المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيقول ابن القيم رحمه الله: (ومن أحكامها أن العاصي إذا حيل بينه وبين أسباب المعصية وعجز عنها بحيث يتعذر وقوعها منه هل تصح توبته؟) يعني أن المجرم أو المذنب إذا عجز عن الإتيان بالمعصية وأصبح تركه لها عن عجز وليس اختياراً منه لتركها، فهل له أن يتوب، أم لا توبة له؟
وقد مثل رحمه الله تعالى لذلك بالكاذب والقاذف وشاهد الزور إذا قطع لسانه أو خرس لأي سبب فلم يستطع الكلام، وقد كان قبل كاذباً أو قاذفاً أو نماماً أو مغتاباً، فانقطع هذا العضو الذي يكون به الذنب، ولم يعد في إمكانه أن يأتي بهذا الذنب، وكذلك الزاني إذا جُب، ومثله الشيخ الهرم إذا كبر ولم يعد يستطيع الزنا، فتركه للزنا عن عجز وليس عن توبة، وكذلك السارق إذا قطعت أطرافه، والمزوِّر إذا قطعت يده، وشارب الخمر إذا فقدها في مكان لا يمكن أن يجدها فيه أبداً، ونحو ذلك.
  1. القول باستحالة التوبة في حق العاجز عن المعصية

    وقد ذكر رحمه الله أن هذه المسألة فيها قولان:
    القول الأول: قول من يرى أنه لا توبة لهؤلاء، ولا تصح التوبة منهم ولا تقبل؛ لأسباب:
    الأول: أن التوبة إنما تكون ممن يمكنه فعل الذنب وتركه، وهذا غير ممكن له أن يفعل، ولا يمكن أن يتأتى منه الذنب، بل هو من قبيل المحال.
    والثاني: أن التوبة إنما تكون بمخالفة داعي النفس والهوى والشهوة، والنفس هاهنا لا داعي لها، فلا تدعو هذا الهرم أو المجبوب إلى أن يزني، ولا تدعو ذلك المقطوعة يده إلى أن يسرق، ولا تدعو من قطع لسانه إلى أن يشهد الزور.
    والثالث: أن هذا الذي فقد هذا العضو حالته كحال المكره إذا أكره على أن يمتنع عن الذنب، فحيل بينه وبين الذنب بالقيود والأغلال والحبس، فكيف يكون تائباً؟!
    وقالوا أيضاً: إن المستقر في أعراف الناس وفي شعورهم أن هذه التوبة لا تعد توبة، وإنما هي انقطاع وحرمان من الذنب ليس إلا.
    ثم جاءوا بأدلة نقلية فقالوا: إن مما يدل على ذلك أن الله تعالى حدد للتوبة أهلاً، فقال تعالى: (( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ))[النساء:17-18].
    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى معنى الجهالة في الآية فقال: (والجهالة هاهنا جهالة العمل وإن كان عالماً بالتحريم).
    يعني: ليس المعنى أن العبد الذي يقبل الله توبته هو الذي يرتكب الذنب وهو جاهل بالتحريم، وإنما المقصود الجهالة حال العمل.
    قال رحمه الله تعالى: (قال قتادة: [أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، عمداً كان أو لم يكن، وكل من عصى الله فهو جاهل]. فالأمر الأول مما أجمع عليه الصحابة: أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، فإن كان زناً فهو جهالة، وإن كان شرب خمر فهو جهالة، وإن كان غيبة أو نميمة فهو جهالة، فكل ذنب أو معصية أو تقصير في حق الله أو إخلال بما أوجب الله جهالة ممن فعله، ولا يعني ذلك أنه يجهل التحريم عند الفعل أو يجهل الإيجاب عند الترك، وإنما المقصود أن ترك الواجب أو فعل المحرم جهالة.
    والأمر الثاني مما أجمعوا عليه: أن كل من عصى الله فهو جاهل، حتى وإن كان عالماً بكل الأحكام المتعلقة بهذا الذنب، ولا نقول: إنه جاهل بالتحريم إذا قلنا: إنه عالم به وبأحكامه، ولكنه جاهل بقدر الله وبتعظيم الله، وجاهل -أيضاً- بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير متأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بهذا الواجب الذي تركه، أو نهانا عن الحرام الذي أتاه هذا الفاعل.
    قال رحمه الله تعالى: (وأما التوبة من قريب فجمهور المفسرين على أنها التوبة قبل المعاينة) أي: معاينة ملائكة الموت (قال عكرمة : [قبل الموت]. وقال الضحاك: [قبل معاينة ملك الموت]. وقال السدي و الكلبي: [أن يتوب في صحته قبل مرض موته]. وفي المسند وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) ) وهو حديث صحيح.
    فهؤلاء قالوا: إن التائب الذي تقبل توبته هو الذي يتوب من قريب، أما إذا دخل في سكرات الموت وعاين الملائكة فقال: إني تبت الآن؛ فإنه لا تقبل توبته، وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار.
    والحقيقة أن الإنسان إذا عاين ذلك فقد عاين أول منازل الآخرة، وخرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، حيث كان يؤمن بعذاب القبر وبالوعد والوعيد إيماناً بالغيب، كما ذكر الله في صفات عباده المؤمنين، أما وقد عاين ما عاين فقد أصبح الغيب في حقه شهادة، فلم يعد تصديقه إيماناً منه بالغيب، وإنما هو إيمان بما قد رأى ووقع فيه، كمن يقع في فخ فيرى الفخ قد بدأ ينقبض عليه، فهذا لم يعد مؤمناً بقول الذي أنذره وحذره، بل أصبح إيمانه بالمشاهد المحسوس، فتوبة مثل هذا توبة اضطرار وليست توبة اختيار، فهو مثل الذي يتوب بعد أن تطلع الشمس من مغربها أو يتوب يوم القيامة، أو عند معاينة العذاب، كما هو حال المشركين الذين حكى الله عنهم ذلك في آيات كثيرة، فلا ينفعهم أن يدعوا الله تعالى بأن يردهم أو يرجعهم، كما قال تعالى: (( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ))[المؤمنون:100]، وكما حكى تعالى عنهم قولهم: (( إِنَّا مُوقِنُونَ ))[السجدة:12] أي: فليس هذا هو وقت العمل الصالح، ولا وقت اليقين بعد أن رأيتم ما رأيتم وعاينتم ما عاينتم.
    قال رحمه الله تعالى: (قالوا: ولأن حقيقة التوبة هي كف النفس عن الفعل الذي هو متعلق النهي، والكف إنما يكون عن الأمر المقدور، وأما المحال فلا يعقل كف النفس عنه ... قالوا: ولأن الذنب عزم جازم على فعل المحرم يقترن به فعله المقدور، والتوبة منه عزم جازم على ترك المقدور يقترن به الترك) وهذا غير ممكن، هذا جملة ما استدلوا به، فعلى قول هؤلاء لا يتوب مثل هؤلاء الذين ذكرنا شأنهم.
  2. القول بإمكان التوبة وحصولها في حق العاجز عن المعصية

    وأما القول الآخر -وهو الراجح- فهو أن التوبة ممكنة؛ حتى لا يقول أحد: كيف أتوب وقد تعذر علي ذلك؟!
    فإذا كان هناك رجل يقارف الزنا -والعياذ بالله-، فلما انقطعت الشهوة وارتخت الأعضاء واشتعل الرأس شيباً ولم يعد فيه قدرة على هذا الذنب ولا إمكانية؛ فإنا نقول له: إن التوبة ممكنة، وهي واجبة عليك؛ لأن أركان التوبة مجتمعة فيه، فمن شروط التوبة الندم، وهذا يمكن أن يتأتى منه الندم وإن كان قد أصبح في مقام العاجز عن الإتيان بالذنب، فلو كان قد قتل أو زنى أو فعل ما فعل وهو في السجن ينتظر الموت، فإنا نقول: يتوب مما ارتكب ومما جنى، وإن كان لن يخرج من الزنزانة والأغلال والقيود، ولا يمكنه أن يفعل المعصية، لكنا نقول له: تُب واندم على ما فعلت وفرطت.
    قال رحمه الله تعالى: (وفي المسند مرفوعاً: ( الندم توبة ) ) وهذا الحديث حسن، ولا يعني ذلك أن الندم هو الشرط الوحيد، لكن الندم يلزم منه الإقلاع؛ ويلزم منه -أيضاً- العزم على عدم المعاودة، وإلا فلا يكون ندماً، فالندم مجمع ومعقد شروط التوبة الأخرى.
    فإذا تحقق ندمه على الذنب، وتحقق لومه نفسه لأنها فعلت ذلك؛ فهذه توبة، وإذا صحب ذلك البكاء والحزن والألم على ما فات فهذا حري بأن يكون قد وصل إلى درجة المقربين أو الأتقياء الصالحين وإن كان قد عجز بالفعل عن تكرار مثل ذلك الذنب.
    ومن الأدلة النقلية التي استدل بها أصحاب هذا القول: أن الشرع قد نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها، وهذا من تمام حكمة الله تعالى، بل من كمال رحمته ولطفه بخلقه أنه نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن بـالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله! وهم بـالمدينة ؟! قال: وهم بـالمدينة ، حبسهم العذر )، أي: حبسهم العذر الذي عذر الله تعالى به الذين تخلفوا ممن ليس عليهم حرج، كالأعمى والمريض وسائر من عذرهم الله، ولو أن حامية أبقاها الإمام أو القائد عمداً لحراسة بلد ما، فقامت بالحراسة في تلك المدينة ؛ لكان لها من الأجر مثل أجور الذين جاهدوا إذا رابطوا طاعة واحتساباً وسداداً لثغرة من ثغور المسلمين حتى لا يأتوا من ظهورهم، فالكل شريك حال وجود النية الصالحة الصادقة، وأمثال ذلك كثير.
    قال رحمه الله تعالى: (فتنزيل العاجز عن المعصية منزلة التارك لها قهراً مع نيته تركها اختياراً لو أمكنه منزلة التارك المختار أولى).
    يعني: إلحاقه بالتارك المختار أولى من إلحاقه بالتارك المضطر، وليس كما قال الأولون: إن هذا الرجل تاب اضطراراً. بل نقول: تاب اختياراً.
    قال رحمه الله تعالى: (يوضحه أن مفسدة الذنب التي يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة ومن فعله تارة).
    يعني أن التوبة النصوح من كل الذنوب، التي أمر الله بها في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ))[التحريم:8] المطلوب فيها أمران: أن لا يعود إلى الذنب، وأن يعزم على أن لا يعود؛ لأنه إذا عزم على أن يعود إلى الذنب وإن لم يجده ولم يتيسر له فيكون قد نقض التوبة ونقض شرطها -كما ذكرنا- وهو العزم على أن لا يعود، فإذا عزم على أن يعود فقد نقض شرط التوبة، فهذا الذي لا يستطيع العود يبقى من شأنه العزم على العود، فيمكن أن يعزم على أن يعود إلى الذنب، أو يعزم على أن لا يعود، فيكون تائباً أو غير تائب بحسب العزم وإن كان قد تعذر منه الفعل، كما قال رحمه الله تعالى: (إن هذا تعذر منه الفعل، ولكن قد لا يتعذر منه التمني والوداد).
    وحقيقة الأمر أن حقيقة الذنوب هي إفساد القلب، كما أن حقيقة الطاعة وغرضها هو إصلاح القلب، فهو موضع نظر الرب من عبده، فالقلوب هي التي ينظر الله إليها، ولا ينظر إلى الصور والأجساد كما جاء في الحديث، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ( التقوى هاهنا وأشار إلى صدره )، وحقيقة التقوى أن يزجر الإنسان نفسه وقلبه وجوارحه عن معصية الله، وأن يوقر الله ويعظمه ويجل أمره، والأعمال مطلوبة وواجبة، لكن الأساس هو إصلاح هذه القلوب، فالذي لا يفعل الذنب قد يتمناه ويهواه ويفكر فيه ويحدث نفسه به ويمنيها به، وهذا -في الحقيقة- إيمانه ضعيف، ويوشك أن يقع في الذنب وإن لم يفعله، والآخر غير قادر على أن يفعل، وهو في حقيقة الأمر قد انقطعت شهوته وأمانيه من ذلك الذنب، فلا يعرض له أبداً، ولكن إن عرض فإنما يعرض له الندم عليه والخوف منه وكراهيته وبغضه، فهذا عمل عظيم.
    فإذا كانت حقيقة العمل هي عمل القلب، فندمه هذا أعظم من الذي لم يفعل مع قدرته، وصحيح أن هذا لن يفعل؛ لأنه لا يقدر على أن يفعل، لكن ما يأتي به في قلبه من ترك تمنيه، بل من ضد ذلك -وهو الندم والخوف واستشعار الرهبة من ذلك الذنب- خير عظيم، وهو أنفع له.
    قال رحمه الله تعالى: (والفرق بين هذا وبين المعاين ومن ورد القيامة أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة). يرد على الذين استدلوا بالآية بالفرق بين هذا التائب من الذنب لعدم قدرته عليه، وبين الذي عاين الموت أو مقدماته أو أراد التوبة يوم القيامة، ذلك أن هذا الذي رأى الموت أو يوم القيامة انقطع عنه التكليف، فصار الوقت في حقه وقت محاسبة وليس وقت تكليف، فزمن التكليف قد انقضى، إذ زمنه ما كان قبل الغرغرة والمعاينة، أما العاجز عن الذنب فهو لا يزال في زمن التكليف، فيتصور منه أن يندم وأن يتوب، وهذا وحده كاف لأن نقول: إن التوبة متحققة ومرجوة له إن شاء الله تعالى.