المادة    
وأما السبب العاشر فهو شفاعة الشافعين.
وقد تقدم فيما مضى بالتفصيل، وتحدثنا عن معنى الشفاعة، وألمحنا إلى شروطها، وتحدثنا عن الفرق التي خالفت فيها، والمقصود هنا في هذا الموضع هو بيان ذلك؛ لأن الفقرة التي نحن بصدد شرحها هي قول الطحاوي رحمه الله تعالى: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم ولا نقنطهم).
  1. مخالفة الخوارج والمعتزلة لأهل السنة في الشفاعة لأهل الكبائر

    فالقضية هنا هي نفس المشكلة التي تعرضنا لها عندما تحدثنا عن الشفاعة، وهي مشكلة من أنكر الشفاعة لأهل الكبائر وللمسيئين، والفرقتان اللتان أنكرتا ذلك الخوارج و المعتزلة ، وهم لا ينكرون الشفاعة العظمى في الحشر لفصل القضاء؛ لأن الخلائق تجأر وتصرخ وتذهب في أول الأمر إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الخلائق كلهم يريدون أن يفصل الله سبحانه وتعالى بين الناس، فيدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، يريدون الفصل في هذا الموقف المهيب الرهيب، حيث تدنو منهم الشمس مسافة ميل، ويلجمهم العرق ويشتد بهم الكرب، فيجدون النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يعتذر منها كل هؤلاء؛ فيقول: ( أنا لها أنا لها ) صلوات الله وسلامه عليه، فيكون سجوده تحت العرش ويثني على ربه تبارك وتعالى ويحمده بمحامد عظيمة، يفتح الله تعالى بها عليه في تلك الساعة، ثم يقال له: ( ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع )، وهذا هو المقام المحمود الذي ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه المبين: (( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ))[الإسراء:79]، هذه هي الشفاعة العظمى، وهذا هو الذي نسأل الله تبارك وتعالى له أن يعطيه، ويؤتيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد كل أذان.
    هذه الشفاعة العظمى، وهذا المقام المحمود لكونه لا يختص بأصحاب الكبائر ولا بطائفة من هذه الأمة لم تختلف فيه الطوائف، اتفق عليه المسلمون؛ لأن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم في ذاته؛ لكونه نبياً رسولاً، فهذه لا يناقشون فيها.
    إنما خلاف الخوارج و المعتزلة الذي دار بينهم وبين أهل السنة في مسألة مرتكبي الكبيرة من هذه الأمة، وهذا موضوع آخر.
    فالشفاعة العظمى ليست موضع خلاف، بل متفق عليها بين طوائف الأمة وفرقها، أما المقصود هنا في موانع دخول النار فهو الشفاعة لمن استحق العذاب واستحق دخول النار.
    وهناك نوع آخر من أنواع الشفاعة لا يدخل هنا، وهو الشفاعة لمن تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وأهم من هذا وأولى الشفاعة في الذين دخلوا النار، ولا تدخل في موضوعنا هنا؛ لأن الكلام عن موانع دخول النار، فالشفاعة التي تكون لمن داخل النار ليخرج منها ليست بداخلة؛ لأن هذا قد دخل، وإنما نتكلم عمن لم يدخل، وإن كان في ذلك رد على الخوارج وعلى المعتزلة ، ولا شك في ذلك، لكننا نتكلم عن حالة أخرى، وهي أن يكون من أهل الوعيد، ومع ذلك لا يناله الوعيد أما أن يناله الوعيد فيدخل النار ثم يخرج أو لا يخرج؛ فهذا محل خلاف؛ ولهذا تكلم الشارح رحمه الله عن حديث الشفاعة، وبين أنه إنما لم يرو كاملاً أو اقتصر بعض الرواة أو بعض المحدثين أو بعض الأئمة على بعض ألفاظه دون بعض؛ لأن أصله في الشفاعة العظمى ثم ينتهي بالشفاعة الأخيرة، وهي أن يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكلتا الشفاعتين مذكورتان في الحديث، فاقتصر بعض الأئمة على ذكر الشفاعة الأخرى، أو روي الحديث بألفاظ لم يذكر فيها إلا النوع الأخير؛ لأن المقام مقام الاحتجاج على المعتزلة وعلى الخوارج ، فلا نحتج عليهم بما هم موافقون لنا فيه، وهو الشفاعة العظمى، بل نحتج عليهم فيما يخالفون، وهو أنهم ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر، فنقول: إذا ثبت أن من دخل النار يخرج منها؛ فما المانع في ألا يدخلها من استحق دخولها، فهذا أهون وأخف؟!
    أما عندهم فالمسألة لا وسط فيها، فأهل النار مخلدون فيها جميعاً العصاة منهم والكفار، وهذا هو المذهب الذي خالفوا به أهل السنة والجماعة .
    فموضوعنا هنا في موانع دخول النار، فلا كلام لنا في الشفاعة العظمى ولا في الشفاعة التي هي إخراج من دخل النار، وإنما نتكلم فيمن هو من أهل الكبائر ومن أهل الوعيد ولكن لا ينفذ فيه الوعيد بسبب الشفاعة.
  2. الأدلة على حصول الشفاعة لأهل الكبائر

    والدليل على هذه الشفاعة، وعلى أن من أهل الكبائر من يستحق دخول النار ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له فلا يدخلها هو الحديث الصحيح من طرق عدة: ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )، وليس المقصود أن غيرهم لا شفاعة لهم، لكن هم أحق الناس بها، فأهل الشرك لا تنالهم الشفاعة مطلقاً، كما قال تعالى: (( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ))[الأنبياء:28]، ولا يرضى الله تبارك وتعالى أن يشفع للمشركين، فلا يشفع فيهم أحد، وأما الصغائر فمغفورة إن شاء الله تعالى، فيبقى من هو أحوج إلى هذه الشفاعة، وهم أهل الكبائر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ( لكل نبي دعوة مستجابة ) وهذا فضل وكرم من الله تبارك وتعالى أنه جعل لكل نبي دعوة مستجابة، وهم أحق الناس وأولى الناس بأن يكرمهم الله على ما قاموا به من البيان والدعوة والصبر والهداية للعالمين، فجعل الله تعالى لكل نبي دعوة مستجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم، وهو من كرم الله عز وجل ومن إكرامه لهذه الأمة مع إكرامه لنبيها صلى الله عليه وسلم فادخر صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى يوم القيامة ليشفع لأهل الكبائر، قال: ( فهي نائلة -إن شاء الله- من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ).
    وهذا يبشر بأن ما دون الشرك مشفع فيه، وأعظم الذنوب دون الشرك هي الكبائر؛ لأن الذنوب على ثلاث مراتب: إما الشرك، وإما الكبائر، وإما الصغائر.
    فهذه الشفاعة يجعلها الله سبحانه وتعالى ويعطيها لنبيه صلى الله عليه وسلم، فيكون من عظيم فضله على هذه الأمة؛ فلذلك يكون الذي تناله هذه الشفاعة ممن استحق دخول النار ومع ذلك لا يدخلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له.
    فحديث: ( لكل نبي دعوة مستجابة )، وحديث ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) يدلان على هذا النوع من أنواع الشفاعة التي تدل على ما أورده الشارح رحمه الله تعالى في هذه الفقرة.
    وأما شفاعته لأهل الجنة فليس هذا موضعها، سواءٌ شفاعته لهم في أن يدخلوها، أو شفاعته في رفع درجاتهم، فنحن نتكلم عمن يستحق الوعيد ومن كان يستحق دخول النار؛ فخرج بذلك الجهنميون، فالمقصود هم أهل الكبائر الذين يستحقون دخول النار ولكنهم لا يدخلونها استجابة لشفاعته صلى الله عليه وسلم، أما من تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهؤلاء لا نجزم بأنهم من أهل الوعيد.
    فموضوع البحث هو مانع إنفاذ الوعيد، كما قال الشارح رحمه الله تعالى: (فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة)، يعني أن مرتكب الكبائر والخطايا والذنوب تسقط عنه عقوبة جهنم، فلا يدخل النار بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة، وهذه العشرة التي أوصلها إلى أحد عشر سبباً كلها فيمن كان مستحقاً لدخول النار ولكن لم ينفذ فيه هذا الوعيد.