المادة    
قال رحمه الله: (ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من النوافل: كثرة تلاوة القرآن، وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم).
هذا أمر عظيم جداً؛ لأن الكلام عن كيف ننال ولاية الله تبارك وتعالى؟ وكيف ننال محبته عز وجل؟ وكيف نتقرب إلى الله؟
فالتقرب إلى الله بالصلاة، وهذا قد سبق في قوله رحمه الله: (وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة).
فأعظم الفرائض البدنية للتقرب إلى الله هي الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن، وهذا من فقه الإمام ابن رجب رحمه الله أنه جعل أعظم الفرائض الصلاة، وأعظم النوافل قراءة القرآن.
ثم قال: (قال خباب بن الأرت لرجل: [تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه].
وفي سنن الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه ) يعني: القرآن، لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم)، كل من تحبه في الدنيا تحب كلامه، وتحب أن تقرأ له، وتحب رسائله، وتحب أن يخاطبك، وهذه حقيقة نفسية.
إذاً: فالواجب أن يكون أحب شيء إلى العبد ويشغل وقته به، بل ويغتني به عما سواه، أو يتغنى به، كما أن أهل الدنيا تعجبهم الأشعار فيتغنون بها، ويترنمون بها، ويتذكرونها فيكون هو كذلك، بحيث يكون على لسانه، يقرؤه ويتلوه ويتلذذ به هو القرآن كتاب الله تبارك وتعالى.
ثم قال: (لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم، قال عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه: [لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم].
وهذا معيار عجيب اختبر به قلبك، وقلوب الناس.
ويوجد كثير من الناس لا يستطيع أن يستمع إلى عشر آيات، ولو قلت له: اجلس نقرأ عشر آيات أو استمع لهذا الشريط، فإنه لا يطيق أبداً، إما أن يقفله، وإما أن يقول لك: أنا مشغول -والعياذ بالله- لأن قلبه مطموس قد أصابه الران، كما قال تعالى: (( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))[المطففين:14].
ومعنى: (ران) أي: مطبوع على قلبه ومختوم عليه أغلف، بحيث لا ينفذ إليه شيء من الحق نعوذ بالله.
فهؤلاء موجودون والعياذ بالله، واختبر حال هؤلاء لتجد ذلك، ومن أعظم ما يجعل العبد كذلك الإدمان على سماع الأغاني والأشعار الخالية عن ذكر الله، كما جاء في الحديث: ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يملئ شعراً ) أي: من هذه الأشعار والأغاني، فلو أن مدمناً على سماع الأغاني أو هذه الأشعار الخالية من ذكر الله، قلت له: استمع إلى هذه الآيات، فإنه لا يستطيع أبداً، وإن كانت ذنوبه أقل فإنه يتحمل بقدر أقل.. وهكذا.
فـعثمان رضي الله عنه يقول: [لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم].
إذاً: لماذا الإنسان يقرأ ويقرأ، ثم يتعب أو يمل أو يضعف؟ لشيء في قلبه، فهذا هو المعيار، فانظر لنفسك فإذا وجدت نفسك لا تطيق القرآن، أو لا تستمع إليه، فاعلم أن داء ومرضاً وخبثاً يداخلك فاجتنبه، وسارع إلى العلاج وبادر إليه.
وبهذه المناسبة أذكر أن أحد الشباب أرسل إلي رسالة يشكو يقول فيها: إنني كنت أحب طلبة العلم، وحضور حلقات العلم، وأحب المساجد، وقراءة القرآن، والآن لا أستطيع، حتى أصبحت أتخلف عن الجماعة، وأصبحت كذا نسأل الله أن يرده إلى الحق والصواب.
  1. الحث على المبادرة إلى التوبة وإصلاح النفس

    فأقول: علينا جميعاً أن نبادر إلى العلاج قبل أن يستفحل الداء، انظر كم من مريض يذهب إلى الطبيب، فإذا به بعد فترة قد مات؛ لأن المرض قد انتشر واستشرى في جسده، فما هو الحل؟ تنتظر الموت لقلبك والعياذ بالله.
    ومن فضل الله أن جعل للإنسان -حتى لو كان منغمساً منهمكاً في الذنوب إلى أقصى شيء- فرصة التوبة إليه سبحانه.
    فالمهم أن تتدارك نفسك قبل أن تحاول التوبة فلا تقبل منك عياذاً بالله.
    ثم قال: (وقال ابن مسعود: [من أحب القرآن أحب الله ورسوله].
    قال بعض العارفين لأحد طلابه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، قال: واغوثاه، يا لله! لمريد لا يحفظ القرآن، فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يناجي ربه تبارك وتعالى؟!).
    وهذا وإن كان من كلام الصوفية ، ولكن هذا القول صحيح، فالذي يريد أن يسلك طريق الله، وأن يتعلم ويتأدب وهو لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟ وبم يترنم؟ وبم يناجي ربه تعالى؟
    ولذلك من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الصوفية وغيرهم ممن لا يدري عنهم: أن توضع أدعية وأوراداً وأذكاراً في كتيبات، أو في أوراق، وتنشر بين الناس، ويقال: من قرأها فإن له كذا وكذا، مما لا أصل له في الدين، فاشتغل الناس بها عن القرآن، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الكفر والعياذ بالله.
    فـالتيجانية يقولون مثلاً: من قرأ صلاة الفاتح خير له من أن يقرأ القرآن ستة آلاف مرة، وهذا كفر لا شك فيه، ما وجدت شيئاً تجعل قراءتها خيراً منه إلا القرآن؟ لماذا لا تكذب كذبة خفيفة وتقول: من قرأها خيراً له من أن يتصدق بألف دينار -مثلاً- لكن تقول: خير من أن يقرأ القرآن؟ هل يعقل هذا؟!
    إنك مهما ابتدعت أو اخترعت واختلقت من أذكار، هل يمكن أن تكون أفضل من القرآن؟ هل تستطيع أن تأتي بشيء أفضل من القرآن؟
    نعم، كثير منهم لا يصل إلى هذه الدرجة من الكفر والعياذ بالله، لكن واقع الحال عندهم أنهم يأتون بأدعية وأوراد يقرءونها في الصباح والمساء، وأحراز منها: الجوشن الكبير، دائماً يوزع في الأسواق وعند الناس، والجوشن الصغير، والحصن الحصين، والحصون المنيعة، والعهود السبعة.. وغيرها، وأشياء كثيرة منها ما لا أصل له، ومنها ما لبعضه أصل، لكن ليس بهذه الكيفية وبهذه الهيئة، ومنها ما يكون جملة من الآيات هذا أخفها، لكن لم يرد الشرع بتحديد هذه الآيات، فيشتغل بهذه الآيات عن بقية القرآن، أو عما فضله الله على الحقيقة، فيكون هذا فضل شيئاً من القرآن على شيء من القرآن من غير دليل الشرع، وجاءت الأدلة الصحيحة أن آية الكرسي أفضل الآيات، وأن (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، وأن الفاتحة أفضل السور..، فنحن بهذه نتبع ولا نبتدع، ونقرأ القرآن ونتنعم ونتلذذ به كله.
  2. ذكر ما يحول بين الناس والخير من أسباب

    فأقول: من أكثر ما يحول بين الناس وبين الخير هو إما صاحب فجور وشهوة، فحال بين الناس وبين القرآن بالغناء، والمزامير، والموسيقى، والأشعار، والقصص وما لا خير فيه، كما تشاهدون القنوات آخر الليل، تجد فيها الغزل والأشعار والهوى والحب -سبحان الله العظيم- لأن قلوب الناس ترق في تلك الساعات، فهم جاءوا إليها يرققونها بشيء رقيق، لكنه شهوة وفتنة، هذا الجانب الأول.
    الجانب الثاني: الذي يأتي ليسد الحاجة لكن بغير الحق، مثله كإنسان جائع فجاءه صاحب الشهوة وحرمه وتركه جائعاً، وأما صاحب الشبهة فلم يتركه جائعاً، لكن أطعمه نشارة خشب مثلاً، أو أطعمه ما لا يغني ولا يشبع.
    فأصحاب الشبهات الذين وجدوا الناس محتاجين إلى الذكر ويريدون المناجاة، أعطوهم هذه الأوراد البدعية، والأذكار غير المشروعة، وقالوا لهم: اقرءوها في الصباح، اقرءوها في المساء، اقرأها إذا قمت في الليل، اقرأها قبل أن تنام...إلى آخره، فأطعموهم ما لا يغذي، بل يضر.
    والحق هو أن القلوب إنما يكون غذاؤها وتنعمها، وترنمها، وحياتها، وروحها، وريحانها، وشفاؤها بقراءة كلام الله عز وجل حتى وإن قل التعبد بشيء من الحق ومن الخير، ولو لم يقم العبد إلا بعشر آيات، ولو لم يقرأ إلا (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1] ولو لم يقرأ إلا آية الكرسي فهذا خير، لكن كلما أكثر فهو خير له، ولهذا جعل الشيخ رأس النوافل: قراءة القرآن.
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يتلون القرآن حق تلاوته، ويتلذذون بذكر الله تبارك وتعالى به، وبمناجاته، إنه سميع مجيب.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.