المادة    
الحالة الثانية: حالة من تاب وأناب إلى الله تعالى وأتى إلينا وقال: أنا كنت تاركاً للصلاة، وأريد أن أتوب، فهل علي أن أقضي؟ فقلنا له: كيف كنت تترك الصلاة وأنت تعلم أنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وأن الله تعالى قال فيها كذا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها كذا، فبين أنه كان يعتقد أن الصلاة تسقط عن الواصلين! وهذه بدعة الصوفية التي تملأ العالم الإسلامي اليوم، فالضلالة الكبرى والفرية العظمى أن يترك من الخلق فرائض الله مدعياً وزاعماً أنه قد وصل إلى الله، وأن التكاليف إنما تجب على العامة لأنهم لم يعرفوا التوحيد، أما الخاصة وخاصة الخاصة الذين عرفوا التوحيد فهؤلاء لا يحتاجون إلى أن يأتوا بهذه الفرائض؛ لأن هذه مرحلة يفعلها المريد، وهم قد وصلوا وعاينوا الحق -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- إذ في نظرهم أنه قد اتحد المخلوق بالخالق تبارك وتعالى عن ذلك.
فإن كان الذي جاءنا تائباً منيباً من هذا النوع وقال: كنت أعتقد أنني بلغت درجة الواصلين، كما قال لي ذلك شيوخ الضلالة والطريقة التي كنت أنتمي إليها، والآن عرفت أن الصلاة لا تسقط عن أحد، ولو كانت ساقطة عن أحد لكمال علمه أو يقينه لسقطت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر و عمر و عثمان و علي وسائر الصحابة؛ لأنهم أعلم الخلق بالله وأكثرهم يقيناً وتصديقاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وما تركها أحد منهم إلا عند سكرات الموت، وقبل ذلك يصلي قاعداً أو على جنب أو على أي حال من الأحوال، فلم يتركوا الصلاة أبداً، بل كانوا يوصون بها، فقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حال الاحتضار، وأوصى بها قبيل موته، وأوصى بها عمر ، فهذه أهمية الصلاة عندهم.
ولا يمكن أن تسقط الصلاة عن مخلوق كائناً من كان ما دام حياً، وأما اليقين في قوله تعالى: (( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ))[الحجر:99] فهو الموت، فإذا مات سقطت عنه.
قال رحمه الله تعالى: (ومن كان أيضاً يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين أو عن المشايخ الواصلين أو عن بعض أتباعهم أو أن الشيخ يصلي عنهم) وهذه أيضاً من المصائب الكبرى التي ابتليت بها الأمة من شيوخ الضلالة، يقولون: إن الشيخ يصلي عنهم ويحفظهم، وبعض شيوخهم وصل به الحال كما فعل التيجاني وكما نسب إلى الشاذلي وإلى البدوي أنهما يقولان: من دخل أحد مريديه النار فليس بشيخ، ومن جاء مريده يستغيث به أو يدعوه عند قبره ولم يجبه فليس بشيخ! والتيجاني ينسبون إليه في كتبه أنه قال: لا يدخل النار من رآني أو من رأى من رآني أو من رأى من رأى من رآني إلى سابع راءٍ! والنبي صلى الله عليه وسلم رآه المشركون، ومنهم الذين آذوه في مكة وغيرهم من اليهود الذين رأوه في المدينة ، ومع ذلك هذا لم يكن له صلى الله عليه وسلم ما جعلوه للتيجاني ، حتى أبناء أبي بكر و عمر رضي الله عنهما وغيرهم من أبناء الصحابة ما ضمن لهم النبي صلى الله عليه وسلم الجنة لمجرد أنهم رأوا من رآه، ولم يقل: كل من رأى أبا بكر فهو حرام على النار، فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم؟! إنما يقرب كل إنسان عمله وتقواه لله عز وجل.
قال رحمه الله تعالى: (أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عباداً أسقط عنهم الصلاة، كما يوجد كثير من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد) والفقر عند الصوفية معناه غير الفقر الذي نعرفه في اللغة، وهو الحاجة، فالذي لا مال له ولا متاع فقير، بل الفقير عندهم هو في الحقيقة ترجمة لكلمة في دين الهندوس والبوذيين وأشباههم بمعنى: الزاهد المنقطع الذي انقطع للرهبانية على دينهم الذي يتعبدون به، ولهذا قال بعض الصوفية : إن الفقر هو الله! تعالى الله عن ذلك.
فهؤلاء يعنون بالفقر مصطلحاً آخر غير ما يعرفه الناس، فلو أن أحداً منهم قال: إنا نحن -أهل الفقر وأهل الزهد- قد أسقط الله عنا الفرائض؛ فهذا نسميه تارك الصلاة متأولاً، وهذا من أقبح أنواع التأول في الحقيقة؛ لأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يصل الجهل بمسلم أو سوء الظن أو الجهل المركب إلى أن يظن أن الصلاة تسقط بمثل هذا التأويل.
قال رحمه الله تعالى: (فهؤلاء يستتابون باتفاق الأئمة، فإن أقروا بالوجوب وإلا قوتلوا)، أي: إن أقروا بالوجوب أجبروا على أدائها، ويكونون من جملة المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا )، ومن لم يفعل ذلك فليس له هذا الحق، وكما قال تعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11]، فتبدأ الأخوة في الدين لهم منذ أن يصلوا، فإن أبوا وجحدوا وجوبها عليهم فإنهم يقاتلون قتال المرتدين.
قال رحمه الله تعالى: (ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولي العلماء)، فليس عليه أن يعيد الصلوات التي تركها تأولاً.
قال رحمه الله تعالى: (فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين وإما أن يكونوا مسلمين جاهلين للوجوب)، يعني: أن تارك الصلاة لا يخلوا من أن يعلم أن الله تعالى أمره بهذا الركن العظيم ثم يتركه، فهذا مرتد، أو أن يكون جاهلاً بالوجوب.
قال رحمه الله تعالى: (فإن قيل: إنهم مرتدون عن الإسلام فالمرتد إذا أسلم لا يقضي) يريد أن يلزم الفقهاء المخالفين الذين قالوا: إنه يجب عليه القضاء، فقال: إما أن نقول: إنهم مرتدون، وإما أن نقول: إنهم جهال، فإن كانوا مرتدين فالمرتد إذا أسلم لا يجب عليه القضاء، واستدل لذلك بأن الكافر لا يقضي إذا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، وإنما يبتدئ عليه الوجوب منذ أن أسلم باتفاق، ولا نقول له: اقض ما تركت من الصلاة منذ أن بلغت إلى الآن. وهذه قضية متفق عليهما بين العلماء، أي أن الوجوب يبتدئ في حقه منذ إعلان إسلامه، فتبعاً لذلك قال جمهور العلماء: كذلك المرتد لا يجب عليه أن يأتي بما ترك في حال كفره وردته.
قال رحمه الله تعالى: (ومذهب مالك و أبي حنيفة و أحمد في أظهر الروايتين عنه، والأخرى: يقضي المرتد كقول الشافعي ، والأول أظهر).
ثم شرع يأتي بالأدلة على ذلك فقال: (فإن الذين ارتدوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كـالحارث بن قيس وطائفة معه أنزل الله فيهم: ((كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ))[آل عمران:86]، وكـعبد الله بن أبي سرح ، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر وأنزل فيهم: (( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ))[النحل:110]، فهؤلاء عادوا إلى الإسلام، وعبد الله بن أبي سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأمر أحداً منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة)، وهذا معلوم وثابت في السيرة، بل عاملهم معاملة الكافر إذا أسلم.
قال رحمه الله تعالى: (وقد ارتد في حياته -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- خلق كثير اتبعوا الأسود العنسي الذي تنبأ بـصنعاء اليمن ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام ولم يؤمروا بالإعادة)، فـالعنسي ارتد معه خلق كثير، وعظمت به الفتنة والمصيبة حتى سلط الله عليه من قتله وهو على فراشه، فعاد أولئك إلى الدين، وكان ذلك قبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يأمرهم صلوات الله وسلامه عليه بأن يعيدوا ما تركوا من الفرائض في حال ردتهم.
قال رحمه الله تعالى: (وتنبأ مسيلمة الكذاب واتبعه خلق كثير)، وهؤلاء كانوا في اليمامة، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم ما يزالون على ردتهم، فجاء من بعده خليفته الصديق رضي الله عنه فقاتلهم هو والصحابة حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته صلى الله عليه وسلم.
قال: (وكان أكثر البوادي قد ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام)، وذلك أنه عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر أكثر العرب وارتدوا، ولم يبق على الإسلام إلا ثلاث مدن، وهي مكة و المدينة و الطائف ، وكذلك في البحرين بنو عبد القيس ومزينة، وأما أكثر العرب -ومنهم أهل البوادي- فقد ارتدوا؛ لأن العقلية العربية والعقلية الجاهلية في كل زمان ومكان تربط دائماً المبادئ والعقائد بالأشخاص، فإذا مات الشخص قالوا: انتهى دينه، هكذا ظنوا هذا الظن الباطل بالدين الذي أنزله الله تعالى ليبلغ ما بلغ الليل والنهار وليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، وهكذا ظنوا ظن السوء بالله تعالى وبدينه، فقالوا: مات محمد ومات دينه. وظنوا أن الأمر سوف يرجع جاهلية كما كان، فيرجعون إلى عكاظ ومجنة وذي المجاز والأشعار والأخبار ونهب الطرق وعبادة الأصنام، وأن أمر النبوة قد انتهى وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ملك رحل فماتت مبادئه معه، هكذا كان الغالب عليهم؛ لأن الإيمان لم يدخل في قلوبهم، أما من آمن من أهل تلك المدن الثلاث وما حولها، وكذلك من كانوا في البحرين وغيرها ممن ثبت الله تعالى الإيمان في قلوبهم؛ فإنهم كانوا أكثر علماً بالله وأكثر يقيناً وثقة بوعده ونصره لدينه.
فهؤلاء أيضاً تركوا دينهم وارتدوا، فقاتلهم الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم ولم يأمروا أحداً منهم بأن يقضي ما كان قد فاته من الصلوات.
قال رحمه الله تعالى: (وقوله تعالى: (( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ))[الأنفال:38] يتناول كل كافر يتوب)، فمن تاب غفر الله له ما قد سلف، وهذا فضل من الله ونعمة، وهذا باب عظيم من أبواب الدعوة وتأليف القلوب، فإن كان كافراً أصلياً فإن باب الله تعالى مفتوح، فما عليه إلا أن يشهد شهادة الحق وأن يؤمن بالله حقاً ويدخل في هذا الدين عن صدق وإخلاص، فيكون كواحد من المسلمين ويغفر له ما قد سلف، وهذا -والحمد لله- دعوة وفضل من الله وتأليف للقلوب.
وكذلك من غلبه شيطانه أو جهله وغيه وارتد بعد أن عرف الحق، فإنه يخاطب بذلك أيضاً، فيظل أمامه الأمل مفتوحاً وباب التوبة مفتوحاً ليعود إلى رشده ويتوب إلى الله، هذا على اعتبار أن هؤلاء حكمهم حكم المرتدين.
وأما إذا كان حكمهم حكم الجهال -كهؤلاء الصوفية المتأولين الذين لا يصلون زاعمين أن الصلاة تسقط- فهؤلاء إن لم نقل: إنهم يلحقون بالمرتدين، فهم يلحقون بالجهال الذين لم يعلموا الحكم.
قال رحمه الله تعالى: (وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالاً بالوجوب، وقد تقدم أن الأظهر في حق هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاة على الوجه المأمور، ولا قضاء عليهم، فهذا حكم من تركها غير معتقد لوجوبها)، فهؤلاء يشملهم جميعاً أنهم كانوا غير معقتدين للوجوب وإن اختلف السبب، فهذا يعتقد أنها غير واجبة؛ لأن الشيخ يصلي عنه، أو لأنه من العارفين، والآخر يعتقد عدم وجوبها؛ لأنه لم يبلغه حكمها مثلاً.