(السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة). لأنه ليس من فعل العبد ولا من فعل العباد الآخرين، بل هو محض فضل الله تبارك وتعالى، وهو عفو الله عمن ارتكب كبيرة، فيتجاوز الله تبارك وتعالى عنه فلا يدخل النار مع أنه كان مستحقاً لها من غير شفاعة، كما قال تعالى: ((
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فوجه الاستدلال بهذه الآية أن أولها قوله تعالى: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] فأخبر الله تعالى بأن الشرك لا يغفره، وقال تعالى: ((
( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، فبقي ما دون الشرك، ويشمل الكبائر، وقد قال تعالى: ((
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] أي: يعفو ويصفح ويتجاوز ولا يؤاخذ من غير شرط شفاعة ولا غيرها.فهذا الإطلاق وهذا العموم يدخل فيه أصحاب الكبائر بشرط التوحيد، فإذا قلنا: ما دون الشرك يغفر؛ فمعنى ذلك أنه من انتفى عنه الشرك فإنه من أهل التوحيد.ومن الأدلة على ذلك (أن العبد المؤمن يدنيه الله تبارك وتعالى يوم القيامة فيضع عليه كنفه ويستره، ويقرره بذنوبه: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم يا رب! فيقول: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم).فهذا رجل قد جاء بخطايا وجاء بكبائر، ولكن الله تبارك وتعالى تجاوز عنه، وهذا هو الموقف الذي قال فيه بعض العلماء: واسوأتاه وإن غفر. واسوأتاه وإن غفر، وذلك حياء من الموقف ومن التقرير أن يقال له: فعلت وفعلت؛ لأن المؤمن الذي يستحي من الله لا يريد أن يلاقي الله بذلك، وإن كانت النهاية هي العفو والمغفرة والستر، لكن هؤلاء الذين قالوا مثل هذا القول قوم يريدون أن يكونوا ممن يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، وهذه درجة عالية.ومن الأدلة حديث: (
يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ).فهذا الحديث مضمونه هو نفس مضمون الآية، ومدلوله مدلول آية: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48].وهناك حديث أقوى من هذا ثبوتاً وأوضح منه، وهو حديث
عبادة بن الصامت رضي الله عنه في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قال: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ... إلى آخره، قال: (
فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله ) يعني: لم يعاقب به في الدنيا ولم يقم عليه الحد (
فهو إلى الله، إن شاء عفى عنه وإن شاء عاقبه ) فهذا دليل أصح ثبوتاً؛ لأنه في
الصحيحين ، وكذلك صريح في مقتضى ومضمون المسألة كالآية؛ لأنه ذكر فيه البيعة على عدم السرقة وعدم الزنا.وأما حديث
أبي ذر رضي الله عنه: (
وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر ) فليس صريح الدلالة؛ لاحتمال أن يدخل النار ثم يخرج منها، فهو دليل في الجملة لـ
أهل السنة والجماعة على
الخوارج و
المعتزلة ، ولا شك فيه.