وإذا عرفنا أنواع الذنوب، وعرفنا الأدلة على التكفير بالمصائب؛ فقد بقي أن يقال: فما كيفية تكفير الذنوب بالمصائب؟ فنقول: إن كيفية التكفير ترجع إلى مسألة الموازنة التي تحدثنا عنها سابقاً، بمعنى أن الخطيئة أو الكبيرة بقدر كبرها وعظمها تحتاج إلى مصيبة تساويها في الكبر، فالذنوب الصغيرة تكفرها المصائب الصغيرة، والذنوب الكبيرة تكفرها المصائب الكبيرة، وهذا قد لا يكون موضع خلاف. لكن هناك نظرة أخرى، وهي أنه
قد يصاب الإنسان أو يألم بألم يسير، ويكون أجره عظيماً جداً وكبيراً عند الله تبارك وتعالى، وربما أصيب بمصيبة كبيرة فلم يحصل له منها فائدة ولا تكفير نسأل الله العفو والعافية، وهذا هو المهم من الناحية التزكوية والتربوية، فالمهم هو: ما الذي يجعل هذا يثاب ويؤجر وتكفر خطاياه بابتلاء يسير، ويجعل ذاك يبتلى بتلك البلايا الكثيرة فلا يحصل له ذلك الأجر؟ والجواب أن ذلك مبني على ما في قلب كل منهما، فالمرجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (
التقوى هاهنا )، و
التقوى هنا تشمل -كما ذكرنا في مبحث الألفاظ المطلقة والمقيدة- كل عمل من أعمال الخير، كاليقين والإخلاص والصدق والصبر والإنابة والضراعة، فكلها تدخل في التقوى ويشملها عمومها وهي من لوازمها،
فبحسب ما يقوم بالقلب من حقائق الإيمان يكون أجر المرء، ولذلك لم يكن شرطاً في أي نبي -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- أن يضرب ويجرح كل يوم أو مرات كثيرة ويقتل حتى تعلو درجته، لكنه إذا ابتلي بأمر صبر واحتسب بقلبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى
الطائف رموه بالحجارة حتى أدموا عقبه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وإدماء العقب أخف من القتل، لكن أجر النبي صلى الله عليه وسلم عليه عظيم جداً، فهو أعظم من أجر من سواه ممن قتل من الناس؛ لما يقوم في قلبه صلوات الله وسلامه عليه من الإيمان ومعرفة الله وتبارك وتعالى واحتساب الأجر في ذلك. وهذا ملحظ عظيم يجب أن نتنبه له في الفرق بين الصحابة ومن بعدهم، والفرق بين المخبتين المنيبين والخاشعين وغيرهم، فـ
ليس كل مصل كأي مصل، وليس أي مجاهد أو منفق كغيره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (
سبق درهم ألف درهم )، وربما سبقت ركعة ألف ركعة، وربما سبقت كلمة في سبيل الله ألف كلمة، وربما سبقت وقفة لله ألف وقفة، وهكذا، بحسب ما يقوم في قلب القائل أو الواقف أو المجاهد من حقائق الإيمان، ولهذا غفر الله لبغي بسقيها كلباً، وليست كل بغي يكفر عنها بأي شربة أو إطعام أو نفقة، لكن هذه البغي من بغايا بني إسرائيل التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم كان في قلبها من الإيمان والاحتساب وإذلال نفسها لله والابتعاد عن الكبر مع حصول البعد عن الناس في جملة دواعٍ كثيرة جعلت سقيها للكلب مغفوراً به ما كانت تفعله من الزنا الذي عظم الله تعالى أمره وحذر منه. فالقضية هي قضية ما يقوم بقلب الإنسان من ذلك، وليست القضية قضية صورية، بمعنى أن تقع مصائب أو ابتلاءات فيكفر عن الإنسان بنوع ما من أنواع التكفير المذكورة، وإنما لا بد في ذلك كله من مراعاة قلبه وحاله، فـ
المرجع في هذا التفضيل بين مكفر ومكفر للذنوب والمعاصي هو النظر إلى قلب صاحب المصيبة أو المبتلى بها. وهنا نقول:
إن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم سبقوا من بعدهم ولم يلحقهم من جاء خلفهم؛ لأن حقائق الإيمان كانت في قلوبهم أعظم من غيرهم، فصبرهم ليس كصبر غيرهم، فما صبر أحد كصبرهم، ولا أيقن أحد كيقينهم، ولا جاهد أحد كجهادهم، وإن كانت الصورة سواء، وما كانوا يصلون أكثر مما صلَى من بعدهم، بل الثابت من سير العلماء -كما في حلية الأولياء أو صفة الصفوة أو الطبقات لـابن سعد وغير ذلك من الكتب التي تتحدث عن أحوال العلماء والأئمة والصالحين -أن التابعين فمن بعدهم نقل عنهم من قيام الليل ودوام الذكر وقراءة القرآن أكثر مما نقل عن الصحابة، ولا يعني ذلك أنهم أفضل؛ لجملة أسباب، منها: أن الصحابة كانت الحقيقة الإيمانية عندهم من حقائق الإيمان كاليقين أو الصبر أو الإخلاص؛ تساوي تعب ذلك العمر كله، فربما تعادل قيام ذلك الليل كله ركعة واحدة من ركعات أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. فمن هنا كان التركيز على أهمية القلب وعلى ضرورة إصلاح القلب، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: (القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا صلح الملك صلحت الجنود) هكذا وإذا فسد الملك فسدت الجنود. ولذلك كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أكثر الناس إيماناً وأعلاهم درجة في هذا، ومن دلائل قوة إيمانهم أنهم كانوا يحتملون الوارد عليهم من هذه الحقائق، فـ الصحابي إذا ذكر الله تعالى وتأمل في ملكوت السماوات والأرض وقرأ شيئاً من كتاب الله ينزل على قلبه من حقائق الإيمان الشيء العظيم، ومع ذلك يظل ثابت الجنان، وهذا دليل على قوة الإيمان وقوة التحمل؛ إذ إن هذه الحقائق لو نزلت على قلب أحد ممن بعدهم ما احتملها؛ لأنها تكون عليهم أشد وفوق طاقتهم، ولهذا كان يكثر في حياة التابعين فمن بعدهم أن يسمع الواحد منهم الآية فيغمى عليه أو يسقط، وهذا في الصحابة قليل، فهل يقال: إن هؤلاء أكثر إيماناً بهذه الحقائق أو الواردات التي وردت على قلوبهم من الصحابة؟!والجواب: لا، لأن احتمالهم أضعف، أما الصحابة رضوان الله تعالى عنهم فإنهم كانوا يتحملون أقوى ما يرد على قلوبهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، فإذا عرض لأحدهم عارض من الإغماء ونحوه فعلى سبيل الندرة، وليس هو الأصل عندهم. كما حدث ذلك لمن بعدهم، حتى نقلت عجائب من هذا عن بعض العباد، فبعضهم كان إذا سمع القرآن لا يطيقه حتى يسقط، وبعضهم مات بسبب سماعه لبعض الآيات، ولا شك في أن هذه -إن شاء الله- خاتمة خير وعاقبة حسنة، لكن أقوى من ذلك وأفضل هو حال ذلك الذي إذا سمع القرآن استطاع أن يتحمل ما يرد على قلبه من المعاني، ومن هنا لا يمكن أن يقول أحد: إن من بعد الصحابة كانوا أفضل منهم، وبذلك نرد على الصوفية الذين يدعون أن أولياءهم وصلوا في العبادة إلى اليقين والدرجة العليا، ويستدلون بمثل هذه الأمور، حتى دخل بعضهم في النفاق -والعياذ بالله- من هذا الباب، وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس عجائب من هذا، وأن مما يلبس به الشيطان عليهم أنهم يكون أحدهم في المسجد بين عامة الناس فتتلى آية من آيات العذاب فيسقط أو يشهق أو يصيح، فيحمله الناس إلى البيت ويغمى عليه، ويتحدثون بذلك عنه، وهذا باب من أبواب الفتنة -نسأل الله العفو والعافية- لبس به الشيطان على بعض العباد. أما الصحابة رضوان الله تعالى عنهم فكانوا كما كان صلى الله عليه وسلم، كان صدره كأزيز المرجل يغلي، ولكن لا يكاد يشعر به أحد، وأحياناً لا يشعر به أحد ولا يكون له حتى الأزيز. فهؤلاء هم في الدرجة الأفضل والأمثل، وقد سلموا من تلبيس إبليس، وسلموا من الفتنة، وسلموا من أنفسهم من أن ترى أنها أقرب إلى الله كما قد يزين الشيطان، فإنه عدو ماكر لا يُؤمَن، فنسأل الله أن يعافينا أجمعين منه، ويعيذنا من شره وخبثه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.