المادة    
المسألة الثالثة: هل التوبة تقبل من كل ذنب، أم أن هنالك من الذنوب ما لا تنفع فيه التوبة ولا تقبل؟ هذه المسألة مهمة، وحاصل ما فيها أن هناك ذنباً واحداً فقط اختلف العلماء في قبول توبة صاحبه، وهو القتل العمد؛ لقوله تعالى: (( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ))[النساء:93].
وهذه عقوبة مغلظة، حيث جعل الله جزاءه جهنم أولاً، ثم قال: (خالداً فيها)، فلم يكتف بالوعيد بالنار حتى جعله خالداً فيها، ثم قال: (وغضب الله عليه)، وهذه العقوبة الثالثة، ثم قال: (ولعنه)، وهذه العقوبة الرابعة، ثم قال: (وأعد له عذاباً عظيماً)، فهذه خمس عقوبات مغلظة جاءت في حق القاتل، فاختلف العلماء من السلف في قبول توبته.
فأما الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء فقالوا: إن التوبة تأتي على كل ذنب، وتقبل من كل مذنب، ولم يفرقوا بين القاتل وغيره.
  1. مذهب القائلين بعدم صحة توبة القاتل وأدلتهم عليه

    وذهبت طائفة من السلف إلى أن القاتل لا توبة له، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا مذهب ابن عباس المعروف عنه، وإحدى الروايتين عن أحمد)، ومن المعلوم أن الإمام أحمد إذا وجد في المسألة حديثاً مرفوعاً أخذ به، وإذا وجد فيها قولاً لأحد الصحابة يرى أنه قوي فإنه يقول به، فلذا تتعدد الروايات في مذهبه رضي الله عنه.
  2. آية النساء في قاتل المؤمن متعمداً

    قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقد ناظر ابن عباس في ذلك أصحابُه فقالوا: أليس قد قال الله تعالى في سورة الفرقان: (( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ))[الفرقان:68] إلى أن قال: (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ))[الفرقان:70] فقال كانت هذه الآية في الجاهلية) يعني: في أهل الجاهلية، (وذلك أن أناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة. فنزل: (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... ))[الفرقان:68] الآية، فهذه في أولئك) يعني: في المشرك إذا تاب وآمن (وأما التي في سورة النساء -وهي قوله تعالى: (( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ))[النساء:93]- فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم).
    هكذا رأى رضي الله عنه، ووافقه جمع من السلف منهم زيد بن ثابت رضي الله عنه، فإنه قال: (لما نزلت التي في الفرقان (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ))[الفرقان:68] عجبنا من لينها؛ فلبثا بعدها سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة)، والغليظة هي آية النساء.
    والنسخ عند السلف أعم من مفهومه عند علماء الأصول، حيث يطلق عندهم على تخصيص العام أو تقييد المطلق.
    قال رحمه الله تعالى: (قال ابن عباس : آية الفرقان مكية، وآية النساء مدنية نزلت ولم ينسخها شيء).
    وقد ذكر الحافظ ابن كثير -وهو أوسع من فصل في المسألة- بعد أن ذكر حكم القتل العمد وما جاء فيه من التغليظ أن الذين روي عنهم أنه لا يتوب هم هؤلاء، وذكر كلام ابن عباس الذي تقدم، وذكر عنه ما رواه سالم بن أبي الجعد قال: (كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس ! ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه! وأنَّى له التوبة والهدى؟! والذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بيده الأخرى يقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني. وايم الذي نفس عبد الله بيده! لقد نزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان)، قال أحمد شاكر : صحيح الإسناد.
    ثم قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر من رواه: (وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف: زيد بن ثابت و أبو هريرة و عبد الله بن عمر و أبو سلمة بن عبد الرحمن و عبيد بن عمير و الحسن و قتادة و الضحاك بن مزاحم ، ونقله ابن أبي حاتم) يعني: نقله ابن أبي حاتم في تفسيره المطول إن لم يكن أطول التفاسير في الأثر، حيث ذكر بأسانيده آثاراً عن هؤلاء من السلف الذين لا يرون توبة القاتل.
  3. حديث مغفرة الذنوب سوى الكفر والقتل العمد

    ومن أقوى ما يعتمدون عليه الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً )، وهذا الحديث صحيح أيضاً، وهو كقوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48].
    وأما الآيات التي تدل على أن الله يغفر كل ذنب فإنها تحمل على من تاب، وأما ما كان دون الشرك مما لم يتب منه فيتفق مع الآية: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فهذا الحديث هو أقوى ما يحتجون به.
  4. حديث: (إن الله أبى على من قتل مؤمناً)

    ومما يستدلون به ما رواه النسائي وغيره من حديث عقبة بن نافع الليثي أن رجلاً من الصحابة قتل رجلاً من الناس في غزوة بعدما شهد أن لا إله إلا الله، قال: فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام الرجل فقال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً من السيف، يقولها ثلاثاً ويعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل تعرف المساءة في وجهه فقال: ( إن الله أبى على من قتل مؤمناً ثلاثاً ) فاستدلوا بذلك على أن المعنى: أنه أبى أن يتوب عليه، إذاً: فلا توبة للقاتل.
  5. تعذر التوبة في حق القاتل من جهة النظر

    ثم قالوا من جهة النظر العقلي: إن توبة من قتل المؤمن عمداً متعذرة؛ لأنه لا سبيل إليها إلا بأن يستحل من المقتول أو بإعادة نفسه التي فوتها عليه إلى جسده؛ إذ التوبة هنا من حق آدمي، ولا تصح أي توبة من حق آدمي إلا بأحد هذين الأمرين، وكلاهما متعذر على القاتل، فهو لا يستطيع أن يستحله، ولا يستطيع أن يعيد نفسه إليه.
    قالوا: ولا يرد على هذا مسألة المال إذا مات ربه ولم يوفه إياه؛ لأنه يتمكن من إيصال مثله إليه عن طريق الصدقة، أما النفس فكيف يمكن أن يردها؟!
    قالوا: ولا يرد على هذا -أيضاً- أن الشرك أعظم من القتل وتصح التوبة منه؛ لأن ذلك محض حق الله، فالتوبة من الشرك توبة من حق الله تعالى المحض، فيقبلها الله تعالى متى ما وقعت، أما في حق الآدمي فالتوبة موقوفة على أدائه إليه أو استحلاله منه، وكلاهما متعذر.
    فانظر كيف عظم الله هذا الشأن! وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود أنه قال: ( أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء )، ولو كان المقتول ابنك، كما قال تعالى: (( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ))[الأنعام:151]، وقال تعالى: (( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ))[الإسراء:31]، وقرن تعالى القتل بالشرك في غير ما آية، وجعله تعالى من أكبر الكبائر، وهو الذي استحله كثير من الناس فقتلوا شعوباً وقتلوا دعاة وقتلوا شباباً صالحين في كل مكان، وما أكثر جرائم القتل في الدنيا! ولاشك في أن من علامات الساعة أن يكثر الهرج -والهرج هو القتل- حتى لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل! وهذا من الواقع، فنسأل الله أن يرحمنا ويرحم هذه الأمة، فهذا ذنب عظيم بلا ريب.
  6. القول بصحة توبة القاتل عمداً وأدلته

    قال الحافظ ابن كثير: (والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل).
    ولعلنا بهذا نصل إلى إمكانية التوفيق بين القولين، فالقاتل له توبة فيما بينه وبين الله، ولا يمكن لأي أحد أن يحول بين العبد وبين الله تعالى.
    قال رحمه الله تعالى: (فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملاً صالحاً بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طُلابته)، أي: يتكرم الله تعالى على المقتول فيرضيه بما يشاء، ويمن بالتوبة والقبول على القاتل.
  7. الإخبار في آية سورة الفرقان بقبول توبته

    قال رحمه الله تعالى: (قال الله تعالى: (( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ))[الفرقان:68] إلى قوله: (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا.. ))[الفرقان:70] الآية، وهذا خبر لا يجوز نسخه)؛ إذ النسخ إنما يدخل الأحكام كالأمر أو النهي، أما الأخبار فلا يجوز النسخ فيها؛ لأن النسخ في الأخبار تكذيب لها، ولا يمكن أن يخبر الله بخبر ثم يغيره؛ فإن هذا يكون تكذيباً، وحاشاه سبحانه وتعالى أن يقول إلا الحق.
    قال رحمه الله تعالى: (وحمله على المؤمنين) أي: حمل الوعيد الذي في آية النساء على المؤمنين: (وحمل هذه الآية) أي: التي في الفرقان (على المشركين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل) يرد بهذا على ابن عباس ، وقد وافقه على ذلك أكثر العلماء والفقهاء فقالوا: وإن صح ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وإن كان رضي الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن إلا أن هذا اجتهاد منه ورأي له. فخالفوه وقالوا: إن حمله آية الفرقان على المشركين الذين تابوا، وحمله آية النساء على من عرف الإسلام وشرائعه خلاف الظاهر، ولا نقره -وهو حبر الأمة- على ذلك، وهو من أعلم الناس بالقرآن وبالتأويل.
    والخلاف لا يتنافى مع الإجلال والاحترام والتقدير، فما من أحد إلا ويجل عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ولكن إذا رأى أحد أن الحق بخلاف ما قاله العالم أو المفتي وإن كان من الصحابة فإنه يذهب إلى ما يرى أن النص يدل عليه ولا يأخذ بكلام ذلك العالم، ولا حرج عليه في ذلك ولا يعد ذلك تنقصاً من قدر العالم أو من قيمته هذا ما كان السلف الصالح يعرفونه وكان هذا من بدهيات طلب العلم عندهم.
  8. عموم المغفرة في آية الزمر

    ومما استدل به لهذا المذهب قول الله تعالى: (( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ))[الزمر:53].
    قال ابن كثير: (وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك، كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه، قال الله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء، والله أعلم).
  9. حديث قاتل المائة نفس

    وذكر رحمه الله أن مما استدلوا به من السنة حديث قاتل المائة، فإن قيل: إن هذا الرجل من الذين من قبلنا، وحكمه في شرع من قبلنا، فكيف نستدل به في ديننا؟!
    فالجواب أن ظاهر إيراد النبي صلى الله عليه وسلم للحديث إقرار، ثم إن القاعدة في مثل هذه الأمور أن شرعنا دائماً أرحم وأخف من شرع من قبلنا؛ لأن الله رفع الأغلال ورفع الآصار عن هذه الأمة، فإذا هناك أمران فالأقرب لشرعنا في العموم هو الأخف، فكل ما أباحه الله لمن قبلنا أو رحمهم به أو خفف عنهم به، فالأصل أن لنا فيه مثل ذلك أو أوفر منه نصيباً، ولذلك يقول ابن كثير رحمه الله: (وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية السمحة) وهذا من فضل الله تعالى.
  10. تخريج الوعيد الوارد في حق القاتل عمداً في سورة النساء

    وقد يقال: كيف خرج هؤلاء مثل هذا الوعيد العظيم في الآية التي في سورة النساء، حيث ذكر تعالى فيها خمسة درجات من درجات الوعيد؟!
    والجواب: ما قاله أبو هريرة وجماعة من السلف في هذه الآية، حيث قالوا: [هذا جزاؤه إن جازاه]، والأثر بهذا اللفظ روي مرفوعاً، لكن لا يصح رفعه، إنما هو من كلامه رضي الله عنه.
    ولذلك قال العلماء: الصحيح أن هذه القاعدة سارية في آيات الوعيد ونصوص الوعيد كلها، مثل قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ))[النساء:10]، وكذلك قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .. ))[النور:19]، وقوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ))[البقرة:159].
    فنصوص الوعيد عند العلماء تبقى على إطلاقها وتبقى على عمومها، ولا نقول: إنها جاءت للتغليط، ولا نقول: إنها جاءت في المستحل، ولا نذهب -كما ذهبت المعتزلة و الخوارج - إلى أنه لا بد لكل من فعل ذلك من أن يعاقب، أي أنه كافر أو في منزلة بين المنزلتين، بل نقول: تبقى الآية والحديث على عمومهما وعلى إطلاقهما، ولكن لا يتحقق الوعيد ولا يقع للمعين إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع.
    وذلك هو معنى كلام أبي هريرة رضي الله عنه: (هذا جزاؤه إن جازاه)، فتكون آيات وأحاديث الوعيد دالة على أن حكمه هو هذا، وأما نفاذ الحكم فموضوع آخر، فقد ينفذ في أحد ولا ينفذ في آخر؛ لأن شرطاً لم يتحقق، أو لأن مانعاً قد وجد. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: (وكذا كل وعيد على ذنب، ولكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والإحباط، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، والله أعلم بالصواب).
    والقول بالموازنة والإحباط يقصد به أن الرجل قد يفعل ما يستحق به الوعيد، كأن يشرب الخمر أو يزني، وفي نفس الوقت يكون له من الأعمال الصالحة ما يزيد على تلك السيئة، فبذلك ترجح كفة الحسنات فيكون من أهل الجنة، فيتخلف الوعيد في حقه.