الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد: فبفضل الله تعالى وتوفيقه نكمل شرح الحديث العظيم، الذي ذكره الإمام الشارح ضمن حديثه عن الولاية، وهو حديث (الولي) الذي ذكرنا طرقه والحكم عليها، فقرأنا طائفة من شرحه من كلام الإمام الحافظ
ابن رجب رحمه الله تعالى، وكان آخر ما وقفنا عنده هو ما كان يتحدث عنه الحافظ
ابن رجب رحمه الله من أوصاف الذين يحبهم ويحبونه، بعد أن تحدث عن الفرائض التي تقرب إلى الله تبارك وتعالى، وذكر الآية وهي قوله تعالى: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54].آخر ما وقفنا عليه قوله: (من فاته الله فلو حصلت له الجنة بحذافيرها لكان مغبوناً)، وهذا كلام عظيم لا يقدر قدره إلا من عرف الله عز وجل، وعظم الله حق تعظيمه، وقدره حق قدره.يقول: (من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبوناً -على فرض أنها الجنة-، فكيف إذا لم يحصل له إلا نزر حقير يسير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة؟!).هذه الدار التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (
لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء )، فكلها لا تعدل جناح بعوضة، ويستمتع فيها الكفار من قديم الزمان إلى نهاية هذه الدنيا، فكم نصيب الكافر الواحد منها؟ كم نصيب الكافر الواحد من هذه التي كلها لا تعادل جناح بعوضة؟نسبة عجيبة جداً لو تأملها الإنسان بذهنه وخياله، فهذا آثرها على الله والدار الآخرة، وباع حظه من الآخرة، وحظه من محبة الله ومعرفته، بهذه العاجلة الفانية الحقيرة التافهة.ثم يقول: (ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه، فقال تعالى: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ))[المائدة:54]).إذاً: أول وأعظم درجات القوم هؤلاء هي: أنهم يحبهم الله ويحبون الله.ثم أتى بالوصف الثاني لهؤلاء المحبين فقال: ((
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ))[المائدة:54] يقول: (يعني: أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ويعاملون الكافرين بالعزة والشدة عليهم والغلظة لهم، فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه، فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه؛ فعاملوهم بالشدة والغلظة، كما قال تعالى: ((
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ))[الفتح:29]).إذاً: الوصف الأول: أنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، ولو تأملنا هذه الآية لوجدنا أنها بينت آيات الولاية المحذرة من موالاة الكفار، فإنه أول ما ابتدأ هذا المقطع والموضوع من الآيات، ابتدأ بقول الله تبارك وتعالى: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ))[المائدة:51] ثم جاءت آية، ثم هذه الآية، ثم بعد ذلك -بعد أن أكمل هذه الآيات- ذكر آية الولاية، وذكر أولياء الله، وأنهم حزب الله ((
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ))[المائدة:56].ثم حذر بعدها فقال: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:57] إذاً: قبلها آية تحذير، وبعدها آية تحذير من اتخاذ الكفار أولياء، فبين التحذيرين من موالاة الكفار تأتي صفة المؤمنين، الذين يستبدل بهم الله تبارك وتعالى من يترك دينه ويعرض عنه ويرتد، ويتخلى عن القيام بحمل هذه الدعوة، والوفاء بعهد الله، وميثاقه في نصرة هذا الدين، وحمل ميراث النبوة، ورفع لواء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذروة ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل.