وبعد أن ذكرنا حال الخوف، وأنه لا بد من أن يكون العبد خائفاً، وأنه لابد من أن يستوي عنده الخوف والرجاء، نرجع فنقول: إن هناك طائفة من محمودي الأمة ومن فضلائها ومن أهل الخير والعبادة فيها غلب عليهم جانب الخوف، وهناك طائفة غلب عليهم جانب الرجاء، وهناك طائفة من الأمة غلب عليهم جانب المحبة، ويدخل من هذا الباب الزنادقة والمرجفون والمفسدون، ومنهم زنادقة الصوفية المسمون بالفلاسفة الروحانيين، كما في كتاب
خشيش بن أصرم وغيره من كتب السلف المتقدمة في الفرق، فيأتون ويدخلون من باب المحبة ويستشهدون بما جاء عن السلف في الكلام عن المحبة، و
الخوارج الذين عبدوا الله بالخوف يأتون بكلام من كلام السلف أيضاً ويستدلون به، ولذلك كان
مرداس أبو بلال من التابعين، وكانت الطوائف كلها تدعيه كما يذكر المؤرخون في ترجمته، ف
الخوارج يدعونه، و
أهل السنة يدعونه، وغيرهم يدعونه؛ لأن العادة أن كل من كان له شهرة أو مكانة أو مقام أو ذكر حسن تحاول كل طائفة أن تصرفه إليها وتأتي ببعض أقواله التي تجذبه إليها لتتقوى وتتكثر به، وهذا ملحظ قديم فيمن يريد أن يتكثر، وأغلب الناس هذا شأنهم.فعندنا نماذج من السلف في كل باب من الأبواب الثلاثة، فأنموذج الذين تكلموا في المحبة وحدها مروي عن
وهب بن منبه ، وأنموذج الذين نسب إليهم أنهم غلب عليهم جانب الخوف مروي عن
عطاء السلمي رحمه الله، وأنموذج تغليب جانب الرجاء -مع أنه يقتدى به في الخير، وله -إن شاء الله- خير وفضل- هو
يحيى بن معاذ الرازي ، وليس من
الصوفية الخلص، ولكن كان صاحب عبادة وصاحب خير وفضل، وإنما برز عنده وغلب عليه هذا الجانب، ولا نريد هنا أن نحكم على هؤلاء الثلاثة، ويمكن أن نعتذر لهم عن خطئهم، ولا نقرهم على الخطأ، ولن نعتذر أبداً لمن خالف السنة واقتدى بأحوالهم فغلب عليه جانب من هذه الجوانب.ويجاب عما نسب إلى من كان من أهل الخير والفضل والعبادة ومع ذلك غلب جانب المحبة بما أجاب به الحافظ
ابن رجب رحمه الله تعالى، فقد قال: (فأما ما يذكر عن بعض العارفين من عدم خشية النار؛ فالصحيح منه له وجه سنذكره إن شاء الله. قال
ابن المبارك : أنبأني
عمر بن عبد الرحمن بن مهدي ، سمعت
وهب بن منبه يقول: قال حكيم من الحكماء: إني لأستحي من الله عز وجل أن أعبده رجاء ثواب الجنة -أي: فقط- فأكون كالأجير السوء إن أعطي عمل وإن لم يعط لم يعمل) يعني: أستحي من الله أن أكون مثل أجير السوء، إن أعطي الأجرة عمل وإلا لم يعمل، وهذا الكلام سنرد عليه.قال: (وإني لأستحي من الله أن أعبده مخافة النار -أي: فقط- فأكون كعبد السوء، إن رهب عمل، وإن لم يرهب لم يعمل)، فعبد السوء إن خاف من سيده عمل، وإن لم يرهب منه لم يعمل، يقول: أنا لا أريد أن أكون كأجير السوء ولا أريد أن أكون كعبد السوء.قال: (وإنه يستخرج حبه مني ما لا يستخرجه مني غيره) يعني: أن حب الله يستخرج مني من الطاعات والإقبال ما لا يأتي به الخوف ولا الرجاء.فهذا ليس فيه نفي وإلغاء للخوف والرجاء، لكن فيه تغليب لجانب المحبة.يقول الحافظ
ابن رجب رحمه الله تعالى: (وفي تفسير لهذا الكلام من بعض رواته وهو أنه ذم العبادة على وجه الرجاء وحده، أو على وجه الخوف وحده، وهذا حسن).ثم أتى بكلام بعض السلف الذي سوف نذكره إن شاء الله فيمن عبد الله بالرجاء وحده أو بالخوف وحده أو بالحب وحده، ثم قال: (وكلام هذا الحكيم يدل على أن الحب ينبغي أن يكون أغلب من الخوف والرجاء).إذاً: يعتذر لهؤلاء بأنهم كانوا يرون أن الحب يكون أغلب.قال: (وقد قال
الفضيل بن عياض) وهو المعلومة منزلته ودرجته في العبادة والنسك والزهد والرغبة في الآخرة، قال: (المحبة أفضل من الخوف. ثم استشهد بكلام هذا الحكيم الذي حكاه عنه
وهب ، وكذا قال
يحيى بن معاذ : حسبك من الخوف ما يمنع من الذنوب، ولا حسب من الحب أبداً).فهؤلاء رجحوا جانب الرجاء أو جانب المحبة، ولم ينفوا الخوف من الله أبداً، يقولون: يكفيك من الخوف ما يمنعك من الذنوب، لكن الحب لا يكفيك منه شيء، فحب الله، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب المؤمنين، وحب الطاعات مهما بلغ لا يقف عند حد.والصحيح أن نقول:
بقدر ما تحب يجب أن تخاف وترجو، فلا يزداد الحب ويقصر عنه الخوف أو يقصر عنه الرجاء، فكلما تعمقت في الحب فليتعمق معه أيضاً الخوف والرجاء.قال رحمه الله تعالى: (فأما الخوف والرجاء) يعني بغض النظر عن المحبة (فأكثر السلف على أنهما يستويان، ولا يرجح أحدهما على الآخر إلا عند المرض وعند الموت) وهذا -إن شاء الله- سنتعرض له فيما بعد، قال: (قاله
مطرف و
الحسن) يعني
مطرف بن عبد الله بن الشخير والإمام
الحسن البصري رحمه الله. (و
أحمد وغيرهم، ومنهم من رجح الخوف على الرجاء، وهو محكي عن
الفضيل و
أبي سليمان الداراني)، و
أبو سليمان الداراني كان يضرب به المثل بين أهل
الشام ؛ لأنه بعد عصر كبار التابعين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.