إن أعظم الحكمة وأولها توحيد الله، ولا يمكن أن توجد حكمة ليس فيها توحيد لله، وكل حكمة بنيت على غير التوحيد فهي -كما أشرنا- مجرد إشارات أو علامات في ظلام دامس. فالحكمة الحقيقية هي ما كانت مأخوذة من التوحيد ومبنية عليه، ولذلك فإن الآيات التي تتحدث عن الحكمة في سورة الإسراء بدأت بالتوحيد وبالنهي عن الشرك في عبادة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا))[الإسراء:22] * ((
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))[الإسراء:23]، فذكرت بعد التوحيد طاعة الوالدين، والنهي عن الإسراف، وكيفية الإنفاق، والنهي عن الزنا، وعن قتل الأولاد، وعدم أخذ مال اليتيم، والوفاء في الموازين والمكاييل، والوفاء بالعهد، والنهي عن الكبر ((
وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا))[الإسراء:37]، وهذه الأمور كلها من الحكمة، قال تعالى: ((
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ))[الإسراء:39]، هذه هي الحكمة الحقيقية.
ثم قال: ((
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ))[الإسراء:39]، فختمها أيضاً بالنهي عن الشرك.
فأصل الحكمة وأساسها هو التوحيد، به تبدأ وبه تنتهي، ولا حكمة مع الشرك، ولهذا أنزل الله تعالى ثماني عشرة آية كلها في الحكمة، ولا يمكن أبداً أن يصل العالم إلى حكمة أعظم منها في توحيد الله سبحانه وتعالى، وفي معرفة حق الله، ثم حق الوالدين، ثم حق الأبناء، ثم حق الناس والتعامل معهم بجميع أنواع المعاملات، وانتهاءً بتربية النفس وتهذيبها على أن تكون صادقة أمينة وفية، غير متكبرة ولا متبخترة ولا مسرفة.. وهذا هو غاية الحكمة.
يقول ابن القيم : "فالحكمة التي جاءت بها الرسل هي الحكمة الحقة المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح، للهدى ودين الحق، لإصابة الحق اعتقاداً وقولاً وعملاً". وذلك كما ذكرنا في هذه الآيات من سورة الإسراء.