المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان حق، والإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى).
(اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه، وسائر أهل الحديث، وأهل المدينة رحمهم الله، وأهل الظاهر، وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان) ]
.
بهذه الفقرة ندخل في مباحث الإيمان، وقد تقدم ما يشير إليها، وقد قلنا: إن الإمام الطحاوي كان يؤلف على مذهب العلماء المتقدمين، فلم يلتزم طريقة الأبواب والفصول، وإنما كان يكتب استرسالاً، فتأتي موضوعات الإيمان بعضها متقدم وبعضها متأخر، وكذلك تأتي موضوعات القدر والأسماء والصفات وغير ذلك.
والمقصود بهذه الفقرة بيان حقيقة الإيمان وتعريفه، وذكر الفرق التي خالفت فيه، وكيف نرد عليها جميعاً من خلال تعريفه عند أهل السنة والجماعة ؟
وهذا مبحث عظيم جليل، وقد ضلت فيه الفرق وتاهت فيه العقول قديماً وحديثاً، وزلت فيه الأقدام إلا قدم من ثبته الله تعالى.
والناس فيه بين خطرين: بين غلو المعتزلة وتفريط المرجئة ومن حذا حذوهم، والحق والوسط بينهما، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده والتابعون لهم بإحسان قبل ظهور هذه الفرق جميعاً، ثم بعد أن ظهرت رد عليها أهل السنة ، وبينوا المنهج الصحيح المتبع إلى هذا اليوم والحمد لله؛ إذ لا تزال دائماً طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله.
وقبل الدخول في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة نمهد بذكر نشوء الخلاف في الأمة في موضوع الإيمان ثم ندلف إلى الحديث عن حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة ، ومن ثم ننقض تعريف الشيخ من خلال ذلك، ولهذا لا يصح أن يعتمد كتاب شرح العقيدة الطحاوية في أبواب الإيمان؛ لأنه مبني على شرح هذه الفقرة، والفقرة عليها اعتراض، وكذلك الشرح عليه اعتراض، ولا بد من بيان الحق في هذه المسألة وإيضاحها مع الاعتذار للماتن والشارح رحمهما الله عن هذا الخطأ.
  1. مبدأ نشأة الخلاف في الأمة

    فنقول: متى نشأ الخلاف بين الأمة في موضوع الإيمان؟ وهل سبقه خلاف آخر؟ إذا قرأنا كتب الفرق والاختلاف نجد أنهم يقولون: إن أول خلاف نشأ في هذه الأمة في الخلافة، ويستدلون على ذلك بأن الصحابة اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة، فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال المهاجرون: لا يجتمع سيفان في غمد. ثم اجتمعوا على إمامة الصديق ، قالوا: فهذا أول خلاف وقع في الإسلام؛ لأنه وقع عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة قبل أن يدفن صلى الله عليه وسلم، وعليه فإن ما حصل أيام الإمام علي من خلاف وفرقة متأخر عن هذه القضية، هكذا قال البعض.
    والحق أنهم لا يوافقون عليه؛ لأن ما جرى في السقيفة لم يكن خلافاً، إنما كان رأياً قيل، ثم أجمع على البيعة لـأبي بكر ، فليس ذلك خلافاً بالمعنى الذي يتحدث عنه أهل الفرق، إذ ما نشأت عنه فرقة وتبنته عقيدة ومنهجاً، فهذا في الحقيقة لا يعد خلافاً، ولا يصح أن يقال: إنه أول خلاف وقع في هذه الأمة، ومن قال به من الفضلاء فإنه يعترض عليه، فعلى هذا لا تكون الإمامة هي أول اختلاف؛ لأن الأمة أجمعت على خلافة الصديق ، ثم على خلافة عمر ، ثم أجمعت على خلافة عثمان ، مع اختلاف كل منهم في سبب البيعة وكيفيتها، ثم أجمع على خلافة علي ، فالخلفاء الراشدون حصل لهم من البيعة والإجماع على كل منهم -ولا سيما أبي بكر وعمر - ما لم يحصل لأي حاكم في تاريخ العالم، حتى في الدول القديمة الرومانية أو اليونانية التي يقال: إنها كانت ديموقراطية، وحتى في العالم المعاصر، مهما زعموا أو ادعوا أن أحداً أجمعت أمته أو شعبه على اختياره، بغض النظر عن دينه أو مذهبه، حقاً كان أو باطلاً؛ لأن هذه ميزة ميز الله تعالى بها الخلفاء الراشدين، ولهذا لما أرادت الشيعة أن تطعن في هذه الميزة قالوا -قبحهم الله-: إن أبا بكر لم تجمع عليه الأمة؛ لأن مسيلمة الكذاب خرج! وهل مسيلمة الكذاب يؤخذ رأيه في مثل هذه الأمور ويعتد بخلافه؟!
    فما حصل من الاجتماع على الخلفاء الراشدين طواعية واختياراً ورضاً دليل على أن الله اختصهم بما لم يختص به أحداً قبلهم ولا بعدهم، ولا شك في أن ذلك بسبب المنهج السليم الذي كانت عليه الأمة -والحمد لله- قبل أن تمزقها الأهواء والفرق، وبسبب الإيمان الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا القرآن وهذا النور وهذا الهدى وحد القلوب وربطها وأبعدها عن التنافس على حظوظ الدنيا، وجعلها تعرف لكل امرئ قدره دون أن يطالب هو به أو يصر أو يلح عليه، ففي ديننا أننا لا نولي هذا الأمر من سأله، ولو أن أحداً في الإسلام ترشح فإنه بمجرد ترشيح نفسه وقوله: انتخبوني -سواء أكان ذلك في إمامة عظمى أم في أصغر الولايات- وبمجرد أن يزكي نفسه ويراها أهلاً لذلك؛ يكون ذلك داعياً لأن يجتنب.
    فالشاهد أن أمر الإمامة كان إجماعياً، فلا يصح أن يقال: إنه أول خلاف وقع في هذه الأمة، وقد مضى عهد أبي بكر ولم تختلف الأمة ولم تتنازع في شيء، وكذلك في عهد الفاروق لم يختلفوا ولم ينازعوا في شيء من أصول الدين، أما اختلافهم في بعض الأحكام الفرعية فليس هو المقصود هنا.
  2. ظهور الخلاف العقدي بنشأة الخوارج

    ثم إنه لما جاء زمن عثمان بدأت بوادر الفتنة تظهر، وفي عهد علي رضي الله عنه انكشفت وظهرت، فكانت أول فرقة انحازت عن جسم الأمة وتميزت عنه بمعتقد مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة هي فرقة الخوارج ، وهنا بدأ الخلاف الحقيقي.
    وأصل الخوارج هو ذو الخويصرة عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اعدل يا محمد، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله)، فهذا الرجل وجد أن المهاجرين والأنصار السابقين في الإسلام لم يعطوا من الغنائم شيئاً، وأما زعماء وأمراء المؤلفة قلوبهم -مثل الأقرع و عيينة و مرداس - فقد أخذوا من الشاء والإبل الشيء الكثير، فبالنظرة المجردة قال: أليس الذي يستحق الغنيمة هم المجاهدون السابقون؟! فكيف تكون للذين أسلموا قريباً فيعطون ويذهبون بالغنائم التي جاهد من أجلها السابقون الأولون؟! فنظره القاصر هو الذي جعله يقول: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله.
    إذاً: فأصل كفر الخوارج هو الغلو الذي ينسي صاحبه المصالح والمفاسد والأحكام المترتبة على الأعمال، ولذلك ما نظر إلى أن للنبي صلى الله عليه وسلم حكمة في هذا العمل وهو رسول الله، فمن باب أولى أن ينتقدوا على علي رضي الله عنه أو على أي إمام يأتي من بعده.
    فهذا الرجل الذي تخرج الخوارج من ضئضئه لم يصبر على ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم وقسمه بنفسه؛ لأنه يخالف ما يرى هو أنه حق.
    والواقع أننا إذا رأينا ما يخالف الحق في أنظارنا ننكره، وقد كان يحصل من بعض الصحابة إنكار ما يرون الحق في خلافه، كما حصل من عمر رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية، وفي أسارى بدر، ولكن هناك فرق كبير بين إنكار هذا الرجل وإنكار الصحابة، فمواقف الصحابة ليس فيها غلو، وإنما فيها قول الحق والنصح، وهما مطلوبان، مع إيمانهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم عدل يراعي المصالح والمفاسد، أما هذا فإنه ضرب على ذلك كله وأنعاه كله.
    فـالخوارج دفعهم الغلو إلى أن ينكروا المصالح والمفاسد بالكلية ليصبح اعتراضهم خروجاً واعتراضاً على فعل رسول الله وحكمه ودينه، وفرق بين الاعتراض والخروج وبين النصح وإبداء الرأي وإبداء المشورة، فهذه من العبر التي يجب أن نعرفها ونتعظ بها، فنحن في حياتنا العامة نتعرض لمقام يجب علينا النصح فيه لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن يجب أن نفرق بين هذا وبين الغلو الذي يفضي بصاحبه إلى الاعتراض على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
    إذاً: الغلو الذي حذر الله تعالى منه أهل الكتاب بقوله تعالى: (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ))[النساء:171]، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إياكم والغلو ) هو الذي وقع فيه الخوارج ، فغلوا في الإيمان، ولم يكن ذلك رغبة منهم في الكفر بالإيمان، فوصلوا بذلك إلى نهاية هي الضلال والانحراف والزيغ الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )، وقال فيهم: ( لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد ).
    فأول خلاف حقيقي وقع في الأمة هو خلاف الخوارج .
  3. تزامن ظهور الشيعة والخوارج وبيان منشأ ضلال كل منهما

    ولا اعتراض على من يقول: إن الشيعة هي الأولى؛ لأن الشيعة والخوارج خرجتا في وقت واحد تقريباً، لكن الشيعة لم تتحيز ولم تتميز عن المسلمين، وإنما كانوا بينهم مندسين ويقولون: نحن من أتباع علي ، ويخفون أقوالهم، حتى اضطر علي رضي الله عنه إلى أن يقف على منبر الكوفة ويقول مراراً وتكراراً: [إن أفضل الأمة بعد رسولها هما أبو بكر و عمر ، ولا أوتين برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد الفرية]، وكان يحذر الناس من الغلو فيه مراراً؛ لأنه يعلم أن هذا الفكر المبني على الاعتقاد الباطل مدسوس في الأمة، ولكن لم يتحيز ولم يتميز، أما الخوارج فإن أول أمرهم كان كذلك فكراً، ولكنه تحيز وتميز، فكانوا يتصايحون في جنبات المسجد: لا حكم إلا لله، ثم تميزوا في حروراء، ومن هنا سموا الحرورية ، وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي ، فأصبحوا جزءاً مستقلاً عن جسم الأمة، والسبب هو الغلو في قضية الإيمان، فهم يرون أن مرتكب الكبيرة كافر، ولم يكونوا في ذلك الوقت يقولون هذا النص، ولكن هذا هو السبب، فمن هنا كان الخلاف في الإيمان هو أول خلاف وقع في الأمة وظهر نتيجة الفتنة التي كان لها آثار خطيرة في هذه الأمة، وهذا ما قضاه الله وقدره عليها، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى -وأصحابه يرونه- صلاة رغبة ورهبة وتضرع إلى الله بأنواع من الضراعات، فرأى الصحابة الكرام ولحظوا ما لم يكونوا يلحظونه في صلاته من قبل، فقالوا: ( يا رسول الله! رأيناك صليت صلاة رغبة ورهبة، فقال: إنه قد أنزل عليَّ: (( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ))[الأنعام:65] ).
    فصلى صلوات الله وسلامه عليه هذه الصلاة وتضرع إلى الله أن يدفع عن الأمة هذه العقوبات، فلما تضرع إليه استجاب الله له في الأولى ثم استجاب له في الأخرى، قال: ( فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة )، فالذي لم يعطه النبي صلى الله عليه وسلم هو إيقاع الفرقة، كما جاء في الحديث الآخر: ( إن هذه الأمة أمة مرحومة فتنتها المال وعذابها الفرقة )، فالله من عليها أن لا يعذبها بسنة بعامة وبعذاب يستأصل شأفتها يرسله عليها من فوقها كما أهلك من قبلها عاداً وثمود وقوم لوط، أو من تحت أرجلها كما خسف بـقارون وغيره، فأكرم الله هذه الأمة بأن منع ذلك عنها، ولكن الفرقة عذابها حتى يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً كما في حديث ثوبان ، فلما وقعت الفرقة ووقع الاختلاف كان أول ما اختلفوا فيه هو هذه المسألة.
    وفي أول ما دار القتال لم يكن إلا بين طائفتين من أهل السنة والجماعة : بين أهل العراق الذين مع علي، وأهل الشام الذين مع معاوية ، وكان كل منهم مجتهداً، وقبل ذلك كانت معركة الجمل، ولكنها لم تكن بنفس الوضوح الذي كان في يوم صفين ، فقد كان كل من الفريقين في يوم صفين مترصداً للقتال، ويرى أنه بقتاله يحق الحق ويبطل الباطل، ونشأ منذ يوم صفين خلاف الخوارج ، فتحيزوا وخرجوا، وقالوا: لا حكم إلا لله.
    ومن هنا يجب التنبه إلى خطر وضرر الفتنة بين المسلمين، وأنه في أول الأمر يبدأ هوى ثم ينتهي بأصحابه ليصبح عقيدة ومنهجاً، وهذا ما نقل عن ذر بن عبد الله الهمداني الذي نسب إليه أنه أول من تكلم في الإرجاء كما ذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الإيمان وغيره، قال: كان رأياً رآه، ثم أخذ يكتب به إلى الأمصار. وجاء في بعض الروايات عند ابن بطة أنه قال: والله إنه للدين الذي بعث الله به نوحاً والنبيين من بعده! فانتقل من رأي إلى هذا الاعتقاد.
  4. أصل خلاف الخوارج والشيعة

    فالخلاف وقع بسبب هذا الغلو الذي ظهرت به الخوارج ، أما خلاف الشيعة فلم يكن غلواً، وإنما كان نفاقاً، حيث كانوا يظهرون أنهم يحبون الدين والإسلام وهم في الحقيقة زنادقة، ولهذا أقام علي الحد عليهم بالنار، وقال:
    لما رأيت الأمر أمراً منكراً            أججت ناري ودعوت قنبراً
    فأصل مذهب الرافضة هو النفاق، أما أصل مذهب الخوارج فهو الغلو، ولهذا نجد أن من ينتمون إلى مذهب الخوارج فيهم من العبادة وفيهم من الشدة في الحق الشيء الكثير، حتى إنه لما رآهم أبو سعيد و ابن عباس رضي الله عنهما تعجبا من شدة عبادتهم ومن شدة اجتهادهم، فقد كان يسمع لهم دوي كدوي النحل بالقرآن، وهذا ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحديث، حيث قال: ( تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم )، وكانوا يرون أن على الإنسان أن يتجرد من أهله ونفسه وماله للحق ولا يبالي بالمخالفين قلوا أو كثروا، وهذا غلو ناشئ عن صدق في التدين، ولكنه تجاوز حده إلى الغلو المذموم.
    أما من انتسبوا إلى الرافضة فالغالب عليهم في جميع العصور هو الزندقة، ولهذا دخلت تحتهم الباطنية وسائر الزنادقة، حتى قال رجل من جيران المحدث المشهور أبي الربيع الزهراني لما تاب وأناب -كما ذكر ذلك البخاري في خلق أفعال العباد ورواه غيره- قال: إنا وجدنا أن أقرب الناس وأيسرهم مدخلاً في هذه الأمة هم الرافضة فدخلنا للناس من بابهم.
    فالزنادقة الذين لا يؤمنون بالدين أصلاً يدخلون للناس من باب الرفض، حيث يبدءون بتكفير الشيخين وسائر الصحابة سوى علي وأبنائه ومن معه، ثم يعودون فينكرون على علي صنيعه، ثم ينكرون على الحسن تنازله، ثم ينتهون بتكفير الجميع ويخرجون الناس عن الإسلام بالكلية، وهذا هو هدفهم.
    فـالخوارج كفروا الناس بالمعاصي ولم يفرقوا بين معصية ومعصية، وكان نتيجة ذلك الانشقاق، وإذا أردت أن تعرف علامة مميزة من علامات أهل البدع فهي التفرق والانشقاق، فينشقون عن أهل السنة أولاً ثم ينشقون فيما بينهم؛ لأنهم يرون أن ما انشقوا به في الأصل عن الأمة متحقق لينشق بعضهم عن بعض، فيحصل الانشقاق بينهم، ويصبح هذا يكفر هذا وهذا يضلل هذا وهذا يبدع هذا، كما كانوا في الأصل فقد كانوا يبدعون ويضللون أهل السنة ، فكفروا عثمان و علياً ، وكانوا يقولون: لا بد من أن يسيرا بسيرة الشيخين، ولا نرضى إلا بأن يسيرا سيرة الشيخين!
    والحال أنه لو لم يسيرا بسيرة الشيخين فرضاً فما ذلك إلا لأن الله ميز الشيخين وجعلهما أفضل الأمة، ثم من جاء بعدهما كان دونهما، ومن كان كذلك هل تلغى بيعته وخلافته وإمامته ويجحد فضله كله، بل ويكفر ؟!
    ولما ناظرهم الصحابة قالوا: إن جئتمونا بمثل عمر بايعناه، وإذا لم تأتونا بمثله تركنا علياً وبيعته. وكانوا بضعة آلاف، فتركوا بيعة علي وأمروا عبد الله بن وهب رجل من أعراب بني راسب قال عنه ابن حزم : أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له في الإسلام ولا فضل، ولا شهد الله له بخير. فيا سبحان الله! استبدلوا بـعلي هذا الرجل وجعلوه مثل عمر رضي الله عنه! وهذا حال كل من غلا في شيء وترك الحق، أو فر به غلوه عن معرفة فضل المجتهدين في الأمة كالأئمة الأربعة والثوري و الأوزاعي و الليث بن سعد وأمثالهم، ورفض أقوالهم بالكلية.
    ونحن لا نريد التعصب، فمنهج أهل السنة والجماعة واضح في التعصب، لكن من رفض هؤلاء وأقوالهم لا بد له من فقيه، وهذا أمر طبيعي، فمن يكون فقيهه بعد ذلك؟! فبعضهم يأتي بأقوال الظاهرية ، وبعضهم يأتي بأقوال أشخاص لا يساوون شيئاً بالنسبة لهؤلاء الأئمة.
    فالسنة واحدة في القضايا العلمية والاعتقادية وقضايا الخلاف وفي كل الأمور، وهي أنه من أبى إلا الكمال واشترطه، وجحد وغمط من نقص عن الكمال؛ فإنه لن يأتي إلا بأنقص منه بكثير حتى لا يكاد يكون فيه شيء من الخير.
    لكن العدل والقصد والوسط أن الإنسان يعتقد أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الفضل يزيد وينقص، وأن الخير يزيد وينقص، وأن الله فضل بعض النبيين على بعض، وفضل بعض الدعاة على بعض، وفي كل خير، ولكلٍ فضله، ولكل اجتهاده.
  5. ضيق صدور الخوارج مما جرى بين الصحابة

    هذا هو السبب الأصلي الذي غلت وخرجت به الخوارج ، فكان مرتكبو الكبيرة الذي يتنازعون مع الأمة فيهم هم الصحابة رضي الله عنهم، وليس مرتكب أي كبيرة، لكن الجدل انتقل فيما بعد إلى كل من يرتكب الكبيرة؛ لأن الكبيرة الأساسية التي يرون أنها وقعت في الأمة هي الاقتتال، فضاقت نظرة الخوارج ، وهذا فيه عبرة وعظة يجب أن نعتبر بها، فقد ضاقت نظرتهم وضاق أفقهم، فقالوا: كيف يكون هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم حملة الحق وحملة الإسلام ومع هذا يتقاتلون فيما بينهم؟! لماذا لم يتفقوا؟
    وهل من اللازم أن كل من كان على الحق لا يخطأ ولا يجتهد؟
    ولهذا صرح بعض أهل الأهواء بنفوره من الجميع، وبعضهم مال إلى طائفة، وبعضهم -كـالخوارج - كفروا الطائفتين.
    ولو كان لديهم شيء من الفقه أو اتباع أهل السنة والجماعة في الأمة لعلموا أن ما وقع من اقتتال إنما هو اجتهاد في إحقاق الحق لا ينقص فضل هذا ولا ذاك، وإن إحدى الطائفتين لها أجران والأخرى لها أجر واحد، وأنه لا بد للإنسان المسلم من أن يحفظ لكل منهما قدره، وأن يمسك عما شجر بينهم، ولهذا لما سئل عمر بن عبد العزيز عما جرى من الفتنة قال: [تلك دماء عصم الله منها سيوفنا، فلنعصم منها ألسنتنا] مع تقديرهم واعترافهم وإقرارهم بفضل هذه الأمة كلها، لكن فيما شجر بينهم نقول: (( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[البقرة:134]، وبذلك يسلم الإنسان في ذلك، فلا ينكر فضلهم ولا يخوض فيما شجر بينهم، إلا من كان من أهل العلم والاجتهاد الذين يبحثون في الأمر لمعرفة الراجح من المرجوح، أما من ظن أن المسألة تخرج إلى حد التضليل أو التبديع أو أسوأ من ذلك -وهو التكفير- فلا.
    وعندما حدث هذا من الخوارج نشأت المرجئة التي تولدت وتربت في كنف الكوفة حيث الخوارج ، وحقيقة الأمر أن المرجئة هم شعبة من الخوارج في الأصل؛ لأن المختلف فيه هم الصحابة، فالخارجي يقول: علي كافر؛ لأنه خالف أمر الله، فيأتي خارجي آخر فيقول: لم يكفر، لأنه -وإن كان خالف أمر الله- كامل الإيمان، وهكذا يستمر الجدل يتناول مرتكب الكبيرة عموماً بسبب الغلو.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.