المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينها لأهل القبلة): يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً، فإن الخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، والرجاء المحمود رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله فهو راج لمغفرته، قال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[البقرة:218]، أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل؛ فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب، قال أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا سار الطائر في حد الموت. وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: (( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ))[الزمر:9] الآية، وقال سبحانه: (( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ))[السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه].
تقدم أن تحدثنا عن منهج السلف الصالح في الجمع بين هذه الأمور الثلاثة: الخوف والرجاء والمحبة، وضلال من ضل بأن أخذ بأحد هذه الثلاثة أو باثنين منها فرضاً وترك الباقي على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى ونعيد التذكير به.
وسنذكر هنا شيئاً مما جاء في كتاب الله عز وجل عن حال المؤمنين وحال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهم أهل الاستقامة الذين جمعوا بين الخوف والرجاء، وأما المحبة فلا تتصور العبادة إلا بها، فإن من لم يحب شيئاً لم يعبده، وقد يأتي في بعض النصوص ذكر المحبة وقد لا يأتي، لكن أصل العبادة هو المحبة، فكل من عبد شيئاً فإنما عبده لأنه في الأصل يحبه، سواءٌ أكان ذلك المعبود هو الله تبارك وتعالى أم أحداً من خلقه، فلولا محبته إياه ما عبده، لكن العبادة تتضمن المحبة وزيادة، فهي تتضمن المحبة مع الخضوع والذل، فالعابد هو المحب الخاضع، وليس كل محب عابداً، لكن من عبد حتى اقترن بحبه الخضوع والذل للمحبوب فإنه يصبح عابداً له، وقد سبق أن استشهدنا على هذا بكلام العرب، وكذلك من واقع أحوال العابدين.
فالمنهج القويم الذي أثنى الله تبارك وتعالى عليه في كتابه ومدح أهله -وهو منهج المؤمنين الصادقين جميعاً- هو الجمع بين الخوف من الله تبارك وتعالى وبين رجاء الله عز وجل، قال تعالى: (( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ))[الأنبياء:90] وهذه صفات عظيمة جليلة، أي: المسارعة في الخيرات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي والتقرب إلى الله تبارك وتعالى، وهذا هو الأساس، فلم يتخلوا عنه، وكانوا يدعون الله ويعبدون الله تبارك وتعالى وهم يسارعون في الخيرات رغباً -وهذا هو جانب الرجاء فيما عند الله- ورهباً، وهو جانب الخوف، قال تعالى: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) زيادة على ذلك، فكانت عباداتهم كلها تعمل بخشوع؛ لأنه هو روح العبادة، فإذا انتفى الخشوع أصبحت العبادة مظاهر جوفاء لا قيمة لها ولا خير فيها، وبقدر الخشوع تكون العبادة أقرب إلى الله تبارك وتعالى، فهذه الآية في وصف حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومن سار على نهجهم من الصالحين.
وكذلك قوله تعالى في سورة الإسراء: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ))[الإسراء:57].
وفي تفسير هذه الآية وجهان:
أحدهما: أولئك الذين يدعوهم ويعبدهم المشركون من الملائكة والأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين حالهم أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب هذا أول ما وصفهم الله تبارك وتعالى به، وهذا معنى قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ))[المائدة:35]، فابتغاء الوسيلة المقصود في القرآن هو المبادرة بالأعمال الصالحة، والتوسل بالأعمال الصالحة التي شرع الله إلى مرضات الله عز وجل، فهؤلاء يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وهذا فيه إشارة إلى نتيجة القرب، وهو المحبة، وكلما كان العبد أكثر حباً لله تعالى كان أكثر تقرباً.
ثم قال تعالى: (( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ))[الإسراء:57]، فتوازن الأمران، فدلت الآية على امتثالهم بهذه الثلاثة الأركان: المحبة والخوف والرجاء. ‏
  1. منزلة المحبة والرجاء والخوف من العبادة

  2. ما يحمد وما يذم من الخوف والرجاء