المادة    
ثم ختم ابن القيم رحمه الله تعالى هذا المبحث بمسألة لا بأس بأن نذكرها، وهي الرؤى والمنامات، والرؤى ليست دلائل مستقلة، فلا يرجع إليها في أخذ الأحكام الشرعية ومعرفة الحرام والحلال، وإنما درجتها في الدين هي ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جعلها من المبشرات، فهي مبشرات لأنها (جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، فليست دليلاً مستقلاً، إنما هي مبشرات يأنس بها الإنسان ويستبشر، وإذا كانت الرؤى من رجل صالح، ودلت العلامات التي يعرفها أهل التأويل على صحتها؛ فإنه يعمل بها بقدرها، كما في الأمانات، كمن يموت فيرى بعض الناس هذا الميت يخبره أن لديه أمانة لفلان مثلاً، ويتفرس في هذا وينظر فيوجد كذلك، وهذا كثير، وقد عمل بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذا.
فالمقصود أن الرؤى مبشرات، وأن التواتر حاصل في أن بعض الناس ينتفع في قبره بعمل صالح يقدم، أو يرتفع عنه العذاب أو يخفف بسبب من الأسباب في قديم الدهر وفي حديثه، كأن ييسر الله تعالى أو يقيض له من يدفع عنه دينه، أو يزيل منكراً صنعه، أو يذهب الله تعالى على يديه سبب العقوبة التي حلت به ويريد الله تعالى له الخير في ذلك.
  1. الأدلة من السنة على حصول التكفير ببعض أهوال يوم القيامة

    فالإنسان إذا فكر في هذه وجد أنها بإذن الله تعالى يمكن أن تكفي وأن تكفر عن بعض الناس، ومن أوضح الأدلة في هذا المقام الحديث الذي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تاركي زكاة بهيمة الأنعام، وفيه أن الإبل التي لم يؤد صاحبها حق الله تعالى فيها ( تأتي يوم القيامة كأغذ ما تكون وأكثره وأسمنه وآشره ) كمثل أكثر ما تكون في الدنيا سمناً وقوةً وبدانة، ( يبطح لها بقاع قرقر )، أي: يبطح صاحبها الذي كان في الدنيا يرعاها، وانظر إلى الخسارة، (( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[الزمر:15] ففي كل حياته كان يجمع هذه الإبل ويذود عنها ويسقيها ويرعاها ويهتم بها، ولم يؤد حق الله فيها وهو قليل، فيموت فيؤتى به يوم القيامة فيبطح لها بقاع قرقر، أي: في أرض منبسطة، وهي أسمن ما تكون وأبدن ما تكون، فتأتي جموعاً وراء جموع ( فتطؤه بأخفافها ) نسأل الله العفو والعافية ( فإذا جاءت أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) نسأل الله العفو والعافية.
    إذاً: يمتد العذاب بتارك الزكاة إلى أن يعذب بها خمسين ألف سنة، وبعد ذلك يرى سبيله، فإما من أهل الجنة وإما من أهل النار، فمثل هذا يحتمل أنه من أهل التوحيد ومن أهل النجاة وممن يدخلون الجنة ابتداءً، لكن وطأها له في الخمسين ألف سنة يكون قبل دخوله الجنة؛ لأنه قال: (فيرى سبيله) يعني: بعد هذا يرى سبيله، فهذا العذاب الذي حصل له والهول والكرب في المحشر يكون تكفيراً له ووقاية من دخول النار؛ لأنه قد يكون فيه الخير والصلاح، كأن كان يصلي أو يجاهد أو يذكر الله لكنه قصر في هذا الباب، فأهمل وسوَّف في زكاة ماله، فجاءه الموت وهو على هذه الحالة، ولم يمكن أن يطهر الله تعالى عنه بأعمال صالحة ولا بدعاء، ولم يجد من يدعو له، وكان بحكمة الله وبالميزان والعدل والقسط أنه لا بد من أن يعذب، ولكن ليس عذاباً يستمر به إلى أن يدخل النار، وإنما هو عذاب محدود بمدة الموقف في يوم كان مقداره خمسين ألف، سنة نسأل الله لنا ولكم الحفظ والحماية.
  2. ذكر بعض الرؤى لأهل الجنة أو النار من الأموات

    وذكر بعض الرؤى، منها: (ما رواه ابن أبي الدنيا قال: حدثني محمد بن الصائغ ، حدثنا عبد الله بن نافع قال: مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار، فاغتم لذلك، ثم إنه بعد ساعة أو ثانية رآه كأنه من أهل الجنة -فرآه مرتين: الأولى رآه فيها أنه من أهل النار، والأخرى رآه فيها أنه من أهل الجنة- فقال: ألم تكن من أهل النار -نسأل الله تعالى أن يعافينا منها-؟! قال: قد كان ذلك، إلا إنه قد دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه، فكنت أنا منهم) وليس على الله بعزيز أن يقع ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل بعض الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر في الدنيا وفي الآخرة، وجعل بعض الناس على العكس فنسأل الله العفو والعافية.
    فمن الناس من يكون له مثل هذا بإذن الله، وليس على الله تعالى بغريب أن يشفع رجل صالح تقي في أقربائه أو في جيرانه أو فيمن يحب، فهذا من فضل الله عز وجل.
    (قال ابن أبي الدنيا : وحدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثني بعض أصحابنا قال: مات أخي، فرأيته في النوم، فقلت: ما كان حالك حينما وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعياً دعا لي لرأيت أنه سيضربني به)، فانظر كيف أتاه آت بشهاب من نار فما حال بينه وبين أن يضربه به إلا أن داعياً دعا له، أي: أطلعه الله على أن داعياً دعا له من المؤمنين ممن شيعوه أو دفنوه أو علموا بموته، فدعا الله تعالى له فشفعه الله تعالى فيه وقبل الله دعاءه.
    وهذا يدل على الفرق بين المؤمنين وغيرهم، فالمؤمنون يعيشون وقلوبهم متعلقة مرتبطة بالآخرة، فلا ينساها المؤمن أبداً، إن قام تذكر الآخرة والقيامة والبعث والنشور، وإن نام تذكر ذلك أيضاً، وكل ما يراه أمامه يذكره بالآخرة، فإن رأى أرضاً خضراء تذكر قوله تعالى: (( كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ))[الزخرف:11]، وقوله تعالى: ((كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى))[البقرة:73]، وتذكر الموت وتذكر يوم القيامة، وكذلك إذا رأى السموات والأرض.
    ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل ويقرأ آخر الآيات من سورة آل عمران: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ ))[آل عمران:190-191] فنزهوا الله عن أن يكون قد خلق هذا باطلاً وقالوا: (( فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ))[آل عمران:191]، فتذكروا الآخرة.
    فالمؤمن يرى هذا الكون وهذه الكواكب المتلألئة وهذا السواد العظيم الهائل ويتأمل في سعة ملك الله، وينظر إلى الأرض وما فيها وما فوقها فيعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل ذلك، ويعلمه، ولا يخفى عليه من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار (( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ))[الأنعام:38]، وكل دابة فإن الله تعالى يرزقها أينما كانت ويغذوها، وكل ما نسمع عنه فهو عالم، ولهذا قال: (أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ).
    والدارسون اليوم في كليات الأحياء ودراسات الأحياء يدرسون أن النمل عوالم، وكل نوع من النمل عالم مستقل بحياته وطرائقه، وأن الحشرات عالم هائل كبير، وكل نوع من الحشرات له حياة خاصة، فسبحان الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
    وفي كل شيء له آية                         تدل على أنه الواحد
    فهذا هو الفرق بين من يؤمن بالله ويؤمن بالآخرة، وبين من قال تعالى عنهم: (( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ))[النمل:66]، وقوله: (( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ))[النمل:4].
    فالأمم الغربية اليوم ومن تفرنج من أبناء المسلمين وتلقى علومه منهم زين الله لهم هذه الأعمال، فكل كلامهم في الدنيا والحضارة والتنمية والترفيه والصحة والطعام والسياحة، وكل شيء في حياتهم يغمسك في الدنيا فقط، فهم في عمىً عن الآخرة لا يفكرون فيها أبداً، وهم مع شدة حرصهم وعنايتهم بالدنيا التي بلغت الشيء العجيب لا يلتفتون إلى الآخرة في شيء، فعندهم اهتمامات بالطفولة، فمن أول ما يولد الطفل ومن قبل الولادة ومن أول الحمل يهتمون اهتماماً عظيماً به وبطفولته، ثم بتعليمه، والعجزة عندهم لهم بهم اهتمام عظيم، وعندهم دراسات تخصصية في كل شيء، ومع هذه الجهود وهذه الدراسات والبلايين مما ينفق لا يلتفتون إلى اليوم الآخر، فهم في غفلة عظيمة جداً، ولا يتحدث عندهم عن الآخرة أحد حتى القساوسة والرهبان العمي الذين لا يعرفون عن الله ولا عن دين الله إلا عادات ورثوها وبدعاً ابتدعوها، ثم يذكرون الناس ويعظونهم كما يقولون، ولهذا لا يزدادون إلا عمى، وهم قلة قليلة، ولا يكاد يُسمَع لهم خاصة في أمر الآخرة.
    ثم يأتي كثير من المسلمين فيشاركون الكفار في هذه الغفلة العظيمة، فتوضع الخطط والبرامج في تنمية الأمة عامة، وتوضع للمجتمع خاصة، وتوضع للطفل، وتوضع للحي، ولا يحسب لليوم الآخر حساب، وهذا -والله- عجيب، فنعيش وكأننا لا نؤمن بالله ولا باليوم الآخر والعياذ بالله.
    انظر إلى وسائل الإعلام أربعاً وعشرين ساعة، وانظر إلى الصحافة لترى نصيب التذكير بالآخرة، مع أن هذه الحياة الدنيا ممر قصير إلى تلك الحياة الأبدية، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، (( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ))[النساء:77] فيترك الناس الأزكى والأبقى والأنعم، ويشتغلون بهذا الفاني القصير القليل الذي هو متاع الغرور، فيشترك في هذا المسلمون مع من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر مطلقاً، نسأل الله العفو والعافية.
    ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى إحياء القلوب وربطها باليوم الآخر، لا أن يستمع الناس لدعاء القنوت فيتذكرون أن لذائذ الدنيا ستنقطع عنهم فيبكون لفقدها كما قال بعض العلماء، لا نريد أن يتذكر المرء أن اللذات ستنقطع فيبكي عليها، ليس هذا هو المقصود، بل كما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وكما كان أصحابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )، فالغريب ليس معناه أنه لا يأخذ شيئاً ولا يحمل زاداً، بل الغريب كراكب استظل تحت شجرة، ولا أحد ينزل تحت شجرة فيأتي بأنواع الترف كالفرش الوثيرة والمكيفات وهو تحت شجرة سيتركها ويمضي، لا يتصور هذا.
    وحال المسلمين اليوم أشبه بالراكب الذي بلغ به الترف والبذخ حالاً ويزري بعقله ويضحك من يمر عليه ويراه فيه.
    فيجب أن يحيا القلب إحياء عاماً من خلال ربط قلوبنا وقلوب الناس عملياً بالله وباليوم الآخر في أقوالنا وفي أفعالنا وفي حركاتنا، فيتذكر الإنسان هذا اليوم فلا يغفل عنه، وإن قل قيامه بالليل، وإن قلت صدقته، وإن حرم من الدنيا لكنه لم يحرم من بعض معرفة أو علم بالخير والنوافل المستحبات وما أشبه ذلك، لكن هذا اليقين إذا وقر في قلبه فإنه إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، وإنما يفكر دائماً فيما عند الله، فهذا وحده من أعظم وأرجى الأعمال وأفضلها عند الله عز وجل، مع قيامه بالواجبات وما استطاع مما لا بد له من أن يفعله من نوافل الطاعات والعبادات.
    وبهذا يفترق المؤمن عن الكافر والتقي عن الفاجر، أما أداء الصلوات فلا شك في أهميته، والناس يصلون والحمد لله، لكن الصلاة قد تتحول إلى عادة، فقد يفعلها الإنسان وقلبه في قسوة، وقد يفعلها وشعوره في غفلة؛ لأنه لم يجد من يحيي ويوقض فيه الشعور الدائم، ولهذا كان القرآن أعظم واعظ وأعظم مذكر؛ لأنك إذا استعرضت القرآن لا تكاد تجد فيه موضعاً إلا وفيه تذكير -إما تصريحاً وإما تلميحاً- باليوم الآخر وبلقاء الله وبوعد الله وبوعيد الله، كما في سورة (إذا الشمس كورت) و(إذا السماء انشقت) و(إذا السماء انفطرت)، والقارعة، والزلزلة، والحاقة، والمعارج، وفي الطوال أكثر من ذلك، ففيها ذكر اختصام أهل النار، ومجادلة أهل الجنة أهل النار، وما تقول الملائكة لهم، وما يقولون لها، وما يقول لهم الله عز وجل، وما يقوله بعضهم لبعض، وهكذا في صور وأشكال ومشاهد كثيرة مؤثرة.
    ولذلك كان جدير بكل مسلم ألا يدع قراءة كتاب الله ما استطاع، فيقرؤه ويتزود من علومه ومعارفه؛ فإنه يدخل في قلبه الإيمان واليقين وهو لا يشعر، حتى العوام إذا قرءوا القرآن أو سمعوه يجدون حقائق إيمانية لا يستطيعون أن يعبروا عنها، ولا يدركون حقيقتها، لكنها تقع في قلوبهم، وهذا هو المقصود.
    ولكن الله سبحانه وتعالى يكرم العلماء بأن يعبروا؛ لأن علمهم يتضمن البيان، ولكن بعض الناس يسمع الآية فيكون كما قيل عن أبي الفرزدق غالب : إنه أراد أن يتعظ فسمع قارئاً يقرأ: (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ))[الزلزلة:7-8] فتعجب وقال: حسبك حسبك؛ فهذه الآية تكفيني، فماذا أريد بعدها من موعظة؟! وصدق، فيكفيك أن تعلم أن أي خير وإن قل فهو في ميزانك، وأن أي شر وإن قل فهو في ميزانك.
    وهكذا كثير من الناس يتصدع قلبه من آية واحدة، ويدخل فيه من حقائق الإيمان ومعانيه ما يعجز عن التعبير عنه فطاحل العلماء والبلغاء فضلاً عنه لكونه عامياً.
  3. قلة رؤى الصالحين في هذا الزمان لأهل الجنة أو النار

    ولنضرب على الغفلة عن الحقائق الإيمانية في أمورنا بمثال، وهو النوم الذي يدرسه الناس ويتعجبون منه، فهناك دراسات نفسية هائلة عن النوم، لكن ليس هناك من يدرس النوم أو الأحلام من زاوية إيمانية، ولذلك نلحظ في هذا العصر قلة رؤى الصالحين بالنسبة لمن قبلنا، ونحن لا نريد أن تصبح الرؤى من الكثرة بحيث يتجاوز بها الحد، فلو سألت أحدنا: هل رأيت في المنام أحداً من أهل الجنة أو من أهل النار مرة في عمرك؟ لأجابك بالنفي؛ لأنه ليس هناك اهتمام بالآخرة، فلا يفكر إلا في الدنيا؛ لأنه ينطبع في القلب صورة ما أنت مهتم به دائماً، كحال أهل الكرة وأهل اللهو وأهل اللعب وأهل الفسق والعياذ بالله.
    وانظر إلى دواوين الشعر وما ألف وكتب فيها عن طيف الخيال وأن الإنسان إذا عشق ينام ليرى من يحب وما أشبه ذلك، فكل إنسان تكون رؤياه من خلال ما يعتقد ومن خلال ما يقع له على الحقيقة.
    والحديث عن الرؤى والأحلام حديث طويل، ولكن أردنا استغلال هذه المناسبة لأن نقول: إن الإنسان ليعجب من قلة رؤى الصالحين في هذا الزمن، وما ذاك إلا لأمرين:
    الأول: أن الناس قل اهتمامهم بها، ولا يعلمون أن لها قيمة وأنها جزء من النبوة، فالنبوة ليس في هذا الوجود أعظم درجة منها، وهذا جزء منها، فجدير أن يهتم بها.
    الثاني: وهو المشكل والسبب الأكبر: هو انصراف الناس إلى المادة وإلى الحياة الدنيا وإلى الإيمان بالمحسوس انصرافاً جعلهم يتناسون أو ينسون هذا، ولذلك تجد بعضهم إذا رأى رؤيا ليس فيها ما يثير أو يستغرب يتصدع لها قلبه ويكثر من سؤال المعبرين والعلماء والمشايخ؛ لأنها غريبة عليه ما تعودها ولا عهدها.
    يقول ابن القيم رحمه الله تعالى نقلاً عن ابن أبي الدنيا: (وقال عمرو بن جرير: [إذا دعى العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره فقال: يا صاحب القبر! هذه هدية من أخ عليك شفيق] ) وهذا أثر وليس حديثاً.
    قال: (وقال بشار بن غالب : رأيت رابعة في منامي، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار بن غالب! هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير ...) إلى آخره، والمقصود أن هذا شاهد من شواهد الرؤى.
    قال: (قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو عبيد بن بحير قال: حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت أخاً لي في النوم بعد موته، فقلت: أيصل إليكم دعاء الأحياء؟ قال: إي والله، يترفرف مثل النور ثم يلبسه).
    فالرؤى هذه وغيرها تدل على ذلك، فكم من معذب في النار رؤي بعد حين وقد انقطع عنه العذاب، أو أخبر أنه كان معذباً ثم انقطع عذابه بصدقة أو دعاء أو عمل صالح أو شيء من فعل الخير.
    الشاهد أن هذا -إن شاء الله تعالى- لا غبار عليه، وأنه حق بإذن الله، وهو أن العذاب ينقطع عن بعض الناس في قبره.
  4. أهوال القيامة وتكفيرها لبعض أصحاب الذنوب

    هناك من تقوم عليه الساعة وينفخ في الصور وهو لا يزال في حاجة إلى أن يتطهر، بحيث لا يبلغ به ذنبه أن يدخل النار، فهؤلاء يتطهرون ويكفر عنهم بأهوال يوم القيامة من الصعق والفزع والنفخ في الصور، وهذا الحدث العظيم كيف تتصوره؟ لو كنت في عمارة فانهدمت كلها -نسأل الله أن يحفظنا وإياكم- بلغم أو صاروخ يأتي عليها كما يقع في الحروب نعوذ بالله من ذلك، فكيف لو أن المدينة بأكملها هزها بركان عنيف -والعياذ بالله- وهدت الجبال والعمارات وخدت الأخاديد؟!
    ولذا لما حدث زلزال في الجزائر كان مندوب إذاعة لندن -وهو ليس مسلماً- يقول عندما وصف الزلزال وهو في الجزائر : كأنه يوم القيامة. يعني أنه شيء عظيم جداً، وهذا في حدود منطقة أو مدينة أو إقليم، فكيف بزلزال يهد الأرض كلها ويبس الجبال بساً وينسفها نسفاً؟! وكيف إذا كان الزلزال في كل ما يسمى بالمجموعة الشمسية؟! وإذا كان الأمر كذلك فكيف بكل ما في هذا الوجود من كواكب وشموس وجبال وأنهار وبحار؟! فالبحار تسجر: (( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ))[التكوير:6] فتشتعل ناراً، وهذا ما لا يتصوره الإنسان، فلو فكر الإنسان في هذا الأمر لوجد الهول العظيم والكرب الشديد.
    ثم بعد ذلك الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى وما فيه من أهوال، يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، يلجمهم العرق فمنهم من يلجمه فلا يستطيع أن يتكلم، ومنهم من يبلغ إلى منكبيه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ولا يعلم طول هذا الموقف إلا الله جل جلاله، وقد تأتي النار تتلظى وتزمجر وتستأذن الله سبحانه وتعالى في أن تجتاح وتجتث الناس، وكم من الأهوال في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة على من طول الله عليه الحساب، نسأل الله لنا ولكم التيسير والتخفيف والرحمة، وأن يجعلنا جميعاً من الزمرة الأولى الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
    وفي إمكان كل إنسان أن يجتهد بإذن الله ليلحق بهم، فمن فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن جعل مع كل واحد أو مع كل ألف سبعين ألفاً رحمة من الله تعالى وتكرماً.
    فعند الميزان والصراط وتطاير الصحف لا يذكر الحبيب حبيبه، وينسى كل أحد صديقه كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها، فهناك مواضع ومواطن يتلاقى فيها الناس ويتحدثون، ولكن هناك مواقف ينسى الإنسان فيها كل أحد، فلا يذكر أحد أحداً، ولا سيما في هذه الثلاثة المواطن.
  5. مخاطبة الله للعبد وتذكيره بذنوبه وأثرها في تكفير بعض الخطايا

    ولعل مما يدل على ذلك أيضاً أنه إذا كان هناك من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ فذلك دليل بلا ريب على أن هناك من يدخل الجنة بغير حساب بعد جدال ومعاذير، ولو لم يكن إلا أن يدني الله سبحانه وتعالى العبد فيقرره بذنوبه لكفى، فإن هذا ليس بالهين، ولهذا كان بعض العلماء يقول: أكثر ما أخاف حيائي من الله يوم ألقاه. أي: يخشى الحياء من الوقوف بين يديه فيقول له: يا عبدي! فعلت وفعلت.
    وكان بعض السلف يقول: واسوأتاه! -وإن غفر- من الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى.
    فالعبد في الدنيا يستخفي من الناس الذين يرى فيهم الخير والصلاح، ولا يحب أن يطلعوا على ما قصر في طاعة الله، فكيف بالعزيز الجبار المتكبر الذي يدني عبده المؤمن؟! وإن كان يختم ذلك بقوله جل جلاله: (قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم).
    فهذا الموقف وحده كافٍ في أن يخاف المؤمنون منه، ويتمنى كل واحد منهم ويسعى ويجتهد ويحرص على أن يكون ممن يجوز بلا حساب ولا عذاب، وربما كان هذا حال من لا يتعرض لذلك الموقف مطلقاً، لكن هذا وحده أقل ما يكون وفيه ما فيه، وقد تصدعت له قلوب أقوام من السلف.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.