المادة    
وأما قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) فيشير به إلى أن هناك أموراً يدخل بها الإنسان في الإيمان، فإذا جحدها فقد كفر.
ويلحظ على هذه الفقرة أنها جعلت الكفر نوعاً واحداً، وهو الجحود، والحق أن الكفر أنواع، وأن هناك ما يكفر به المرء سوى الجحود، ومن ذلك الإباء والاستكبار، فمن أقر بوجوب الصلاة ثم تركها حتى عرض على السيف فلم يصل؛ فإنه يكفر بذلك؛ لأنه تركها إباء واستكباراً، وهذا النوع من الكفر مأخوذ من كفر إبليس: كما قال تعالى عنه: (( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ))[البقرة:34].
فالله تعالى خلق العباد وأمرهم، وشرع لهم ديناً أن يعبدوه وأن يطيعوه، وجعل أصل الدين هو أن يقر العبد ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلتزم بما شرع الله تعالى، فمن الناس من يقر بهذا ومنهم من ينكره، وكثير من الأمم أنكر الأمر نفسه، بمعنى أن الله إذا بعث إليهم رسولاً كذبوه فيما يأتي به، كما قال تعالى: (( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ))[فاطر:4]، (( مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ))[فصلت:43]، فهم يكذبون الرسول فيما جاء به وكأن الله لم يرسله ولم يأمره، وهذا نوع من أنواع الكفر.
والنوع الآخر كفر الذي يعلم ويقر، فيقول: نعم هذا جاء من عند الله، وأنت رسول من عند الله، ولكن لن نطيعك ولن نتبعك ولن نلتزم بدينك، فهذا كفر آخر هو كفر الإباء والاستكبار، وقد وقع، ومن أوضح الأمثلة على ذلك كفر أحبار اليهود، فالإباء والاستكبار كفر برأسه كما أن الشك كفر، وهو غير الجحود، فمن شك في الله أو في البعث أو في أن الله يحي الموتى ويبعث من في القبور، أو شك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو كافر.
وقد سبق أن فصلنا أنواع الكفر، والذي يهمنا هنا أن نبين أن الجحود نوع من أنواع الكفر، وأن كفر الإباء والاستكبار أغلظ وأشد من جهة أن فاعله يقر بأمر الله ومع ذلك يرفضه ويعترض عليه.
ومثل ذلك -ولله المثل الأعلى- أن ملكاً أرسل رسولاً إلى أناس، فقال الرسول: يا أيها الناس! إن الملك أرسلني إليكم وأمرني بكذا وكذا. فقال له رجل: أنت كاذب، فالملك لم يبعثك إلينا. فجاء آخر وقال: نحن نصدقك في أن الملك قد أرسلك، ولكننا لن ننفذ الأمر؛ فإن هذا الرجل يكون عند الملك أكثر عصياناً ورفضاً وعناداً.
فذاك كذب أدلة واضحة مما جاءت به الرسل الكرام الذين أرسلهم الله بالبينات والزبر والكتاب المنير، وكفره واضح ولا شك فيه، وهو كفر التكذيب أو الجحود، لكن الأخبث والأسوأ كفر الآخر الذي يقول: أعلم أنه من عند الله، وأن الله أمر به، ثم يرفضه.
فإبليس لم ينكر الوجوب، بل كان يعلم أن الله أوجب عليه السجود لـآدم عليه السلام، لكنه اعترض على أمر الله وقال: (( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ))[الإسراء:61]، وقال: (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12]، وهذا هو الكفر الأكبر الذي بسببه حصل كل كفر في هذا الوجود، فكل من كذب من الأمم رسل الله وكفر بآيات الله إنما كفر بإغواء إبليس؛ لأنه قال: (( أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))[الأعراف:14]، فأنظره الله، فأخذ يزين لجميع الأمم من أنواع الكفر ما يخرجهم به من الدين وما يكذبون به الرسل.
فأصل الكفر كله هو الاعتراض على الله تعالى والإباء والاستكبار عن أمره دون إنكار لهذا الأمر أو جحود له، فتبين بذلك أن كفر الإباء والاستكبار هو نوع آخر غير كفر الجحود والاستحلال، وأن الإنسان يكفر بهذا كما يكفر بهذا، وأن الكفر بالإباء والاستكبار إن لم يكن أقبح مطلقاً من الكفر الآخر فهو -على الأقل- أقبح من وجه.
فإذا اتضحت لنا هذه الحقيقة تبين لنا أن كلام الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله في هذه الفقرة عليه اعتراض، ولا بد من أن يعدل ويقيد، ولو أن هذه الفقرة ألغيت لما نقص المتن شيئاً؛ لأنه ليس فيها إلا تأكيد كما ذكر الشارح، ولهذا لم يشرحها، فهي تأكيد لسابقتها التي قلنا إن فيها نقصاً وإن عليها اعتراضاً، إلا أن هذا العبارة الأخيرة، وهي قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) أوضح من الأولى في الخطأ.
والحقيقة أنه يخرج من الإيمان بالجحود، وكذلك بالإباء والاستكبار، ويخرج بالشك أيضاً، ويخرج بالإعراض عن دين الله حين لا يتعلمه ولا يعلمه.
  1. سبب وقوع الطحاوي في خطأ حصر الكفر في الجحود

    وسبب وقوع الشيخ أبي جعفر الطحاوي في هذا الخطأ أنه حنفي، فمذهبه مذهب الإمام أبي حنيفة ، فاتبع الإمام في هذه المسألة، وهي أن الإيمان هو التصديق والإقتداء، وإن كان غير متعصب للمذهب كما سبق أن ذكرنا في ترجمته في أول شرح العقيدة، لكنه اتبع المذهب ظناً منه أن الخلاف قريب بين مذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الأئمة الثلاثة، والحقيقة أن هذه المسألة محل إجماع من السلف قبل ظهور المرجئة على ما سنبين -إن شاء الله- بالتفصيل.
    فوقع في ذلك نتيجة اتباعه لمذهب إمام متبوع، وليس الإمام أبو حنيفة وحده القائل بذلك، بل شاركه في ذلك بعض أئمة أهل الكوفة .
    وما ذكره الإمام الطحاوي في الفقرة التي بعد هذه يوضح ذلك، حيث لم يثبت أن الإيمان قول وعمل، ولذلك قال بعضهم: إذا كان الإيمان قولاً وعملاً فقوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) لا يصح؛ لأن الإيمان قول وعمل، وهذا جواب كامل؛ لأنه إذا أثبتنا أن الإيمان قول وعمل كان ترك العمل كفراً من غير حاجة إلى ذكر الاستحلال. ولكن ما المقصود بالعمل؟ هل هو أن يترك عمل القلب، أم يترك عمل الجوارح بالكلية؟
    فالقضية مبنية على تعريف الإيمان وحقيقته، فلما كان الإيمان عند الإمام الطحاوي هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان فقط كان ضد التصديق التكذيب أو الجحود، فلذا قال: لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه، قاصداً بذلك النكاية بـالمعتزلة و الخوارج وبيان بطلان مذهبهم الذي أخرجوا به مرتكب الكبيرة عن دائرة الإيمان، سواء ألحقوه بالكفر كما يفعل الخوارج ، أو جعلوه في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة ، وفيما سيأتي من كلامه يوضح لنا بجلاء خطأ هذه العبارة.