المادة    
ينبغي أن تكون الأمة المؤمنة كما أمر الله بها في قوله: (( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ))[آل عمران:104] وترفع لواء الجهاد في سبيل الله، وتنصر الحق، موجودة أو لا توجد، أو ترتد كما ارتدت طائفة كانت تدعي ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى لن يضيع دينه، فسوف يأتي بقوم آخرين، كما قال تعالى: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ))[محمد:38] فيأتي الله تبارك وتعالى بقوم هذه صفتهم.
وهذا دليل على أن الأمة التي تتخلف فيها هذه الصفات، هي أمة متروكة مخذولة ليست من أولياء الله، بل يتخلى عنها الله عز وجل ويعاقبها بما يشاء، يسلط عليها أعداءها، يسلط عليها الفرقة فيما بينها، يشتت جمعها، يذلها بمن يشاء من عباده مؤمنين أو كافرين، يبتليهم بالخوف، يبتليهم بالجوع، يبتليهم بما ذكر من مصائب وعذاب الأمم السابقة، أو كما يشاء، ويأتي بالبديل وهم القوم الذين هذه صفاتهم.
  1. تحقيق صفة الذلة على المؤمنين

    لما كان موضوع الولاية بهذا النهي والتحذير عن موالاة الكفار، وبهذه المثابة وبهذه المنزلة، جاء من صفات المؤمنين الذين يأتي بهم الله تبارك وتعالى عوضاً عمن ارتد عن دينه، من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين، كما علل الشيخ رحمه الله بأن هؤلاء يحبون الله، ويحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون الدين، فمن كان من أهل الدين والإيمان، من أهل محبة الله، من عباد الله الصالحين، من أهل اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أذلة معه، يعاملونه باللين والرحمة والشفقة وخفض الجناح؛ لأنهم ينظرون إلى دينه، وإلى محبوبه، وإلى غايته وإلى همه ومراده، وهو الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعاملونه بمقتضى ذلك، فهو أخوهم وحبيبهم وخليلهم وقريبهم، حتى لو أخطأ عليهم يعفون عنه ويتجاوزن، ولا يغلظون عليه؛ لأنهم ينظرون إلى قوة صلته بالله ومحبته له، فمن أحب الله حقاً فإنه لا بد أن يحب كل من أحب الله من الأحياء أو من الأموات.
    لو أنك فتحت كتاباً من كتب التاريخ، فقرأت سيرة رجل عالم عابد داع إلى الله، آمر بالمعروف ناه عن المنكر لأحببته وليس بينك وبينه أي صلة، قد يكون من بلاد الهند ، أو الترك، أو آخر إفريقيا ، أو أطراف الدنيا، ولكن لما وجدت صفته بهذه الحال تحبه وتترحم عليه، وتترضى عنه، وتسأل الله سبحانه وتعالى أن يكثر من أمثاله في هذه الأمة.
    كذلك لو لم يكن هنالك أي رابطة إلا أن الإنسان المؤمن يقرأ عن الماضين أو عن المعاصرين في أقاصي الدنيا، أن رجلاً منهم حاله وشأنه من البعد عن الله، ومن محادة الله ورسوله، ومن ارتكاب ما حرم الله؛ فإنه يبغضه.
    إذاً: هذا أمر يكون في قلب كل مؤمن، ودرجته ومقداره تكون بمقدار إيمان الإنسان ومحبته لله، فـ كلما عظمت محبة الله تبارك وتعالى في قلب العبد المؤمن عظمت محبة أولياء الله وأحباب الله، فكان خافضاً للجناح ذليلاً أمامهم، لاحظوا كلمة (( أَذِلَّةٍ ))[المائدة:54] والذل هذه صفة الأصل فيها أنها عند الإنسان صفة مكروهة لا أحد يريدها، ولا يتمناها، ولا يصف بها إخوانه، ولا يصف بها أحداً ممن يحب، ومع ذلك جاءت هذه الصفة في هؤلاء، يعني: لم يقل فقط: (رحماء)، وقد قال في الآية الأخرى عندما وصف الصحابة فيما بينهم: (( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ))[الفتح:29]، لكن عندما ذكر شروط هؤلاء القوم جاء بوصف أبلغ من مجرد الرحمة وهو الذلة؛ لأنك قد ترحم إنساناً لكن أن تكون ذليلاً له فهذه مرحلة أعمق من ذلك، فهذا دليل على أن هذا الشرط مهم ودقيق وضروري، ولا بد منه لمن يريد أن يكون من هؤلاء القوم.
    وعليه فإذا وجدت الإنسان غليظاً على المؤمنين، شديداً على الصالحين، عنيفاً على المتقين، بأي سبب؛ حتى لو يرى أنهم ظلموه في دنياه أو خالفوه في رأي أو فتيا؛ فاعلم أنه فقد صفة أساسية من هذه الصفات، ولا يمكن أن توجد الولاية أو المحبة لله مع وجودها، ولا بد من ترك ما يضادها.
  2. تحقيق صفة العزة على الكافرين

    إذا كان الإنسان ذليلاً للمؤمنين وفي المقابل مع الكافرين عزيزاً غليظاً عليهم فقد حقق الشرطين، وهذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة على الكافر ليست ظلماً للكافر، بل هي عدل؛ ولذلك نحن عندما نجاهدهم فإننا نجاهدهم؛ لأن الجهاد عدل، ونجاهدهم ونغلظ عليهم كما أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ))[التوبة:73]، وقال سبحانه: (( وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ))[التوبة:123].
    فهذه الغلظة من العدل، وليس فيها اعتداء، بل هي حق، وليست الغلظة أيضاً بغياً، فنحن حين نجاهدهم فإننا لا نقتل إلا من أمر الله تعالى بقتله، ولا نقتل من نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، ففي كل أمورنا نحن مقيدون بالعدل وبالقسط وبالحق.
    إذاً: هذا لا يتعارض مع العدل، والغلظة أن يرى عدو الله تعالى منك ما يغيظه ويكدر أمره، إما بكلمة غليظة، ولا نعني بكلمة غليظة أن المسلم يسب أو يشتم، وإنما بالقوة في الحق والموقف، وإما عملاً يسيء إليه، كأن تهدم ما يبني هذا الكافر، وتحبط عمله، وتجتهد في رد كيده، وإفشال سعيه.
    وإما إن كان أعلى من ذلك كمن يريد بالإسلام والمسلمين حرباً، فتحاربه وتقاتله وتقتله إذا لم يكف شره إلا بذلك، وإذا لم يخضع لحكم الله ويدفع الجزية فإنه يقاتل حتى يقتل.
  3. الخلل في تحقيق صفتي العزة على الكافرين والذلة على المؤمنين

    هاتان الصفتان لا بد أن تكونا مقترنتين؛ ولذلك كان أكبر خطأ يخطئ فيه كثيراً من الناس أنهم يغلظون على المؤمنين، ومن أغلظ على المؤمنين فإنه يؤدي به أن يتساهل مع الكافرين، وهذا أمر يجده كل إنسان من نفسه، فالله سبحانه وتعالى جعل في نفس الإنسان هذين العاملين:
    الحب، ومقتضاه: اللين، والرأفه، والرحمة، والذلة.
    البغض، ومقتضاه: العنف، والقسوة، والشدة، والمقاتلة.. إلى آخره.
    فلو أن الإنسان أخطأ في أحدهما، فإنه يخطئ في الآخر لا محالة، فتجد بعض من يلين القول مع الكفار فإنه يغلظ على المسلم، فإذا تعامل مع الكفار وودّهم، وأحبهم وخالطهم، فجاء إنسان وتكلم في الكفار والكافرين وحذر منهم، وبين أنهم أعداء الله أغلظ هذا المحب للكفار، وأنكر عليه.
    وكذلك لو أنه أغلظ على إخوانه المؤمنين وكان شديداً عليهم، فإن هذا قسط من عداوته للكافرين صرفه وحوله إلى إخوانه المؤمنين.
    فتجد من شغله الله بالطعن والعيب والعداوة للمؤمنين لا يجد وقتاً ولا يفرغ للطعن والحرب والعداوة لأعداء الله الكافرين ولذلك يجب على المؤمن أن يحفظ هذا الميزان الدقيق، وأن يجعل نفسه كما أمر الله تعالى.
    فقوله تعالى: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ))[المائدة:54] يجب أن نأخذ هذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى وليس في ذلك غضاضة، فإن ذل المسلم لأخيه المسلم عز له عند الله عز وجل، فإن ذلك يورثه الدرجة العليا، وهي: أن يكون ممن يصطفيهم الله عز وجل، فأنت لا تنظر إلى أن أخاك المسلم أخطأ عليك، أو أخطأ في اجتهاد أنه خالفك فيه، بل انظر إليه هل هو ممن يحب الله ورسوله فتجتمعان في محبة الله أم لا؟
    ومن عادة الناس في أمور دنياهم أنهم إذا كان أحد منهم يحب أحداً فإنهم يستشفعون إليه بمن يحب، فلو أن شخصاً يعلم أنك تحب إنساناً معيناً، وأراد أن تخدمه في قضية وموضوع، قال: أنا من أصحاب فلان -الذي تحبه- فبيني وبين فلان معزة وأخوة ومحبة، حتى لو كان قد أخطأ عليك وعمل لك مشكلة، فعندما يقول لك: اعلم انني من أصحاب فلان، وأن فلاناً يحبني -وأنت تحب ذاك الرجل وتقدره جداً- فتقول: من أجل فلان أسامحك، وتتحول المشكلة إلى محبة وأخوة من أجل فلان، والجامع بينك وبينه أن كلاً منكما يحب فلاناً.