المادة    
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان كلاماً موجزاً وواضحاً يعين إن شاء الله على فهم هذه الطائفة التي تغلغلت ودخلت في الأمة، ولا يزال لها أتباع إلى الآن، وهناك الآن مدرسة في أمريكا تتبنى الأفكار القديمة -والتي تسمى بالفلسفة الخالدة- وتنشرها بين المسلمين، فلا شك أن التأثير والتأثر حاصل بين الماضي والحاضر، وأن هؤلاء لم يتركوا باباً ولا منفذاً لمحاربة هذا الدين إلا ودخلوا منه، ومن ذلك هذه الفلسفات.
يقول ابن القيم رحمه الله: "فصل في ذكر تلاعبه -أي الشيطان- بـالدهرية .
وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن صانعها -يعني الدهرية والفلاسفة -وقالوا ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))[الجاثية:24]"، ولذلك سموا: الدهرية، والزنادقة، فقيل: إن سبب تسميتهم بـالزنادقة هي من (زندقي)، وهي كلمة فارسية بمعنى الدهر أو الزمان، وهم لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمنون بالبعث من بعد الموت.
ثم ذكر بعض أصول فرقهم الثلاثة فقال: "فسرت هذه البلايا.." وهي بلاياهم التي هي: تعطيل الله سبحانه وتعالى، والقول بقدم العالم، وتعطيل الكون عن الخالق.. قال: "فسرت هذه البلايا الثلاث في كثير من طوائف الفلاسفة لا في جميعهم"، أي أنه ليس كل الفلاسفة على هذا التعطيل التي تدعيه هذه الطائفة.
ثم يذكر تعريف الفلسفة فيقول: "فإن الفلسفة من حيث هي لا تعطي ذلك"، أي: أن الفلسفة من حيث هي -كما يزعم أصحابها- لا تقتضي بالضرورة هذا الإلحاد، فقد يمكن أن يتفلسف الإنسان ويخالف هؤلاء؛ ولذا فإنهم فرق كثيرة جداً، يقول: "فإن معناها محبة الحكمة، والفيلسوف أصله (فيلاسوفا) أي: محب الحكمة، فـ(فيلا) هي المحب، و(سوفا) هي الحكمة"، وكلام ابن القيم رحمه الله هنا يدل على علمه وتمكنه؛ فإن المعلوم حتى الآن في قواميس اللغة: أن الفيلسوف معناها: محب الحكمة، أي أن الكلمة يونانية هندية يشترك فيها الهند واليونان؛ لأن الهنود والأوروبيين من جنس واحد وهو الجنس الآري، ولهذا فأصل الفلسفة واحد من بلاد الهند واليونان، وقد حصل بينهم نوع من التلاقح أو اللقاء الفكري.
فأصل الفلسفة ومعناها: محبة الحكمة، وكل من يحب الحكمة فهو فيلسوف أو يسمى فيلسوفاً؛ ولهذا فإن من أصح الأقوال في سبب تسمية الصوفية بهذا الاسم: أن الهنود يسمونهم (السوفية)، أي: سوفيا، ومعناها: الحكماء، أو أهل الحكمة، ثم لما دخلوا في الإسلام نقلت كما هي العادة في إبدال حروف الصفير بعضها ببعض، ونسي الأصل، وقيل: إنهم سموا بذلك نسبة إلى الصوف.
  1. أصح الطوائف حكمة من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل

    ثم يقول ابن القيم : "وأصح الطوائف حكمةً من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل"، فهناك أمم كثيرة تدعي الحكمة، ولهم أشعار وأخبار وأقوال وكتب في الحكمة، مثل كتاب: كليلة ودمنة - الذي وضعه الحكيم بيدبا وترجمه ابن المقفع، وبيدبا حكيم هندي قديم، وضع هذا الكتاب على لسان الطير؛ ليبين كيف يعيش الإنسان.. وكيف يتعامل.. وكيف تكون نتيجة المراوغة والخيانة، ونتيجة الصدق والكذب.. فهذه كلها من الحكمة؛ لأن فيها عبراً.
    ولا توجد هناك أمة ليس لها دين ولا إيمان ولا كتب؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا بشيء من ذلك، ولا يمكن أن تقوم حياة الناس بالفوضى، وإنما بشيء مما يضبط أمور الناس، ولهذا فإن الأمم التي ليس لديها كتاب ولا رسول تستفيد بمثل هؤلاء الحكماء؛ لأنها تعيش في ظلام دامس، والنبوة نور، فمن أشرقت عليه شمس الرسالة مشى في النور، ومن عاش دون رسالة فإنه في ظلام، لكن قد توجد في الظلام بعض العلامات من جذوع أشجار وأحجار، ربما يتلمسها الإنسان فيعيش شيئاً ما من الحياة في هذا الظلام، وهو أفضل من أن يعيش في ظلام ليس فيه أيُّ علامة.
    وهذا التشبيه هو الذي يمكن أن نصف به مثل هذه العلوم المتمثلة في حكمة الهند وحكمة اليونان، ومن حكمائهم: طاغور الشاعر الهندي المتأخر، الذي كان له حكم يقولها كثيراً، وفيها عبر، ومنهم: تولستوي، وهو حكيم روسي له حكم كثيرة قبل الثورة الشيوعية، ويقال: إنه أسلم، والله أعلم. ففي كل أمة يوجد حكماء يحاولون أن يعرفوها ضرورة استعمال العقل، وأن الخيانة لا خير فيها، وأن الصدق ضروري.. وهكذا، وكل أمة تسميهم: حكماء، وتفخر بانتمائهم إليها.
    إلا أن أعلى وأرقى وأفضل أنواع هذه الحكمة هي ما كان موافقاً لحكمة الأنبياء أو قريباً منها، فبقدر قربها مما جاءت به الرسل تكون درجتها في السمو، وبقدر بعدها تكون درجتها في السفول والعياذ بالله! وقد سمى الله سبحانه وتعالى ما أعطى الرسل حكمة؛ فهم أعظم الحكماء على الإطلاق، يقول ابن القيم رحمه الله مستدلاً لذلك: "قال الله تعالى عن نبيه داود: ((وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ))[ص:20]، وقال المسيح عليه السلام: ((وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))[آل عمران:48].."، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد الكثير من الآيات في وصف ما جاء به صلى الله عليه وسلم بالحكمة، ومن ذلك ما ذكره الله سبحانه وتعالى في حق أمهات المؤمنين: ((وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا))[الأحزاب:34]. وقد جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم بأمرين: بالآيات التي أنزلها الله عليه، وهي هذا القرآن، وبالحكمة التي أنطقه الله تبارك وتعالى بها، وهي الوحي الآخر، قال صلى الله عليه وسلم: {وإني أوتيت القرآن ومثله معه}.
  2. أصل الحكمة وأساسها هو التوحيد والنهي عن الشرك

    إن أعظم الحكمة وأولها توحيد الله، ولا يمكن أن توجد حكمة ليس فيها توحيد لله، وكل حكمة بنيت على غير التوحيد فهي -كما أشرنا- مجرد إشارات أو علامات في ظلام دامس. فالحكمة الحقيقية هي ما كانت مأخوذة من التوحيد ومبنية عليه، ولذلك فإن الآيات التي تتحدث عن الحكمة في سورة الإسراء بدأت بالتوحيد وبالنهي عن الشرك في عبادة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا))[الإسراء:22] * ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))[الإسراء:23]، فذكرت بعد التوحيد طاعة الوالدين، والنهي عن الإسراف، وكيفية الإنفاق، والنهي عن الزنا، وعن قتل الأولاد، وعدم أخذ مال اليتيم، والوفاء في الموازين والمكاييل، والوفاء بالعهد، والنهي عن الكبر ((وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا))[الإسراء:37]، وهذه الأمور كلها من الحكمة، قال تعالى: ((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ))[الإسراء:39]، هذه هي الحكمة الحقيقية.
    ثم قال: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ))[الإسراء:39]، فختمها أيضاً بالنهي عن الشرك.
    فأصل الحكمة وأساسها هو التوحيد، به تبدأ وبه تنتهي، ولا حكمة مع الشرك، ولهذا أنزل الله تعالى ثماني عشرة آية كلها في الحكمة، ولا يمكن أبداً أن يصل العالم إلى حكمة أعظم منها في توحيد الله سبحانه وتعالى، وفي معرفة حق الله، ثم حق الوالدين، ثم حق الأبناء، ثم حق الناس والتعامل معهم بجميع أنواع المعاملات، وانتهاءً بتربية النفس وتهذيبها على أن تكون صادقة أمينة وفية، غير متكبرة ولا متبخترة ولا مسرفة.. وهذا هو غاية الحكمة.
    يقول ابن القيم : "فالحكمة التي جاءت بها الرسل هي الحكمة الحقة المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح، للهدى ودين الحق، لإصابة الحق اعتقاداً وقولاً وعملاً". وذلك كما ذكرنا في هذه الآيات من سورة الإسراء.
  3. حكمة الأنبياء والرسل جمعت لمحمد صلى الله عليه وسلم

    يقول: "وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه وتعالى بين أنبيائه ورسله"، أي: أعطاهم حصصاً وأنصبة منها، "وجمعها لمحمد صلى الله عليه وسلم"، فغاية الحكمة قد جمعها محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: "كما جمع له من المحاسن ما فرَّقه في الأنبياء قبله، وجمع في كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه في الكتب قبله"، وزاد على ذلك.. "فلو جُمَعت كل حكمة صحيحة في العالم من كل طائفة، لكانت في الحكمة التي أوتيها النبي صلوات الله وسلامه عليه جزءاً يسيراً جداً لا يُدرِكُ البشر نسبته".
    فلو أخذنا أفضل ما عند الهنود من الحكم، والتي تأتي أحياناً في المجلات والجرائد وفي الإذاعة، باسم: حكمة اليوم، يقولون: قال بيدبا ... قال طاغور ... قال أفلاطون ... قال أرسطو ... فلو جمعنا أفضل ما عندهم من الحكم الصائبة الصادقة، وجمعنا جميع ما عند الأمم جميعاً وانتقينا أفضل ما عندهم؛ لكانت نسبتها بالنسبة إلى ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يدرك البشر نسبته، وذلك مثل نسبة أي معلوم إلى ما لا يتناهى، أي: مثل نسبة الشيء الثابت إلى ما لا يتناهى، وهي القاعدة الرياضية المعروفة، بمعنى: أنك لو افترضت أي رقم ثم نسبته إلى ما لا نهاية له؛ فإنه يكون لا شيء مهما كان هذا الرقم كبيراً.
    وهكذا كل حكم الحكماء بالنسبة إلى ما جاءت به الأنبياء والرسل -وخاصة محمداً صلى الله عليه وسلم- مهما كثرت؛ فإن نسبتها إلى هذه الحكمة الإلهية المبنية على التوحيد لا تعد شيئاً، ولا تكاد تعرف.
  4. معنى كلمة فيلسوف

    يقول: "والمقصود أن الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها"، هذا هو الأصل أن الفلاسفة اسم جنس عام لكل من يحب الحكمة ويؤثرها، ولذلك لما سئل أبو العلاء عن الشعراء الثلاثة المشاهير: المتنبي، وأبي تمام، والبحتري، وقد كان أبو العلاء فيلسوفاً ملحداً زنديقاً، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالملائكة ولا بالكتب ولا بالنبيين، فلما أراد أن يصنفهم قال: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري . لأن المتنبي وأبا تمام يأتيان بالحكمة في كلامهما، كقول المتنبي :
    الرأي قبل شجاعة الشجعان             هو أول وهي المحل الثاني
    أي: أن الرأي قبل الشجاعة، وهذه حكمة طيبة، وكثير من شعر أبي تمام حكم، كقوله:
    أما والله ما في العيش خير            ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
    فيقول أبو العلاء : إن الشاعر هو البحتري، أما المتنبي وأبو تمام فهما حكيمان، يأتيان بحكم تقبلها العقول، لكن الشاعر هو البحتري الذي يعبر عن مشاعر النفس، وعن أمور ليست مجرد كلام عقلي تقبله العقول، فـالبحتري شاعر لا يخاطب العقل فحسب، وإنما يخاطب الوجدان والشعور.
    الشاهد: أن الفلسفة اسم جنس عام لكل من يحب الحكمة، ولذا كان المعري يسمى: فيلسوف المعرة، وأحياناً إذا قرأت بيتاً من شعره تجد أنه قد كتب تحته: فيلسوف المعرة، وهو أبو العلاء المعري الزنديق الملحد.
    يقول ابن القيم: "وقد صار هذا الاسم" أي: اسم الفلاسفة "في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه"، وهذا هو المشهور الآن عالمياً، فعندما يقال: فيلسوف؛ فإنه يعني الذي خرج عما عليه الأنبياء، فهو لا يؤمن بالأديان وإنما يؤمن -في نظره- بالعقل، ولهذا أول ما بدأ الإلحاد عند الغربيين كان عن طريق الفلاسفة، وأشهر ملاحدة الغربيين هم فلاسفتهم، فإذا قلنا: فيلسوف؛ فإن معناه: أنه لا يؤمن بـالنصرانية، ولا يؤمن بما في الإنجيل، وإن قال: إنه فيلسوف نصراني، فهو من باب النسبة فقط، لكنه هو خارج عما في الأناجيل، وعما في العهد القديم والجديد، ولهذا يسمونه: المفكر الحر، والفلاسفة يسمون: المفكرين الأحرار؛ لأنهم تحرروا من سلطة الكنيسة ومن قبضة الدين التي كانت تفرض عليهم.
  5. الكلام على الفلسفة المشائية

    يقول: "وأخص من ذلك: أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المشاءون خاصة". وهذه هي الفلسفة المشائية، وقيل: إنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يفكرون وهم يمشون، وهذا نوع من الناس يفكر دائماً حتى وهو يمشي، ويتكلم وهو يمشي، وهناك طرفة كانت تقال للتندر والضحك، إلا أنها صارت الآن من الحقائق النفسية المعروفة، وهي: أن الفرق بين الجنون وبين الفلسفة شعرة لا غير، أي أنه لا فرق بينهما، فبإمكانك أن تقول عن المرء: إنه مجنون أو فيلسوف، فالفرق بينهما يسير جداً، فـ الفلاسفة يعيشون حياتهم يفكرون في أشياء خارجة عن واقع الناس.
    وهناك الفلاسفة النباتيون، الذين يعيشون على النبات ولا يأكلون اللحم، يقول أبو العلاء المعري :
    غدوت مريض العقل والدين فأتني             لتعرف عن بعض العلوم الصحائح
    يقول: إن الناس كلهم مرضى العقول، مرضى القلوب، مرضى الدين، فائتوني حتى تعرفوا العلوم الصحائح، ثم يبين هذه العلوم فيقول: فلا تأكل ما ألقت الطير... إلخ.
    أي: لا تأكل البيض، وهذا الكلام لما قاله أبو العلاء أُخذ على أنه حكمة عظيمة؛ لكن لو جاء مجنون لا يسمي نفسه شاعراً ولا فيلسوفاً، وقال: لا تأكلوا البيض ولا الدجاج، فسوف يسخر منه الناس، مع أن هذه العبارة وعبارة المعري واحدة، والفكرة واحدة، لكن لما جاءت على لسان أبي العلاء قالوا عنها: إنها حكمة عظيمة، ويفتخرون بها، ويصنفونها في أنواع الفلسفات، وعندما جاءت على لسان المجنون العادي قالوا: هذا مجنون! ومن هنا يتبين أن الفرق بين الجنون والحكمة شعرة، والدراسات النفسية الحالية تؤكد هذا الشيء تماماً، فإن المجانين إما فلاسفة أصيبوا بجنون، وإما هم مجانين في الأصل، فالفرق بينهما ليس بكبير.
    وإذا قيل: إن الفلاسفة يطلق على أتباع أرسطو، فإن المقصود: الفلاسفة المشاءون الذين يفكرون وهم يمشون، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم النور، وأرسل إليهم الرسل، وما ترك عز وجل -من فضله ورحمته- قرية إلا وبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياته، ولكنهم أعرضوا عن هذا الخير والنور، وأخذوا يمشون ويفكرون ويجتهدون بآرائهم الفجة المنحرفة، ولهذا أخرجوا ما سنذكره من أمور غريبة، لا يكاد يصدق العقل أن أحداً من البشر يقولها.
    يقول ابن القيم : "وهم الذين هذَّب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها"، أي أن أشهر من عرَّفها وشرحها من المنتسبين إلى هذه الملة، هو الرئيس -كما يسمونه- أبو علي بن سينا صاحب كتاب الإشارات، فهو الذي سهل كلام أرسطو وشرحه.
    يقول: "وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة "، لكن دخل معهم أعداء الإسلام المنافقون من الروافض ؛ لأن ابن سينا في الأصل رافضي، فقد ذكر شيخ الإسلام وابن القيم والذهبي في سير أعلام النبلاء، أن ابن سينا أصله من الإثني عشرية، ثم دخل في دين العبيديين، وتفلسف وأخذ بكلام المشائين.
    يقول: "ومقالتهم واحدة من مقالات القوم، حتى قيل: إنه ليس فيهم -أي: الفلاسفة القدماء جميعاً- من يقول بقدم الأفلاك غير أرسطو وشيعته"، أي أن كل الفلاسفة القدامى مقرون بوجود الله، وأن الله تعالى هو الذي خلق هذا الكون، والذين يقولون: إن هذه الأفلاك ليس لها أول، وهي تتحرك بذاتها، هم فرقة شاذة، وهم أتباع هذا المشرك الوثني أرسطو .
    يقول: "والأساطين -أي: من الفلاسفة- قبله كانوا يقولون بحدوثه -أي: بحدوث العالم- وإثبات الصانع، ومباينته للعالم، وأنه فوق العالم وفوق السماوات بذاته، كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم: أبو الوليد بن رشد"، وهو من المنتسبين للإسلام، وهو الذي عن طريقه عرفت أوروبا أرسطو، ولذلك فإن الغربيين يعدون ابن رشد فيلسوفاً أوروبياً، ويسمونه أفرَّش، ويعدون كلامه كلاماً أوروبياً، وهو الذي ترجم كلام أرسطو .
  6. شيخ الإسلام أعلم الناس بكلام الفلاسفة

    لقد كان ابن رشد أعلم الناس في زمانه بـالفلاسفة، إلا أنه جاء بعده من هو أعرف منه، فمن يقرأ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، يستطيع أن يقسم بالله باراً غير حانث أنه أعلم الناس بكلام الفلاسفة، فلا يمكن أن يوجد من هو أعلم منه، وهذه كتبه موجودة عندنا شاهدة بذلك.
    فلا نكاد نجد أحداً يعلم مذاهب الفلاسفة جميعاً مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، حتى إنه يعرف عن فلسفة كل مذهب منهم أكثر مما يعرفه بعضهم عن بعض؛ بل إنه يعرف عن فلسفة بعض الطوائف أكثر مما يعرف أساطينها عنها، ومن ذلك أنه يذكر كلام ابن سينا أو الفارابي عن أرسطو، ويصحح كلامهم، ويبين ما قد يقصده أرسطو من كلامه، ومخالفة غيره من الفلاسفة له -كـسقراط وغيره- وهذا شيء عجيب جداً من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرفته بكلامهم ونقضه له!
    وهناك فرق كبير بين شيخ الإسلام وبين غيره ممن رد على الفلاسفة، كـ أبي حامد الغزالي رحمه الله، الذي اشتهر عند الناس أنه أكبر من رد على الفلاسفة، وإذا ذكر عدو الفلاسفة قيل: إنه الغزالي ؛ لأنه ألف كتاب تهافت الفلاسفة، وفي أول كتابه هذا ذكر منهجه فقال ما معناه: (ونحن نستنصر على هذه الفرقة بكلام جميع أهل الإسلام من معتزلة، ومتكلمين، ومرجئة، وكرامية )، فهو يبين أن الفلاسفة خارجون عن جميع الملل، فكل الملل تحاربهم وترد عليهم، وهذا هو منهج الغزالي، أنه يرد عليهم بكلام كل طائفة؛ لأنهم أعداء لجميع الطوائف، بينما منهج شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يأتي بكلامهم كله ثم يبسط الرد عليهم، وإذا وجد أن أحداً ممن رد عليهم قد أخطأ، فإنه يخطئه ويرد عليه الرد الصحيح، وإذا انتقدهم البعض خطأً خطأه شيخ الإسلام، وقال: إن كلامهم لا يحتمل ذلك، بل قد يحتمل معنى آخر، ويصحح كلام منتقدهم، ثم يرد هو عليهم رداً من جميع الوجوه موافقاً للكتاب والسنة.. فأين شيخ الإسلام من الغزالي الذي يرد عليهم بكلام من يخالفونهم فقط، دون النظر إلى موافقة الكتاب والسنة؟!
    ولـابن رشد كلام عجيب جداً في كتاب مناهج الأدلة، والذي يتبادر إلى من يقرؤه أنه يحمل منهج أهل السنة والجماعة.. يقول ابن رشد : "القول في الجهة.. وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كـأبي المعالي ومن اقتدى بقوله -إلى أن قال-: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك".
    وإن من يقرأ كلام ابن رشد هذا فإنه يقول: هذا كلام صحيح يوافق منهج أهل السنة. وهو في الحقيقة خطأ؛ لأنه يساوي بين أقوال الحكماء وبين ما جاء به الأنبياء من تشريع عن الله عز وجل.
    وقد رد ابن رشد على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة بكتاب تهافت التهافت، فيقول له: أنت أيها الغزالي أشعري، وكلامكم أنتم الأشاعرة هو الذي لا يقبله العقل ولا النقل، أما نحن فإن كلامنا موافق للشرع لأن الشرع؛ والحكمة والفلسفة سواء. أي: أن كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، وكل ما جاء به أرسطو وأفلاطون حق، فهما سواء، ولا فرق بينهما.
    فالانحراف والخلل دخل على ابن رشد من هنا، ولذلك فقد أصبح أكثر انحرافاً وضلالاً من الغزالي أو من الأشاعرة، مع أنه يوافقنا على كثير مما نقول، لكن مشكلته أنه يقول ذلك، ويقول: إن الفلسفة والحكمة جاءت به، وتهدي إليه، فهما سواء.
    فهذه هي المخالفة المنهجية الواضحة بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أهل السنة والجماعة، وبين هؤلاء، فمنهج أهل السنة يقول: أولئك وثنيون مشركون ضالون، ولسنا بحاجة لهم على الإطلاق، ولا نذكر كلامهم أبداً إلا في مقام الرد عليهم، لكن ابن رشد يريد أن يجعلهما سواء.. فهذا حق وهذا حق، ونحن نقول: إنما الحق ما جاءت به الرسل، وأما أن العقول السليمة تدل على ما جاءت به الرسل، فهذا حق لا شك في ذلك، لكن ليس هذا من باب إثبات حكمة أرسطو وأفلاطون، بل كل عاقل فهو يرى في نفسه أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو غاية الحق، الذي لا تستطيع العقول أن تأتي بمثله أبداً.
  7. قدماء الفلاسفة كانوا يعظمون الرسل ولا يتكلمون في الإلهيات

    ثم يذكر ابن القيم كلاماً عجيباً يدل على علمه واطلاعه وإحاطته بالفكر العالمي، كما كان شيخه شيخ الإسلام رحمهما الله، فقد ذكر تاريخهم وتطورهم، مبيناً المتقدم منهم والمتأخر، والاختلاف الذي وقع بينهم، وهذا شيء عجيب!
    قد نقول: إن معرفة التاريخ في الوقت الحاضر أمر سهل، لكن قديماً كيف كانوا يعرفون؟!
    يقول ابن القيم : "وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم، العارفون فيهم -يعني من الفلاسفة- معظمين للرسل والشرائع، موجبين لاتِّباعهم، خاضعين لأقوالهم، معترفين بأن ما جاءوا به طور آخر وراء طور العقل"، أي: شيء لا يمكن للعقل أن يصل إليه.. "وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم"، وهو -تقريباً- نفس الاتجاه الذي أيده ابن رشد . قال: "وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات" أي: أن الفلاسفة القدماء قبل أرسطو كانوا لا يتكلمون في الإلهيات -وإن كان نسب إليهم كلام بعد ذلك- "ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل، ويقولون: علومنا إنما هي الرياضيات والطبيعيات وتوابعها"، فما ضرهم لو بقي الأمر على هذا النحو؟! ولذلك فإن أخطر قضية فكرية في العالم، أن الفلاسفة خرجوا من الكلام في العلوم الطبيعية والرياضية، وخاضوا في وجود العالم وفي قدمه، وفي نشأة الكون والحياة، فكفروا وأكفروا الناس، ولو أنهم اقتصروا على هذه العلوم لما كان هناك تعارض، فنقول لهم: اتركوا ما يتعلق بالإله وباليوم الآخر وبالغيب، ودعوه للرسل وللكتب، أما الطبيعيات والتجارب التي أمركم الله تعالى أن تبحثوا فيها، فلا بأس من الخوض فيها، فسيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، وانظروا ماذا في السماوات والأرض، لكن لا تتجاوزوا الكلام في أمور الغيب، ولو بقيت الأمور هكذا لما شهدت أوروبا -ولا العالم الذي أصبح كله تابعاً لها الآن مع الأسف- هذا الصراع الفكري، والعداوة بين العلم والدين، ولو ظلوا يبحثون في موضوع الطبيعيات والرياضيات، كما كان فيثاغورس وأرشميدس وغيرهم ممن كان باحثاً في هذه العلوم، وترك باب الإلهيات؛ لكان هذا أسلم.
  8. أرسطو هو أول من قال بقدم العالم

    يقول: "وقد حكى أرباب المقالات.." وهم المؤلفون في الفرق، والمقالات: هي اعتقادات الفرق، وذلك مثل مقالات الإسلاميين للأشعري، أي: أقوالهم ومذاهبهم وآراؤهم، يقول رحمه الله: "وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم أرسطو - وهو الذي يعدونه المعلم الأول- وكان مشركاً يعبد الأصنام، وله في الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، قد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام -أي: الذين انتسبوا إلى الإسلام- أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء"، حتى الفلاسفة الذين ينتسبون إليه، ولكونهم ينتسبون إلى الإسلام لم تستطع عقولهم أن ترضى أن يقروا أرسطو على كل ما قال؛ إذ أن فيه كلاماً لا يقبله العقل أبداً.
    ومن ذلك أنه "أنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئاً من الموجودات، وقرر ذلك بأنه لو علم شيئاً لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملاً في نفسه.. فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ".. سبحان الله! من كان هذا كلامه فهو أستاذ الضلالة والعمى.
    يقول: "وقد حكى ذلك أبو البركات، وبالغ في إبطال هذه الحجة وردها"، وأبو البركات عند الفلاسفة هو أبو البركات بن ملكا، فيلسوف من أهل بغداد في القرن السادس، عاش قبل شيخ الإسلام رحمه الله، وقد كان يهودياً فاعتنق الإسلام في آخر عمره، وألف كتاباً مطبوعاً اسمه: المعتبر في الحكمة، وهو على منهج ابن رشد تقريباً؛ فقد نقضَ وردَّ كلام الفلاسفة، وقال: إن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، ولذلك دخل في الإسلام، لكنه بقي متفلسفاً، ويشبهه في ذلك من المعاصرين روجيه جارودي ومصطفى محمود، وقلّ أن تجد أحداً أذهبت عقله الفلسفة ثم عاد سليماً، ولهذا فإن الخير أن يتجنبها الإنسان، وألا يخوض فيها إلا لمعرفة باطلها، مع تمكن الإيمان من قلبه؛ لأن من دخل فيها فإما أن يؤمن بها ثم يرجع، وإما ألا يرجع سالماً، ولهذا كان القاضي أبو بكر ابن العربي -وهو تلميذ من تلاميذ أبي حامد الغزالي- يقول: (شيخنا أبو حامد دخل في الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها)، وهكذا قلَّ من يدخل في الفلسفة في مرحلة الشك ثم يسلم وإن عاد واهتدى.
  9. حقيقة معلميهم: أرسطو والفارابي

    يقول: "فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه.."، فهو معلم أتباعه لا معلم المسلمين ولا الإنسانية كما يقال يقول: "فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه هو: الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر"، فهذه الأصول الخمسة كان يكفر بها أرسطو جميعاً.
    ثم ذكر ابن القيم تعظيم أتباعه له، وأنه وضع المنطق -كما أن الخليل بن أحمد وضع عروض الشعر- وأن الفارابي هو المعلم الثاني، لكن الفارابي وضع التعاليم الصوتية، كما وضع أرسطو التعاليم الحرفية، والتعاليم الصوتية التي وضعها الفارابي هي الموسيقى، فـالفارابي هو المعلم أو الفيلسوف الموسيقي الذي لم يعرف العالم القديم مثله؛ لأنه كان يضرب على القيثار فيهز القوم من الطرب حتى يضحكوا جميعاً، ثم يغير الضرب على القيثار حتى يبكوا جميعاً! هكذا كان يؤثر في القلوب الضعيفة المدمنة على هذا اللهو، لكن المؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أن هذا حرام، وقلبه قوي بالإيمان؛ فإن هذا اللهو والموسيقى عنده مثل نهيق الحمير أو نباح الكلاب، فيتأذى منه ويريد أن يفارقه ويبتعد عنه، فأصحاب القلوب المريضة الذين كانوا في عهد الفارابي كان يضحكهم ثم يبكيهم، وفي الأخير كان يعزف حتى يناموا جميعاً، ثم يخرج ويتركهم.. وهذا يدل على قوة التأثير!
    وهذا مما ينسب إليه، فهو المعلم في الموسيقى، وعند الفلاسفة أن الشعر والموسيقى هما أرقى الفنون، وبعضهم يجعل الفنون أربعة: الشعر، والموسيقى، والتمثيل، والحكمة، فأما التمثيل -ولله الحمد- فقد سلمت منه الأمة الإسلامية في تلك الفترة، وهذا مما نعجب له.. إذ كيف سلم المسلمون من التمثيل والمسرحيات، بالرغم من أنهم نقلوا كل ما عند اليونان؟! ولعل السبب -والله أعلم- هو أن الذوق العربي -والإسلامي عموماً- يرفض هذا التصنع، فلذلك أخذوا عنهم جميع الفنون، ولم يأخذوا كلامهم في المسرحيات وكيفيتها، ولا في أنواع الشعر؛ لأن العرب أصلاً يرون أن شعرهم غاية الشعر، وبيانهم غاية البيان، ويعتبرون كلام وشعر غيرهم رطانة أعاجم، ولذلك يسمي العرب الدابةُ: عجماء، ويسمون الذي لا يتكلم العربية: أعجمياً، وكأن الذي لا يتكلم العربية لا يتكلم شيئاً؛ لأنه لا يقول شيئاً ولا يفهم شيئاً إلا دعاءً ونداءً، ولذلك فلم يهتم أحد بترجمة كلام أرسطو في فن الشعر، فهذا أشد تلامذته حباً له يمر عليه مروراً عابراً لا يهمه أمره، لكن في هذا العصر، عصر الضعف والانحطاط، أصبحنا نسمع في المقابلات الشعرية من يقول: تأثرت بشعر إيليوت.. أو بشعر وردزورث، أو كلولردج، أو شيللي، وقد يكون تأثر بمن لا قيمة له عند قومه، فإن بعض الشعراء لا تعرفهم أممهم ولا دولهم، فأتينا نحن وأخذنا عنهم حتى الشعر، وأصبح القدوة هم شعراء الانحطاط من الغربيين وأشباههم، وكذلك فن التمثيل -كما يسمى- أخذ منهم برمته.. أفلام العنف، والجنس، والرعب، وكل المصائب، أخذها وقلدها -مع الأسف- متأخرو المسلمين، والله المستعان.
    فالمقصود: أن هذه الفنون الأربعة التي وضعها أرسطو، رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، ورد عليه أيضاً السيرافي، وغيرهم.
  10. منهج الفلاسفة في الكلام عن الدين وما يتعلق به

    ثم جاء المعلم الثاني بعد أرسطو وهو أبو نصر الفارابي، يقول ابن القيم : "وبالغ في ذلك" أي: الفارابي "، وكان على طريقة سلفه" يعني: على طريقة أرسطو "، من الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف في الحقيقة".
    هذه هي القاعدة عندهم، ففي أوروبا الآن إذا تحدث أحد عن الدين قالوا: ليس هذا فيلسوفاً، إنما هو مسيحي، ويقولون له: اذهب إلى الكنيسة ولا تتدخل في الفلسفة والعقل.. فالكلام عن الدين عندهم مهما جاء فيه من نظرية ومن تصور فإنه يعتبر من الدين وليس من الفلسفة في شيء، وهم إنما يخوضون في الفلسفة.
    وكل الجامعات العربية فيها أقسام خاصة بالفلسفة، مثل كلية الآداب في جامعة مصر؛ فإن فيها قسماً كبيراً للفلسفة، وقد تخرج منه أمثال الدكتور فؤاد زكريا، والدكتور زكريا إبراهيم، والدكتور علي سامي النشار، وفي جامعة الكويت قسم كبير ونشيط للفلسفة، فعند هؤلاء إذا أردت الكلام فلا تقل: قال الله وقال رسوله، ولو قلت: قال الله وقال رسوله، لقالوا: هذا دين فاذهب به إلى الأزهر!! فلا يبحثون في الدين، ولا يرون فيه أيّ فائدة، بل إن المهم عندهم هو الفكر المجرد، وعندما يتكلمون عن علم النفس الإسلامي، والنظريات الإسلامية، يأتون بكلام ابن سينا، والرازي وهو أبو زكريا الطبيب، والفارابي، ونصير الكفر الطوسي، فيوردون كلامهم على أن هذا هو كلام المسلمين، لكن لو تناول أحد موضوع: الإسلام والنفس. وقال: قال الله تعالى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))[الشمس:7-10]، وقال تعالى: ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا))[المعارج:19]* ((إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا))[المعارج:20]، أو ذكر أي آية تتكلم عن نفس الإنسان وطبيعته، وأكثر ما في القرآن هو الكلام عن نفس الإنسان، حتى الحديث عن التوحيد والإيمان في القرآن المقصود به هو إصلاح النفس، فموضوع القرآن هو إصلاح النفس بالإيمان والتوحيد والعبادة، لكن هؤلاء الملاحدة لا أحد منهم يقبل منك هذا الكلام، وكلام النظريات الإسلامية عن النفس هو عندهم ما يقوله ابن سينا وأتباعه، أي: ما ليس فيه رائحة الدين، إنما هو فلسفة محضة، فإذا تجرد الكلام من الوحي ومن نور الإيمان، أصبح عندهم راقياً وعالياً ومعتبراً به، فإذا قيل فيه بالوحي الذي هو النور أعرضوا عنه، وحالهم هذه مماثلة لما كان عليه الجاهليون من قبل : ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ))[الزمر:45].
    يقول: "فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك" أي: يكفر بهذه الأصول الخمسة، "فليس بفيلسوف في الحقيقة. وإذا رأوه مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، متقيداً بشريعة الإسلام، نسبوه إلى الجهل والغباوة". وذلك كما كان ابن سبعين يقول عندما يرى المسلمين يطوفون عند بيت الله الحرام، كان يقول والعياذ بالله: كالحمر تطوف حول الطاحون!! وهذا كلام من الكفر الشنيع والعياذ بالله! لقد كان يرى أن هذا الفعل غباوة، فيحتقرهم ويرميهم بالغباوة مهما تكن عقولهم.
    يقول: "فإن كان ممن لا يشكون في فضيلته ومعرفته، نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام"، فإذا وجدوا من لا يستطاع أن يشك في علمه وفي عقله وذهنه، لكنه متقيد بالدين، متبع للشريعة والإيمان، قالوا: هذا يضحك على الناس ليستدرجهم؛ لأن أكثر الناس -حسب زعمهم- عوام بهائم، فلو خاطبهم بالعقل لما فهموا، فيخاطبهم بالدين، ومن أعظم من يصفونهم بذلك الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؛ لأنهم لو قالوا: إن الرسل لا عقل لهم -عياذاً بالله- لَقَتَلَهَم أتباعُ الرسل، لكنهم يقولون: إن الرسل لبسوا على الناس. فهذا دليل على كفرهم بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله. قال: "فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة أو شرط"، فلكي يكون الإنسان فاضلاً عندهم فعليه أن يكون زنديقاً، وهذه هي نظرتهم.
    ثم يأتي ابن القيم رحمه الله بالإنصاف فيقول: "ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم، وليس هذا من جهله بمقالات القوم وجهله بحقائق الإسلام ببعيد، فإن الذي يقول هذا الكلام هو من يجهل كلام القوم ويحسن الظن بهم، دون أن يسمع منهم شيئاً، وكثير من الناس يقول: لا يعقل أن يقول فلان مثل هذه الأقوال! مع أنه لم يقرأ ولم يسمع له شيئاً، فهو يحسن الظن بهم من غير دليل ولا بينة، فالذي يدافع عنهم إما أنه يجهل ما عليه القوم، أو أنه يجهل الإسلام، بالرغم من إقراره بنسبة هذه الأقوال إليهم، وهكذا الناس: إما أن يجهلوا ما عليه أعداء الإسلام وأهل البدع، وإما أن يجهلوا السنة والإيمان، وما أكثر من يجهلهما معاً! فهو لا يعرف الأعداء ولا يعرف الإسلام، وإنما تراه يدافع بغير علم.
  11. عقيدة الفلاسفة في الله تعالى

    ثم يشرع ابن القيم في بيان إيمانهم بالتفصيل، فيقول رحمه الله: "فاعلم أن الله -سبحانه وتعالى عما يقولون- عندهم"، أي: عند الفلاسفة "، كما قرره أفضل متأخريهم، ولسانهم، وقدوتهم الذي يقدمونه على الرسل أبو علي بن سينا : هو الوجود المطلق، بشرط الإطلاق"، فالله تعالى عندهم وجود مطلق بشرط الإطلاق، أي: لا نقيده بأي صفة من الصفات، إنما وجود مطلق هكذا، "وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به"، أي: لا نقول: حي ولا قيوم ولا عليم ولا سميع ولا بصير، "ولا يفعل شيئاً باختياره ألبتة"، فينفون عنه الأفعال، فلا نقول: خَلَقَ، ولا رَزَقَ، ولا أعطى ومنع، ولا أضحك وأبكى، ولا أمات وأحيا، ولا أغنى وأقنى، فهم لا يؤمنون بهذا الكلام أبداً، "ولا يعلم شيئاً من الموجودات أصلاً"، وكما هو معلوم أن أكفر القدرية هم الذين ينكرون العلم، وهؤلاء يوافقونهم في إنكار العلم، وهذا من أوضح ما يكفَّر به الفلاسفة ؛ لأنهم ينكرون العلم، ابتداءً من أرسطو وانتهاءً بمن جاء بعده، قال: "لا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئاً من المغيبات، ولا له كلام يقوم به ولا صفة"، وهذا هو حال الله سبحانه وتعالى عندهم.
  12. الفرق بين الوجود الحقيقي والوجود الذهني

    يقول ابن القيم : "ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن، لا حقيقة له، وإنما غايته أن يفرضه الذهن ويقدره، كما يفرض الأشياء المقدرة".
    وهنا قضية مهمة جداً، وهي: الفرق بين الوجود الحقيقي والوجود الذهني، فالوجود الحقيقي: هو كل ذات موجودة في الخارج، مثل: فلان من الناس، أو جبل، أو شجر، أو بحر، فهذه ذوات موجودة في الخارج.
    والوجود الذهني: هو ما يفترض الذهن وجوده، وليس له وجود خارج الذهن ولا حقيقة له، مثل: قواعد العلوم، أو المعادلات الرياضية، والكيمائية، فهذه كلها أشياء تقدر في الذهن، ولا يوجد شيء منها في الخارج، فمثلاً: يقولون في النحو: الفاعل والمبتدأ والخبر مرفوعات، فما الذي جعلها مرفوعة؟ وما الذي نصب المنصوب؟ فنجد أنهم قدروا العامل ذهنياً، وقالوا: هذه كلها أشياء ذهنية وليس منها شيء حقيقي موجود.
    فهؤلاء الملاحدة جعلوا الله تبارك وتعالى، وجعلوا أمور الغيب أموراً ذهنية فقط وليس لها وجود؛ ولذلك كانوا أكفر الناس، وكانوا أبعد الناس عن الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم جردوه عن كل صفة، فهو -عندهم- لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله؛ لأنه عندهم لا يوصف بشيء؛ بل هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
    ثم بين ابن القيم أن الفرق بين هذا الرب الذي تخيلوه، وبين الرب الذي دعت إليه الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، هو الفرق بين الوجود والعدم، والنفي والإثبات، ثم قال: "فأي موجود فُرِضَ كان أكمل من هذا الإله الذي دعت إليه الملاحدة، ونحتته أفكارهم؛ بل منحوت الأيدي من الأصنام له وجود، وهذا الرب ليس له وجود، ويستحيل وجوده إلا في الذهن" فحتى الأصنام المنحوتة لها وجود، أما هذا الرب الذي يقدرونه فليس له وجود عندهم إلا في الذهن، وعليه فإن من عبد الأصنام أفضل منهم؛ لأن لها وجوداً على الأقل، وعبادها عبدوا شيئاً ما، أما هذا فليس له وجود أبداً.