المادة    
  1. ذكر مذهب القائلين بتعذر التوبة في حقه

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد بقي من موضوع التوبة مسائل: الأولى: مسألة من أخذ أموالاً من حقوق العباد من غير حلها، ولم يستطع سبيلاً إلى ردها، كأن يكون أصحابها قد ماتوا ولا يعرف ورثتهم أو يجهلهم، أو حصل أي مانع من الموانع التي تحول دون معرفة أصحاب هذا المال، فلم يستطع أن يؤدي إليهم حقهم، فكيف يتوب مثل هذا؟ والجواب أن هذه مسألة خلافية، حيث قالت طائفة من العلماء: لا توبة من مظالم العباد وحقوقهم إلا بأدائها ودفعها إلى أربابها، وعلى هذا فمن تعذر عليه أداء حق العبد إليه فقد تعذرت عليه التوبة، فلا سبيل إلى التوبة، وليس أمامه إلا الانتظار إلى يوم القيامة ليأخذ أولئك من حسناته مقابل ما أخذ من حقوقهم. وقال هؤلاء: إن الله تعالى لا يترك حقاً لمخلوق أبداً، فحقوق العباد لا يتركها الله عز وجل، ولا بد من أن يوفيها أهلها ولو كان الحق لطمة أو كلمة أو رمية بحجر أو ما أشبه ذلك مما قد يحتقره بعض الناس، فإن الله تعالى يأخذ للمظلوم حقه من الظالم يوم القيامة. وقالوا: إن الحل أن يتدارك أمره بالإكثار من الطاعات. أي: إذا كان لا حل له إلا بأن يأخذ أولئك من حسناته يوم القيامة؛ فالمخرج أن يكثر من الطاعات والقربات وكل ما من شأنه أن يكفر سيئاته ويكثر حسناته ويثقل ميزانه، حتى إذا أخذ أولئك حقوقهم يوم القيامة بقي له شيء من العمل الصالح فاضلاً عما يأخذه أهل المظالم. قالوا: ومن جملة ذلك أنه يصبر على ما يظلمه به غيره من الناس، أي: كحال الدين الدنيوي؛ فإنه إن كان لك في الدنيا دين وعليك دين؛ فإنك تحيل من له عليك إلى الذي عنده لك، فكذلك يصبر هذا على أذى الناس وعلى غيبتهم وظلمهم له، فإذا كان يوم القيامة فإنه بدل أن يدفع من حسناته يحيل إلى أولئك، فيأخذ من حسناتهم ويعطي، فيخرج بذلك سالماً. وأما الأموال التي معه من الحرام فقد أجاب بعض العلماء بأنه يوقف أمرها ولا يتصرف فيها مطلقاً؛ لأنه لا يحل له أن يتصرف فيها. وقال بعضهم: بل يدفعها إلى الإمام أو نائبه؛ لأنه وكيل أربابها، فيحفظها لهم الإمام أو نائبه.
  2. ذكر مذهب القائلين بصحة توبته وبيان كيفيتها

    وخالفهم في ذلك طائفة من العلماء فقالوا: ليس هذا القول بالقول السديد، والصحيح أن باب التوبة مفتوح، وأن على هذا الرجل وأمثاله إذا تعذر عليه طريق إيصال الحق إلى أهله أن يتصدق بذلك الحق عن صاحبه، ثم إن عاد صاحبه فهو بالخيار: فإما أن يقره على ما تصدق به وله أجره، وإما أن يأخذ العوض، فيأخذ حقه ويكون الأجر للمتصدق الذي كان عليه الحق؛ إذ لا يجتمع العوض والمعوض.
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا مذهب جماعة من الصحابة، كما هو مروي عن ابن مسعود و معاوية و حجاج بن الشاعر) وذكر [أن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه روي عنه أنه اشترى من رجل جارية، فدخل ليزن له الثمن فذهب رب الجارية ولم يعد، فانتظره، فلما يئس من لقائه وعودته تصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عن رب الجارية]، فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر لي، وله من حسناتي بقدره.
    وذكر كذلك [أن رجلاً غل من الغنيمة، ثم تاب فجاء بما غله إلى أمير الجيش في أيام معاوية رضي الله عنه، فأبى أن يقبله وقال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا؟! فرده فذهب إلى حجاج بن الشاعر فقال له: يا هذا! إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم، فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم؛ فإن الله يوصل ذلك إليهم. ففعل، فلما أخبر معاوية بفتوى حجاج بن الشاعر قال: لأن أكون أفتيت بذلك أحب إلي من نصف ملكي، فأقره معاوية] ، فهؤلاء ثلاثة من السلف عملوا بذلك.
    ويقيس ابن القيم ذلك على اللقطة، فمن التقطها ثم عرفها فلم يجد ربها فإنه إما أن يتملكها، وإما أن يتصدق بثمنها عنه، فإن ظهر المالك خير بين الأجر وبين الضمان.
    وهذا هو القول الراجح -إن شاء الله تعالى- في هذه المسألة، وأما إنكار بعض الفقهاء على من يفتي به بقولهم: إن هذا من تصرفات الفضولي -إذ الفضولي هو الذي يتصرف في مال غيره بغير إذنه أو بغير وكالته-؛ فقد رد عليه ابن القيم بأن الإذن العرفي كالإذن اللفظي، ومن المعلوم أن صاحبه أشد رضاً بوصول نفع ماله الأخروي إليه، وأكره لتعطيله أو إبقائه مقطوعاً عن الانتفاع به دنيا وأخرى، فكيف يقال: إن مصلحة تعطيل هذا المال عن انتفاع الميت والمساكين به أرجح من مصلحة إنفاقه شرعاً، وهل ذلك إلا محض المفسدة.
    وقد أورد في ذلك قصة طريفة لـابن تيمية رحمه الله تدل على أن القائلين بهذا القول لا حجة لهم، ولا حكمة ولا مصلحة في أن يعمل الناس بفتواهم، حيث قال رحمه الله تعالى: (سئل شيخنا أبو العباس قدس الله روحه، سأله شيخ فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير إلى الآن، ولم أطلع له على خبر، وأنا مملوك، وقد خفت من الله عز وجل وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي) يعني: أنه كان مملوكاً لرجل فهرب منه ثم لم يعثر له على خبر، ويريد أن يتحلل منه، قال: (وقد سئلت جماعة من المفتين فقالوا لي: اذهب فاقعد في المستودع. فضحك شيخنا) رحمه الله، أي: ضحك من فتوى بعض الذين يفتون ولا يتأملون في الحكم والمصالح التي جاء الشرع لتكميلها، قال: (وقال: تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك) يعني: في وقت من الأوقات كانت الرقاب فيه أغلى ما كانت، وكنت أنت في شبابك أغلى ما يمكن، فتصدق بقيمتك عن سيدك (ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثاً لغير مصلحة وإضراراً بك وتعطيلاً عن مصالحك، ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك ولا للمسلمين) رضي الله تعالى عن شيخ الإسلام وأرضاه.
    فبهذا نعلم أن الحكم الشرعي في هذه الحالات هو أن تتصدق بالمال عن صاحبه.