرعشي : إن عبداً يعمل على خوف لعبد سوء، وإن عبداً يعمل على رجاء لعبد سوء، كلاهما عندي سواء).
يقول ابن رجب مبيناً مقصوده حتى لا يفهم على غير حقيقته: (ومراده: إذا عمل على إفراد أحدهما عن الآخر) كأن يعبد الله بالخوف المجرد، أو يعبده بالرجاء المجرد، فإنه عبد سوء.
قال: (وقال وهيب بن الورد : لا تكونوا كالعامل يقال له كذا وكذا فيقول: نعم إن أحسنتم لي من الأجر)، أي: لا يكن أحدكم في عبادته كالعامل الذي يشترط زيادة الأجر ليزيد في العمل ويحسن فيه.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومراده ذم من لا يلحظ في العمل إلا مجرد الأجر).
ثم قال: (وهؤلاء العارفون لهم ملحظان)، وهذا تخريج عام حسن أتى به رحمه الله، وهو أن هؤلاء الذين هم من خيار العباد أو الزهاد ممن كان له فضل وزهد وعبادة عندما يقولون مثل هذا الكلام لهم فيه ملحظان:
الملحظ الأول: أن الله تعالى يستحق لذاته أن يطاع ويحب ويتقرب إليه، ولو لم تكن له جنة ولا نار، ولو لم يجعل ثواباً ولا عقاباً، قال: (ويبتغي قربه والوسيلة إليه مع قطع النظر عن كونه يثيب عباده ويعاقبهم، كما قال القائل:
هب البعث لم تأتنا رسله             وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق            حياء العباد من المنـعم)
أي: لو لم يكن هنالك بعث ولا رسالات ولا نذارة أليس من الواجب على العباد أن يستحوا من الله الذي خلقهم ورزقهم ورباهم بنعمه، وتفضل عليهم وأسبغ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، وأن يكفوا أنفسهم وينزجروا عما حرم، وأن يمتثلوا أوامره وما يرضاه؟!
يقول رحمه الله: (وقد أشار هذا إلى أن نعمه على عباده تستوجب منهم شكره وحياءهم منه، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم لما ( قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟! ) ) فهو صلى الله عليه وسلم خير من يقدر النعمة ويستحي من الله تعالى ويتقرب إليه عز وجل، فالإنسان الكريم يستحي من الكريم، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه عز وجل؟! فلذا قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) فيشكر ربه ويزداد من طاعة الله ومن عبادته وإن كان قد غفر له، فليس الغرض من العبادة أن ينال العبد المغفرة والرضوان فحسب، وإنما هناك ملحظ آخره يلحظه العارفون الذين عرفوا الله تعالى وقدروه حق قدره، وهو أن الله أهل لأن يعبد ويشكر ويثنى عليه ويطاع ويتقرب إليه.
  1. ملحظ تعلق الخوف والرجاء بالخالق دون المخلوق

    قال: (والملحظ الثاني) وهو مهم جداً؛ لأن كثيراً من الناس أخطئوا فيه (أن أكمل الخوف والرجاء ما تعلق بذات الحق سبحانه وتعالى دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار)، فكيف يكون الخوف متعلقاً بذاته تعالى، وكيف يكون الرجاء متعلقاً بذاته تعالى؟
    يقول: فأعلى الخوف خوف العبد من البعد عن الله ومن أن يسخط عليه الله تبارك وتعالى ومن الحجاب بينه وبين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين وصلت بهم قوة الإيمان ودرجة اليقين إلى هذه الحالة من معرفة الله والأنس بالله تعالى ولذة مناجاة الله، ولذة ذكر الله كلما قعد المرء منهم أو قام أو راح أو غدا، فهؤلاء الناس أعظم ما يعذبون به أن يحال بينهم وبين ذكر الله، وتنقطع ألسنتهم عن ذكر الله، فيذهب ما عندهم من يقين وطمأنينة ولذة ونعيم، وهذا الذي يقصده بعضهم بقوله: (إنه ليمر بي حالات فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم).
    يقول: (كما قدم سبحانه وتعالى ذكر هذا العقاب لأعدائه على صليهم في النار في قوله: (( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ))[المطففين:15-16]) فأول ما عوقبوا به أنهم حجبوا عن رؤية الله تعالى، وهذا عذاب عظيم، ثم عقب على ذلك بأنهم سوف يدخلون النار ويعذبون بالعذاب الذي يخافه كثير من الناس، وهذا الذي ينبغي أن يكون: أن يخاف العبد من النار، والأولى ألا ينسى أن العذاب الأليم والخسارة الكبرى في عدم رؤيته تبارك وتعالى والتنعم بذلك، ويدل على ذلك أن أكبر نعيم في الجنة هو رؤية الله تعالى، وإذا كان هذا أكبر نعيم فذاك هو أكبر عذاب وعقوبة، والعباد إذا سألوا الله الجنة، وكذلك رسل الله الكرام، أو عملوا لأجل الجنة، أو عبدوا الله تعالى لأجل الجنة؛ فإنما يريدون من جملة ما يريدون أشرف ما فيها، وأعلى ما فيها وأفضل ما فيها وهو رؤية الله تعالى.
    ولا منافاة بين من يعمل يريد الجنة، وبين من يعمل لذات الله والنظر إلى وجهه الكريم؛ لأن أعظم وأشرف نعيم الجنة هو هذا النعيم.
    يقول: (وبقي هاهنا أمر آخر، وهو أن يقال: ما أعده الله في جهنم من أنواع العذاب المتعلق بالأمور المخلوقة لا يخافها العارفون، كما أن ما أعده الله في الجنة من أنواع النعيم المتعلق بالأمور المخلوقة لا يحبه العارفون ولا يطلبونه، وهذا أيضاً غلط، والنصوص الدالة على خلافه كثيرة جداً ظاهرة، وهو أيضاً مناقض لما جبل الله عليه الخلق من محبة ما يلائمهم وكراهة ما ينافرهم)، وهذا كائن في الخليقة حتى في الحيوان وفي النبات، فقد جعل الله فطرة الخلائق تميل إلى ما يلائمها وما يناسبها وتتلذذ به وترتاح إليه، وجعلها تنفر مما يضايقها ويزعجها ويؤلمها ولا يلائمها، وهذه الفطرة هي مغروزة في نفس الإنسان؛ فلذلك يأتي الثواب ويأتي العقاب، ويربط الله تعالى طاعته بالثواب ومعصيته بالعقاب، فالإنسان إذا كان يحب الجنة والحور العين والقصور وكل ما في الجنة من النعيم فعليه بطاعة الله تعالى، وإذا كان يكره النار وما فيها فعليه أن يجتنب ما حرم الله.