المادة    
  1. قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت...)

    والإمام البخاري رحمه الله تعالى المعلوم فقهه وما قاله الأئمة فيه من أن فقهه رحمه الله في تراجمه، والمعلوم أيضاً فقهه ودقته في الاستدلال والاستنباط؛ قد عنون رحمه الله لموضوع عذاب القبر في كتاب الجنائز في الصحيح بقوله: (باب ما جاء في عذاب القبر)، واستدل بأدلة من القرآن ومن السنة على إثبات عذاب القبر، وذكر ثلاث آيات.
    الآية الأولى: هي ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى: (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ))[الأنعام:93]، وموضع الشاهد قوله تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) بمعنى: حالما تخرج أرواحكم وتقع في أيدينا؛ لأن الكلام من الملائكة، أي: حالما يكون ذلك فاليوم تجزون عذاب الهون، أي: تعذبون.
    ففي الآية دليل على عذاب القبر استنبطه الإمام البخاري رحمه الله، ولو كان العذاب لا يقع -كما يقول نفاة عذاب القبر- إلا يوم القيامة لما كان لهذا الكلام معنى، وهو قولهم: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)؛ لأنهم يخاطبونهم في حال الاحتضار وفي حال النزع وفي حال قبض الروح وهم في غمرات الموت، تغمرهم سكراته وأوجاعه وآلامه من شدة النزع، والملائكة هم الموكلون بقبض الأرواح، كما قال الله سبحانه وتعالى: (( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ))[السجدة:11]، فهم ملائكة موكلون يتوفون هؤلاء، فيقولون لهم: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)، يؤنبونهم ويقرعونهم قائلين: عندما تخرج هذه الأرواح الخبيثة سوف تذوقون العذاب المذل المخزي المهين اليوم أو الآن، فـ(اليوم) تأتي بمعنى (الآن) في لغة العرب.
    فهذه إحدى الآيات التي استدل بها الإمام البخاري رحمه الله تحت عنوان (باب ما جاء في عذاب القبر).
  2. قوله تعالى: (سنعذبهم مرتين...)

    وأما الآية الثانية فهي ما ذكره الله تبارك وتعالى في سورة التوبة في قوله عز وجل: (( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ))[التوبة:101]، يخبر تعالى عن المنافقين وما توعدهم به من العذاب قائلاً: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) ومعنى ذلك أن العذاب العظيم الذي يردون إليه هو ما يكون يوم القيامة في النار، وأما قبل ذلك فقد جعل الله تبارك وتعالى لهم عقوبتين وعذابين، وفسرهما الحسن البصري رحمه الله بأنهما عذاب القبر وعذاب الدنيا، فأما عذاب الدنيا فمعلوم، كما في قوله تعالى: (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[التوبة:55]، فعذاب الدنيا هم معذبون فيه، نسأل الله العفو والعافية.
    فالمنافقون معذبون في الدنيا بالأموال والأولاد، فما بالك بعذابهم بما ينالهم من المؤمنين من تقريع وإهانة وزجر، وما ينالهم من لوم وتعنيف حتى من أقرب أقربائهم؟! حيث كان الابن من المؤمنين يعنف أباه، والزوجة تعنف زوجها، وهكذا، فالمنافق معذب في الدنيا، ولا سيما المخصوصين الذين عناهم الله تبارك وتعالى في هذه الآية، فقد نالوا عذاب الدنيا، والعذاب الثاني هو عذاب القبر، وهذا أيضاً وعيد لهم بذلك، والعذاب الثالث المتوعد به الموصوف بأنه عظيم لأنه أدهى وأمر وأشد يكون يوم القيامة.
  3. قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً...)

    وأما الآية الثالثة التي أوردها الإمام البخاري رحمه الله في الاستدلال على عذاب القبر؛ فهي آية معلومة لدى الجميع، وهي من أظهر الآيات عند أهل السنة والجماعة في إثبات عذاب القبر، وهي قوله تعالى: (( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))[غافر:45-46]، فذكر الله سبحانه وتعالى العقوبة التي أنزلها بآل فرعون، وأنه حاق بهم سوء العذاب، وفَسَّر ذلك بأنه النار، ثم فصل عز وجل ذلك بقوله: (يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، وهذا مما يدل على أنها ليست العذاب المقيم في الآخرة؛ لأن العرض بالغدو والعشي معناه أنهم لا يعذبون إلا في وقتين هما طرفا النهار.
    فهو ليس إيقاعاً لهم في حفرة النار -نسأل الله العفو والعافية-، وليس عذاباً دائماً، وإنما هو عرض في طرفي النهار: الغدو والعشي، ثم قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، فعطف على العذاب الأول عذاباً آخر، فقال: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، فهو عذاب شديد لأنه مقيم، ولأنهم يغمسون فيه غمساً -نسأل الله العفو والعافية- ويكونون في الدرك الأسفل من النار، فهذا لم يقيد بزمن وليس مجرد عرض، بل هو غمس وتعذيب في الدرك الأسفل من النار، نسأل الله أن يعافينا من ذلك، ففي هذا دليل جلي لمن تأمله على إثبات عذاب القبر.
  4. آيات أخرى استدل بها على إثبات عذاب القبر

    وقد ذكر بعض العلماء أدلة أخرى من القرآن، من ذلك قوله تبارك وتعالى في قوم نوح عليه السلام: (( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ))[نوح:25]، عقب على إغراقهم بالإدخال بصيغة الماضي، فوقع عقب إغراقهم الإدخال في النار، وهذا ليس هو العذاب الذي يوعدون به يوم القيامة، بل هو عذاب دون ذلك.
    ومن ذلك قوله تعالى: (( وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ))[الطور:47]، قال بعض العلماء: هو عذاب القبر؛ لأنه دون عذاب الآخرة. وقال بعضهم: هو عذاب الدنيا أو القتل. فأحد الأقوال هو أن المقصود عذاب القبر.
    ومن ذلك قوله تعالى: (( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ))[السجدة:21] ذكره بعض العلماء في معرض الاستدلال على عذاب القبر، وهناك نظر في هذا الاستدلال، فقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يدل على أن الأظهر أنه عذاب الدنيا.
    وكذلك قوله تبارك وتعالى: (( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))[المؤمنون:100] وليس فيه دلالة.
    وكذلك قوله تعالى أيضاً: (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ))[طه:124] قال بعض العلماء: المعيشة الضنك هي عذاب القبر. ثم قال بعد ذلك: (( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ))[طه:124]، ولكن الراجح في هذه الآية أن المعيشة الضنك هي ضيق الحياة الدنيا؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر المعيشة والمعايش في الحياة الدنيا، والله أعلم.
  5. الأدلة من السنة على إثبات عذاب القبر

    ثم ذكر الإمام البخاري رحمه الله حديث البراء بن عازب في امتحان الإنسان في قبره، وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[إبراهيم:27]، وحديث مناداة النبي صلى الله عليه وسلم صرعى القليب من قتلى المشركين يوم بدر ، وكذلك قصة اليهودية مع عائشة رضي الله تعالى عنها لما قالت: (أعاذك الله من عذاب القبر). وهذه كلها سنتعرض لها - إن شاء الله- في موضوع إثبات عذاب القبر ونعيمه.