المادة    
  1. تقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد

    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فإن المتواتر والآحاد وإفادتهما للعلم، واليقين محل خلاف بين أهل السنة والجماعة وبين الطوائف الضالة المنحرفة، والكلام هنا مع المبتدعة هو في رأيهم في المتواتر والآحاد والتفريق بينهما، وكما هو معلومٌ أن علماء المصطلح يقسمون الحديث إلى متواتر وآحاد وربما قسموه إلى متواتر وما دون ذلك فيقسمونه إلى غريب ومشهور ومستفيض، وقد يجعلون المشهور هو المستفيض، والمقصود أن علماء الحديث كما في كتب المصطلح المعروفة لهم تقسيمات في هذا الشأن، ولكن ما يقوله علماء الحديث وعلماء المصطلح رحمهم الله والمحدثون إنما هو من باب الاصطلاح، ولهذا سموه: علم مصطلح الحديث، فهذا تقسيم اصطلاحي لا يعنون به أن الحديث الذي لم يروه إلا واحد عن واحدٍ -وهو الغريب- لا يقبل، أو أنه لابد للاحتجاج به أن يكون متواتراً أو مشهوراً، ولا يترتب على ذلك أثر في أنه يجب على الإنسان أن يعمل بمقتضى هذا الحديث ويتلقاه بالقبول إذا صح واستكمل الشرائط المعروفة، فهذه القسمة الاصطلاحية إنما جعلت فقط للتمييز بين كون هذا مثلاً مرفوعاً وهذا موقوفاً، وهذا مرسلاً، فيميزون بين هذه الدرجات ليعرف طلاب العلم الفروق بينها، ولا يترتب على ذلك رد أي شيء من السنة، وهذا نقوله حتى لا يستشكله البعض فيظن أن ما يقوله المتكلمون والمنكرون لحجية خبر الآحاد هو نفس ما يقوله علماء الحديث.
    أما الأصوليون فبعضهم من أهل السنة ومن أهل الحديث قسموا الأحاديث كتقسيم علماء المصطلح، وأما بعضهم فهو من أهل البدع ومن أهل الكلام والضلال يعتمد على كلام المتكلمين مثل علماء أصول المعتزلة وأشباههم، وأهل البدع عندما يقسمون الأحاديث إلى متواتر وما دونه فإنهم يعنون بذلك أن ما دون المتواتر يرد ولا يفيد العلم، وبعضهم يقول: إنه لا يفيد العمل أيضاً، وبعضهم يقول: لا يفيد العمل لا في العلميات ولا في العمليات إلى آخر ما بينهم من تفاوت.
  2. الأقوال في حد التواتر

    وسنضرب بعض الأمثلة مما يقولونه، فـابن حزم رحمه الله في كتابه الإحكام في أصول الأحكام في الجزء الأول صفحة (104) ينقل عن هذه الطوائف من أهل الضلال ما هو حد التواتر الذي إذا بلغه الحديث أو الخبر عملنا به، وإن نقص عن ذلك لم نعمل به، فذكر اثني عشر قولاً كما يلي:
    القول الأول: أنه لا بد أن يروي الحديث أو الخبر جميع أهل المشرق والمغرب، وهذا رأي شاذ عند جميع الطوائف، لكن هناك من يقوله ويقرر أن المتواتر هو ما أطبق على روايته جميع أهل المشرق والمغرب.
    والرأي الثاني قريب منه وهو قول من يقول: لا بد أن يرويه عدد لا نستطيع إحصاءهم، فهذا هو الذي يقبل أما ما دون ذلك فإنه لا يقبل ويحتمل الكذب، والنظام الخبيث من أئمة الاعتزال المشهورين، يقول أخبث من هذا فيقول: حتى لو رواه الجمع الكبير جداً من الناس فإنه يمكن أن يرد؛ لأنه كما يجوز الغلط على الواحد فإنه يجوز على الجميع.
    إذاً: لا نصدق أي شيء، على كلام هؤلاء، وهذا مكابرة للعقول، فإن الناس أحياناً يصدقون أو يجزمون بصدق طفل إذا أخبر بشيء واحتفت به قرائن تؤيده وتؤكده، وهكذا المرأة أو الرجل الواحد، أما أن يقال برد الأحاديث لاحتمال الغلط أو الخلط فهذا غير صحيح، فهل ترد الأخبار لمجرد الاحتمال وتجويز وقوع خطأ ما؟! إذاً سيعود هذا على المجموع، فلا نقبل شيئاً، ولا نقبل أي خبر، وقد رد ابن حزم رحمه الله هذا فقال بأنا لا نقبل كل ما حدث مما لم يره الإنسان بنفسه؛ لأننا إنما أخذنا أخبار الماضيين من آبائنا وأجدادنا، وما كان أخذناه من حديث الناس، فإذا قلنا: الناس هؤلاء يجوز الغلط عليهم جميعاً كما يجوز على الواحد فلن نصدق أي خبر ولن نثق في أي علم مهما كان.
    ومن الأهمية أن نكمل الرد على الشبهة إن شاء الله، فهي أقوى شبه هؤلاء.
    القول الثالث من أقوال هؤلاء الضلال أنهم يقولون: إن الخبر لكي يقبل لا بد أن يكون رواته ثلاثمائة وبضعة عشر، قالوا: نأخذ ذلك من عدد أهل بدر ، فما العلاقة بين أهل بدر وبين قبول الخبر؟ لا يوجد علاقة شرعية قطعاً، ولا توجد حتى علاقة عقلية، وإنما هذا مجرد إفك وبهتان.
    القول الرابع: أن رواة الخبر الذين يقبل خبرهم ويصح أن يكون متواتراً لابد أن يكونوا سبعين رجلاً، ولم يذكر ابن حزم لهم دليلاً، لكن ربما يكون مثل استدلالاتهم البعيدة، وهو قوله تعالى: (( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ))[الأعراف:155] هذا الظاهر والله أعلم.
    القول الخامس: أن عدد من تقبل روايتهم لابد أن يكونوا خمسين ويأتون لهذا بأدلة من أحكام خاصة، وهذا هو الفرق بين من يعرف كيف يستدل بالآية أو الحديث وبين من لا يعرف، فإذا وضعت الآية أو الحديث في غير موضعها، فهذا خطأ في الاستدلال وإن كان ثبوت الحديث أو الآية لاشك فيه، فمثلاً هم يقولون: إن القسامة لابد فيها من اليمين التي يؤديها قوم عددهم خمسين، مع أنه لا علاقة بين القسامة والرواية؟ فالقسامة: أن يقتل قتيل بين طائفتين وهناك شبهة عداوة، فتأخذ خمسين يميناً من خمسين رجلاً، وهذا الحكم من الأحكام التي تميزت بها هذه الشريعة الغراء والحمد لله، فلا نظير لهذا الحكم في كل القوانين البشرية التي شرعها من دون الله؛ لأن هؤلاء الخمسين غالباً ما يكونون من قبيلة واحدة، ولا يمكن أن يتواطئوا على الجهل بالقتل، ولابد أن يعلم ولو واحد منهم لو وقع أو حصل أي حدث، فالخبر لابد أن يبلغ إلى واحد منهم أو مجموعة منهم، فكان هذا من الشرع درأً للفتن التي تقع بين القبائل والطوائف والأمم المتناحرة، ولو لم يشرع ذلك لكانت القبيلة كما كانت في الجاهلية إذا قتل منها واحد تثأر وتقتل من الأخرى فتثأر تلك أيضاً فتستمر الحروب إلى ما لا نهاية، لكن إذا أقسم خمسون رجلاً من هذه القبيلة فإنَّه يفصل في القضية، والمراد هنا بيان أنه لا علاقة بين القسامة وبين الرواية هنا.
    القول السادس: رواة الحديث لابد أن يكون عددهم أربعين رجلاً حتى نقبل روايتهم، فإذا كانوا تسعة وثلاثين لا نقبل روايتهم، بل لابد من الأربعين؛ لأن هذا هو العدد الذي لما بلغه المسلمون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم أمروا بإظهار الدين، فدل ذلك على أن ما كان أقل منه لا يجب إظهاره، فإذا بلغ هذا العدد الأربعين فإنه تقبل روايتهم ويظهرون هذا الدين الذي عندهم وجواب هذا أنه لا علاقة بين حالة معينة في أول الإسلام في وقت كان الدين لا يلي الأمر وبين حكم مستمر وأمر مثل هذا، وهذا أيضاً تنفيه وتكذبه الأحوال والوقائع المتواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يرسل الرجل الواحد إلى قومه، ويكتب الرسائل ويبعث بها إلى ملوك الأرض مع رجل واحد ويأتيه الرجل من قومه ليتعلم العلم ثم يذهب ليبلغ وهكذا، فلماذا تتركون هذه الوقائع كلها وتأخذون هذه الحادثة التي -أيضاً- لا دليل فيها ولا رابطة بينها وبين الرواية لا من جهة الشرع ولا من جهة مقتضى النظر العقلي السليم؟
    القول السابع: أنه يجب أن لا يقل عددهم عن عشرين، وهذا لم يذكروا له مستنداً وكذلك هناك أقوال كثيرة ليس لها مستند.
    القول الثامن: أنه لا أن يكون عددهم اثني عشر قالوا: لا يقبل أي حديث إلا إذا رواه اثني عشر، وهذا أيضاً ليس له أي مستند ولا دليل.
    القول التاسع: قالوا: لا بد أن يكونوا خمسة، وهذا قاله أحد تلاميذ العلاف كما نقله عنه ابن حزم في كتاب الفصل الجزء الخامس صفحة (71) يقول: إن الحجة لا تقوم في الأخبار إلا بنقل خمسة عن خمسة عن خمسة، ولابد أن يكون في الخمسة الذين رووا الحديث ولياً لله تعالى لا يُعرف -أي: لا يعرف بعينه- فيكونوا أربعة ومعهم ولي، ثم عن كل واحد منهم ينقله خمسة فيهم أيضاً ولي لا يعرف وهكذا إلى ما لا نهاية، وهكذا يتحكم الهوى بأهله والعياذ بالله من الضلال، فهؤلاء يقولون: إن رواة الحديث إذا كانوا أربعة فلا يعد هذا الحديث حجة، ولا يؤخذ به، ولا يعمل به.
    القول العاشر: أن الحديث يقبل إذا رواه أربعة، ومأخذ الذين اشترطوا أربعة أو اثنين أو ثلاثة هو القياس على الشهادة في بعض الأحكام، فالأربعة مثل حد الزنا، والحكم الذي يشترط فيه ثلاثة هو حالة واحدة من حالات الإعسار، وهو إذا أصابته جائحة أو تحمل حمالة كما جاء في الحديث: ( حتى يشهد ثلاثة من قومه أنه أصابته جائحة ) أي: إذا كان هنالك إنسان يحتاج للزكاة، ولا نعرف أنه محتاج فيكفي ليعطى من الزكاة أن يشهد عندك اثنان فتعطيه منها، يشهد اثنان أنه مسكين أو فقير هذا كافٍ، لكن في الجائحة يختلف الحكم؛ لأن صاحب الجائحة لابد أن يعطى ما يسد حاجته كلها، ودعوى الفقر عامة في الناس كثيرة، فمن الناس من يقول لك: أنا فقير وهو صادق، لكن حينما يقول: كان عندي مزرعة كبيرة أو بيت وقد أصابته جائحة واحترق، فهذه المقولة تحتاج إلى زيادة إثبات، وليس كل واحد يدعيها، ويحتاج هذا إلى زيادة عطاء، وربما كان قبل أن تناله هذه الجائحة غنياً بملكه البيت أو المزرعة، فأصابته هذه الجائحة فأصبح فقيراً، فهذا يعطى أكثر من الذي هو فقير من أصله، وتكفيه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان أو الدرهم والدرهمان، فشهادة الجوائح من الحكم العظيمة، وكل ما يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حكم عظيمة سواء علمناها أو لا، والمراد أن هؤلاء قالوا: إن رواة الخبر لابد أن يكونوا ثلاثة؛ لأن هذا قياماً على الشهادة، وقال بعضهم: لابد أن يكونا اثنين، فالخبر الذي يرويه واحد لا يحتج به، بل لابد أن يكون الرواة اثنين قياساً على الشهادة في الأمور العامة، وهذا وإن كان أقرب الأقوال فإنه مع ذلك غير صحيح، لكنه أقربها إلى أن يكون له مأخذ عقلي أو مأخذ شرعي وهو أن يقال: إن الرواية كالشهادة، فكما أنه لابد في الشهادة من رجلين، فكذلك لا بد أن يكون كذلك في الرواية.
    فهذا اثنا عشر قولاً وكلها باطلة، والصحيح هو ما في علم المصطلح وعند أئمة الحديث أن الخبر إذا ثبت وصح بنقل العدل الضابط عن مثله من غير علةٍ ولا شذوذ فإنه يكون موجباً للعلم والعمل، سواء كان في العقيدة أو في غيرها، وحتى لو كان إسناده حسناً فقط، يعني: لا يكون راويه تام الضبط بل يكون خفيف الضبط، بل حتى لو جاء الحديث عن راويين وكانا ضعيفين فتقويا فأصبح الحديث حسناً بغيره، فإنه يعمل به ويؤخذ به.
  3. تقديم الحديث الضعيف على الرأي المجرد

    لقد قرر الإمام أحمد في أصول مذهبه قاعدة عظيمة وهي: أن الحديث الضعيف أقوى من الرأي المجرد، وهذا لا شك لو تأمله العاقل لعرف أنه مذهب عظيم يجب أن يفعل الناس به، فحديث ولو كان ضعيفاً خير من رأي مجرد، والرأي المجرد يخرج به الرأي والاجتهاد الذي يستند إلى آية أو حديث صحيح، وليس المقصود بالضعيف الواهي، ولا الموضوع، بل ضعيف الرواية المنجبر؛ لأن الرجل الضعيف لا يعني أنه يكذب في كل رواية، أو يخلط في كل رواية يرويها، بل المقصود بضعيف الرواية هو: من يخلط أحياناً أو لا يضبط أحياناً، فليست كل رواياته خطئاً، واحتمال صدقه وارد، وعليه فالحديث الضعيف يحتمل أن يكون في الواقع صحيحاً، وأن يكون هذا الرجل الضعيف قد حفظ هذا الحديث، وكل ما وجدنا ذلك الضعيف في أي سند نقول: ضعيف؛ لأنه كذلك، لكن ليس معقولاً أن تكون كل المائة أو الألف الحديث التي رواها كلها ما حفظ منها شيئاً على الإطلاق، فقد يكون حفظ النصف، لكن ديننا يجب أن يكون مبنياً على اليقين، ولا يجب علينا أن نعمل إلا بما ثبت، وهذا من نعم الله علينا، لكن من حيث المفاضلة لو رأينا مسألة من المسائل ليس فيها إلا حديث ضعيف ورأي مجرد، لا يستند إلى قياس جلي صحيح أو استنباط صحيح، فأيهما أولى؟ الإمام أحمد يقول: الضعيف يقدم، لأنه لا يوجد حديث صحيح يعارضه، ولا قياس جلي مثلاً، ولا يدخل تحت عموم آخر، فليس ثَّم إلا الرأي المجرد أو الحديث الضعيف، فالحديث الضعيف يقدم، وهذا دليل على أن الوحي يقدم مطلقاً، فإن كان الأمر احتمالاً فاحتمال الوحي مقدم على احتمال الرأي، وهذا أمر يقضي به العقل السليم؛ لأننا إنما تعبدنا لله بالوحي لا بالرأي، والله تبارك وتعالى يقول: (( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ))[الأنبياء:45] أي: إنما ننذر ونعلم بالوحي وليس بالرأي أو الهوى.
  4. الرد على من رد الأحاديث بشبهة احتمال الخطأ على الرواة

    وهنا نذكر شبهة لا يصعب فهمها بإذن الله مع الرد عليها، وهي أنه إذا قيل: إن احتمال الخطأ وارد على أي إسنادٍ كان فلا بد من رد الحديث، فنقول: نعم احتمال الخطأ وارد على كل أمر، ولذلك فعلماء الجرح والتعديل الذين يوثقون الرجال أو يضعفونهم ما حكموا على أحدٍ بأنه معصوم، ولا يوجد من قال عن أيّ إمام من أئمة الحديث وأئمة النقل: إنه معصوم، حتى أوثق الناس نقلاً، الذين لم يعهد عنهم خطأ، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى علينا، وهو أن عندنا أئمة لم يعهد عليهم خطأ، أي: لم يضبط عليهم خطأ، وهذه نعمة وفضل من الله أن يروي مئات أو آلاف من الأحاديث ولا يخطئ في حديث واحد، ولكن مع ذلك لم يقل أحد: إن هؤلاء معصومون؛ مع أنه ليس عندنا حديث أخطئوا فيه، ولكن احتمال الخطأ عليهم وارد، فالإمام مالك رحمه الله مثلاً، أو شعبة ، أو الإمام أحمد ، أو وكيع وأمثالهم من الأئمة الذين تستقرأ أحاديثهم كلها فلا تجد فيها خطئاً، هؤلاء أئمة أفذاذ، وكذلك غيرهم ممن اختارهم الله سبحانه وتعالى حفظةً وحملةً لهذا الدين، هؤلاء نقول: هم أجل علماء الحديث، وأجل النقلة، وأجل الحفاظ بعد الصحابة والتابعين، ومع ذلك فنحن لا نقول: إن أحداً منهم معصوم وإنما نقول: إنه لم يخطئ فيما نقل، وهذا غاية ما نقول، فإن كانت القضية هي قضية احتمال الخطأ فنحن نقول لكم: يا أهل الكلام! من معتزلة وغيرهم نعم إن احتمال الخطأ وارد.
    فإن قالوا: إذاً: وافقتمونا في قولنا: باحتمال ورود الخطأ، فكونوا مثلنا لا نقبل الآحاد، فنقول: لا. هنالك فرق كبير بين احتمال الخطأ ذهناً وعقلاً وتصوراً وبين أن يُبنى عليه الحكم وكأنه أمر واقع فالاحتمال الذهني لا يصح أن نبني عليه الحكم على الواقع، ونضرب أمثلة لتوضيح هذا فنقول: ما رأيكم في الأطباء أيخطئون أم هم معصومون؟ فسيقولون: لا، كل طبيب بعينه جائز عليه الخطأ حتى لو كان أوثق الناس طباً، فنقول: فما رأيكم فيمن يرفض طبيباً من أمهر الأطباء ولا يتداوى عنده على الإطلاق بحجة احتمال أن يخطئ؟ فما رأيكم فيمن يقول: لا يتداوى عند أي: طبيب أبداً؛ لأن الخطأ وارد على أي طبيب، وكم من طبيب عالج مريضاً فمات، فالأحوط أن لا نذهب إلى أي طبيب مطلقاً، سواء تواتر الأطباء أو لا فإن الخطأ وارد عليهم، وقد وقعت منهم أخطاء؛ ولذا نرد علم الطب جملةً؛ لوجود قائمة من المتوفين بسبب أخطاء الأطباء، وعلى قول هؤلاء فلا داعي لدراسة الطب ولا لفتح كلياته؛ لأن الخطأ وارد كما هو مقتضى القياس، فهل يصح هذا القول؟!ونضرب مثالاً آخر، وهو أن هناك كم من الناس من يأكل طعاماً فيموت مسموماً -والعياذ بالله- وهذا قد يقع في بعض الأماكن، فهل نقول: يجب أن تقفل كل المحلات في الدنيا ولو كانت من أجود أماكن الأطعمة؛ لأن احتمال التسمم وارد في كل طعام، وفي كل طبخة، وفي كل رغيف، لشيء محتمل، والعقل لا ينفي ذلك أبداً، فعليه لابد أن تقفل كل محلات الأطعمة فلا يصنع طعام قط، ولا يطبخ طعام قط؟! فإذا قالوا: على هذا لا نقدر أن نعيش نقول: أنتم من بنيتم على هذا الاحتمال رد السنة ورد الدين، أليست حاجة الناس إلى الوحي والإيمان ونور النبوة أشد من حاجتهم إلى الدواء وإلى الطعام؟! فقولكم بأن ورود الاحتمال يبطل كل الأحاديث، ويلزمكم كذلك أن يبطل به الطب ونحوه مما يرد فيه احتمال الخطأ، فهذا مثل هذا، فإن قلتم: لابد أن يأكل الناس، ولا بد أن يتداووا، وصاحب الخطأ نرد عليه خطأهُ، فنحن كذلك نقول: إذا ثبت خطأ أي راوٍ ووقع فعلاً فإننا لا نقبله، أما الرد لمجرد احتمال الخطأ فهو وارد عليكم في الطب، ووارد عليكم في الطعام، بل لو استرسل العقل البشري في هذا لأصبح الناس مجانين، ومثل ذلك أن بعض السطوح قد تسقط على الناس بسبب أخطاء المهندسين، فهل نمنع الناس من العيش في البيوت خوف من ذلك؟!
    وقس على ذلك أموراً كثيرة جداً، فـ لو أن العقل عمل بالاحتمالات الواردة لما استقامت للناس الحياة الدنيا ولا الآخرة، ولأصبحت حياتهم فوضى لا نهاية لها، فقولكم: إنه باحتمال الخطأ نترك الحديث يبطله العقل السليم وواقع الناس في حياتهم، فالله تبارك وتعالى فطر الناس على الجزم بتصديق بعض الأخبار وإن جاءت من آحاد أو أفراد، بل حتى من ضعيف عقل أو ضعيف تفكير أو من طفل؛ لأن الله سبحانه وتعالى أودع في عقل الإنسان الذي فطره عليه قابلية العلم الصحيح، أما احتمالاتكم فإنها قد أفسدت العقول والقلوب، وهذا الفساد جاءها من السفسطة، وهذا القول -فضلاً عن الصحابة والتابعين- لو قيل في الجاهلية لقال الناس: هؤلاء مجانين؛ لأن العرب في الجاهلية كانوا على فطرة سليمة نقية، وهي ميزة العرب عموماً، وميزة أهل الصحاري والبوادي الذين لم يتأثروا بالفلسفة بل لرفضت حتى من أهل الحضارات والمدن الذين لم يتأثروا بالفلسفة، فميزة العقل السليم أنه يقبل العلم النافع وإذا بدأ يتفلسف دخل في متاهات الجنون والعياذ بالله واختل عقله، واختلت نظراته وأصبح يعمل بهذا المعيار الذي لا ينضبط أبداً، فالله سبحانه وتعالى أودع في العقول معرفة أمور إلى حد الجزم، وأودع فيها معرفة أمور إلى حد الظن والشك، ونضرب مثالاً على ذلك بما ذكره الشيخ المعلمي رحمه الله حيث مثل بأنه لو أن طفلاً صغيراً طرق عليك الباب وقال: إن أبي مات، وعندما فتحت الباب وجدت أنه ابن لأحد جيرانك، ولكن لابد من التأكد، فهذا طفل صغير، فلو أنك عندما فتحت الباب سمعت صياح النساء في البيت، ورأيت سيارة الإسعاف واقفة عند الباب فإنك ستجزم بأن الطفل صادق وكأنك رأيت الميت، مع أن هذا إنما هو خبر طفل واحد، ولكن احتفت به قرائن.
    والطفل قد يحتمل الكذب منه لكن قرينة صياح النساء ووجود الإسعاف أزال احتمال الكذب عن الطفل، ونحن في حياتنا نستخدم هذا دون أن نشعر؛ لأن الله أودع فينا العمل بهذه القرائن في كثير من أمور الحياة، فمثلاً في علم الجناية أو الجريمة يستدلون بأخبار بسيطة وبآثار معينة للمجرم حتى يجزم المحققون جزماً أن المجرم هو فلان، وعندها يحقق معه ويعترف بكل شيء، كل ذلك بأمور أودعها الله في النفس تصل بها إلى الحقائق بإمارات، وبينات بسيطة وإلا لضاعت الحقوق، إذاً نقول لهؤلاء القوم: إن الله أودع فينا هذا فنحن نعرف الحق، ونقبل خبر الواحد بالقرائن التي تحتف به فتجعله في غاية اليقين وهو خبر واحد، وقد يخلو عنها فلا نستطيع أن نرده، وذلك كأن يأتي رجل من بعيد ويقول: أنا يتيم ولا قرائن عندك فأنت ستعطيه صدقة، وتقول: جاءني يتيم فأعطيته، مع أنك لا تجزم بصدقه ولكنك عملت بكلامه فتصدقت عليه.
    إذاً خبر الواحد المجرد لا نستطيع أن نجزم به لكن إذا احتفت به قرائن فإنه يجزم به، وهذا في الأخبار والأمور العادية، فإذا جئنا لعلماء الحديث ورواته ونقلته لوجدنا أن الأمر عندهم لا يشبه مجرد واحد طرق الباب علينا، بل هم أكثر الناس أمانة وضبطاً وتحرياً وعدالةً، والذين يحررون من بعدهم وينقدونهم هم الصيارفة، وكذلك علماء الجرح والتعديل أكثر الناس علماً في الدنيا، ولا يوجد على ظهر الأرض علم من العلوم تحري فيه ودقق فيه وضبط مثل علم الأسانيد عندنا، سواء أسانيد القراءات أو الحديث، فالأسانيد ضبطت ضبطاً لا يوجد له نظير عند أي أمة من الأمم على الإطلاق، فكيف بعد هذا يرد الخبر ببساطة؟! ونحن نجد إن أصحاب كل فن يستطيعون أن يجزموا بتواتر بعض الأمور وعدم تواتر بعض الأمور، وينقدح ذلك في ذهنه، فلو كنت طبيباً وجربت عدة أدوية لانقدح في ذهنك القطع بأن هذا المركب يفيد لمرض كذا، وكذلك لو جاء طبيب أو أطباء جربوا ذلك لقطعوا بما قلته وإن لم تلتق بهم، وكذلك الأخبار فلو أخبرك بحصول أمر عدة أشخاص لصدقت ذلك، وكل ذلك بالممارسة، فعلماء الحديث أقوى وأعظم في الممارسة، فإنهم ينقبون في الأسانيد ويقارنون فيما بينها، ويطابقون حديث الراوي مع أحاديث غيره، ويجعلون بعض الرواة ثقةً في كل حديثه إلا إذا حدث عن فلان، وأحياناً يكون الراوي ثقة في كل حديثه حتى عن فلان هذا إلا حديثاً واحداً عن فلان، فلهم تدقيق عجيب لا نظير له في أي علم، فسبحان الله الذي حفظ هذا الدين بهؤلاء، فهذه الآيات العظمى والبراهين القوية هي من آيات صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسخر الله تعالى لحفظ الدين والوحي هذه العقول وهذه الجهود التي لم يخدم بها كلام قط، ويأتي بعد هذا هؤلاء الضالون المضلون من المعتزلة والروافض والمتفلسفة وأشباههم فيردونها بكلمة واحدة فيقولون: هذه ظنيات، وهذه تحتمل الخطأ والصواب، وهذه لا تقبل لأنها آحاد ويردونها جملةً، فهذا كإنكار ما يتعارف عليه أهل الفنون وأهل العلوم الذين يعرفونها، بحكم علمهم بهذه العلوم والفنون، فهم يستطيعون أن يعرفوا الصحيح من الخطأ، والمتواتر من غيره في هذه العلوم والفنون.
  5. أنواع الأخبار المقبولة في الأمور الخبرية العلمية

    وهنا نذكر كلاماً لبعض الأشعرية ، وهو الرازي الذي أصل هذه القضايا في كتابه أساس التقديس ثم الإيجي وأمثالهما، وقبلها ننقل كلام ابن القيم رحمه الله إذ يقول: وأما المقام الرابع: وهو إفادتها للعلم واليقين فنقول وبالله التوفيق: الأخبار المقبولة في باب الأمور الخبرية العلمية أربعة أقسام: أحدها: متواتر لفظاً ومعنى، والثاني: متواتر معنى وإن لم يتواتر لفظاً، والثالث: أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة، والرابع: أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط عن مثله حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فأما القسمان الأولان: يعني ما عدا المستفيض والآحاد فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) فهذا متواتر لفظه ومعناه، فيصح مثالاً للمتواتر لفظاً ومعنى، وأما حديث رفع اليدين في الدعاء فهو متواتر معنى لا لفظاً، ومثله حديث عذاب القبر ونعيمه، وحديث الحوض، والشفاعة، والمسح على الخفين فهذه الأحاديث معناها واحد نقله الكافة عن الكافة، والجمع عن الجمع ممن يستحيل تواطؤهم عادة على الكذب، ولكن ليس بلفظ واحد، فرواه فلان وفلان من الصحابة كل منهم بطريقة معينة، فلو قرأناها كلها فسنجد أن هذا الحكم الذي أفادته متواتر في المعنى.
    إذاً: فما تواتر معنىً فقط فكالأخبار الواردة في عذاب القبر والشفاعة والحوض ورؤية الرب تعالى، وتكليمه عباده يوم القيامة، وأحاديث علوه فوق سماواته على عرشه، وأحاديث إثبات العرش، هذا في غير الآيات وإلا فالأمر ثابت في القرآن، ومثلها الأحاديث الواردة في إثبات المعاد والجنة والنار، ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة العقلية التي لا تقبل الجدل أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها، كما يعلم بالاضطرار أنه جاء بالتوحيد وفرائض الإسلام وأركانه، وجاء بإثبات الصفات للرب تبارك وتعالى، فإنه ما من باب من أبواب العقيدة، كالشفاعة والحوض والميزان، وعذاب القبر، والعلو والعرش وغيرها إلا وقد تواتر فيه المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً معنوياً، ونقل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه متعددة، ويمتنع بمثلها في العادة التواطؤ على الكذب عمداً أو سهواً، فمثلاً في مسألة العلو نجدها في أحاديث النزول، وفي أحاديث الإسراء والمعراج وهي تدل على العلو، وعندنا أيضاً أحاديث صريحة في العلو كما في حديث: ( أين الله؟ قالت: في السماء ) فهذه مجموعة كثيرة ومتنوعة تفيد بمجموعها قطعاً أنه سبحانه وتعالى ثابت له العلو، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بهذا من جملة ما جاء به من الدين، كما أنه جاء بالصلوات الخمس التي لا يشك الناس جميعاً في مجيء الرسول بها وبأعدادها.
  6. جمع المحدثين بين رواية الأحاديث ومعرفة معناها

    يقول ابن القيم: (والعلم بمخبر الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه) فالعلم بالمخبر لا يكون بمجرد سماع الحروف، كما يظن المتكلمون أن هذه الأخبار إنما هي مجرد حروف نقلت، ثم يواصل قائلاً: (بل بفهم المعنى مع سماع اللفظ) أي: فقول المتكلمين بأنه لو ثبت تواتر هذا الحديث فإن دلالته اللفظية لا تفيد اليقين جوابه أنه ليس المقصود في الحديث اللفظ فقط، بل أيضاً المعنى، فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه الأخبار العلم بطريقها، ومعرفة حال راويها، وفهم معناها، حصل له العلم الضروري الذي لا يمكنه رفعه أو دفعه، وهذا والحمد لله واقع في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجتمع فيها العلم بطريقها، وحال رواتها وفهم معناها، ولهذا كان جميع أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث شاهدين بنسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جازمين بأن من كذبها وأنكر مضمونها فهو كافر، ومن له اطلاع على سيرتهم وأحوالهم يدرك أنهم كانوا من أعظم الناس صدقاً وأمانة وديانة، وأوفرهم عقولاً، وأشدهم تحرياً للصدق، ومجانبة للكذب رضي الله تعالى عنهم، ولم يكن أحد منهم يحابي لذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه ولا صديقه، فـ لا يمكن أن يكذب أحد من علماء الحديث بمجرد أن أباه يريد ذلك أو شيخه أو صديقه، فهم الشهداء في هذه الأمة، وهم من حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريراً لم يبلغه أحدٌ سواهم لا من الناقلين عن الأنبياء ولا عن غير الأنبياء، وقد شاهدوا شيوخهم على هذه الحال، وشيوخهم شاهدوا من فوقهم كذلك حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أعظم الثناء وهم الصحابة، فكانت رواياتهم طبقات عن طبقات، بخلاف غيرهم من الأمم كـالنصارى فإنه لا يوجد لدى النصارى وهم أقرب الأمم عهداً -لأن اليهود قبلهم- سند واحد متصل إلى عيسى عليه السلام، بل الأناجيل ليست منقطعة السند فقط بل منقطعة اللغة؛ لأن الأناجيل لم توجد إلا باللغة اليونانية، والمسيح عليه السلام إنما نشأ بين بني إسرائيل وهم يتكلمون اللغة العبرانية، فما العلاقة بين اللغة العبرانية واليونانية؟ ومن الذي ترجمها؟ وكيف نقلها؟ ومتى عرفت؟ الجواب أنه قد عرف بعضها بعد مائتي سنة من وفاة المسيح ورفعه إلى الله تعالى، حينها عرف أن لوقا له إنجيل ويوحنا كذلك وفلان له إنجيل، وهذا لا يمكن أن يكون كلام الله، فالفرق كبير جداً بينه وبين القرآن الذي قال الله عنه: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9] وقال: (( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))[فصلت:42] وهذا اختصاص من الله سبحانه وتعالى لكتابه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي تبع له.
    إذاً يقول الشيخ رحمه الله: هؤلاء الصحابة الذين اختارهم الله تعالى وجعلهم شهداء من تأمل سيرهم أفاده علماً ضرورياً بصدق ما نقلوه عن نبيهم أعظم من أي علم ينقله كل طائفةٍ عن أهلها، وهذا أمر وجداني عندهم لا يمكنهم جحده، بل بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة والحب والبغض، حتى أنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه، ويباهلون من خالفهم عليه، لأنه أصبح عندهم من اليقين أنه صلى الله عليه وسلم قد قال هذه الأحاديث، وأما قول هؤلاء القادحين في أخباره وسنته بأنه يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين فهو بمنزلة قول أعدائه صلى الله عليه وسلم بأنه يجوز أن يكون الوحي جاءه من شيطان أو كاذب، فـ قدح المتكلمين في الأخبار هو مثل قدح الكفار فيمن أبلغ الرسول الوحي وهو الأمين جبريل صلوات الله وسلامه عليه.
    يقول ابن القيم : (وكل أحد يعلم أن أهل الحديث أصدق الطوائف، ثم قال: هذه كلمة عظيمة لـ عبد الله بن المبارك يقول: [وجدت الدين لأهل الحديث] أي: في الطائفة المتبعين للحديث الذين حفظوه علماً وعملاً ([والكلام للمعتزلة]) أي: وأشد الناس كلاماً وبحثاً في علم الكلام وفروعه هم المعتزلة ([والكذب للرافضة]) أي: وأكذب خلق الله الرافضة، فالرافضي يختلق ما يشاء في لحظة، ويفتري الحديث والفضائل كما يشاء ([والحيل لأهل الرأي]) كبعض الأحناف كـالكرخي ، وليس كل حنفي يعمل بالحيل، بل بعضهم يأتي إلى حكم من الأحكام وهو حرام فيتحيل في تحليله أو حلال فيتحيل في تحريمه في لحظة، ([وسوء التدبير لآل أبي فلان])، لعله والله أعلم يقصد قوماً في عصره إما من الحكام أو من ولاة الأمر.
    إذاً: هذان النوعان: المتواتر لفظاً ومعنى، والمتواتر معنى فقط هما عند الأمة بهذه الدرجة العظيمة من الحجية.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  7. طرق إفادة العلم بالصفات من النصوص

    يقول ابن القيم رحمه الله: (وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها تمنع التواطؤ على الاتفاق على الكذب في هذه الأخبار، ويمتنع في العادة وقوع الغلط فيها، أفادت العلم اليقيني)، يعني: ما دام أفراد الأمة والحمد الله -حتى في العصور المتأخرة فضلاً عن سلفها الصالح- يمتنع تواطؤهم على الكذب فإن هذه الأخبار تفيد اليقين، وتقطع وتجزم بثبوت معانيها يقيناً، وهذه وإن كانت قضية فرعية فإننا نأخذ عنها فكرة عامة، فعندما تقول: حصل لي العلم يقيناً بأن الله تعالى عالٍ على المخلوقات أو عندما تقول بإثبات الشفاعة فإن طريق الوصول إليه كما قال البعض: ضروري، وهو ما نقول له: بدهي أي: الذي يحصل من غير مقدمات استنتاجية، بل النتيجة تقع في ذهنك من غير مقدمات، ومثال ذلك في علم الرياضيات أن كل الناس يعرف أن الاثنين أكثر من الواحد، ولا يحتاج إلى مقدمات لتصل معه إلى النتيجة، ومثله أن الواحد نصف الإثنين، وأن الكل أكبر من الجزء كما يقوله المتكلمون الذين ليس عندهم من اليقين إلا أن الكل أكبر من الجزء، لكن نحن نقول: هذا ليس فقط كل العلم، إنما هذا من أمثلة العلم الضروري، فالضروري لا يحتاج إلى مقدمات، وبمجرد أن تطلع على هذه الأحاديث ينقدح في ذهنك ذلك ضرورة.
    الطريقة الأخرى: إن طريق الوصول إليها نظري استدلالي، فأصحاب الضرورة يستدلون بحصول العلم لهم ضرورة على حصول التواتر الموجب له، يعني: عندما أقرأ الأحاديث التي في الشفاعة فإنه ينقدح في ذهني ضرورةً أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وأستدل بهذا على أنها متواترة؛ لأنه أنقدح في ذهني ما جعلني أقطع بها، فوقوع ذلك دليل على تواترها.
    يقول رحمه الله: (وأصحاب النظر يعكسون الأمر، ويقولون: بناءً على الآحاد هذه نحن نستدل بتواتر المخبرين على إفادتها العلم)، كمن قال: أنا جمعت الطرق كلها ووجدتها عشرين أي: أن الحديث متواتر، فيجب عليَّ أن أستفيد منه العلم القطعي.
    يقول ابن القيم رحمه الله: (والطريق الأول أعلى التقديرين، وهذا حق، فكل عالم بهذه الأحاديث وطرقها ونقلها وتعددها يعلم علماً يقيناً لا شك فيه، بل يجد نفسه مضطرةً إلى ثبوتها أولاً وثبوت مخبرها ثانياً، ولا يمكنه دفع هذين العلمين عن نفسه، العلم الأول ينشأ من جهة معرفته بطرق الأحاديث وتعددها وتباين طرقها، واختلاف مخارجها، وامتناع التواطؤ زماناً ومكاناً على وضعها) ولتعرف أيضاً أنه لا يمكن التواطؤ فيه على الكذب تجد أنك تستدل بحديث من الأحاديث على صفة من الصفات وهو وارد في حكم من الأحكام، وهذا يمنع التواطؤ فيه على الكذب؛ لأنك قلت: إن لله صفة كذا مستنبطاً لها من نص ليس له علاقة بالصفات، أي أنه حصل عندك علم يقين بذلك، ومثال ذلك حديث: ( قد عجب الله من صنيعكما البارحة ) فإيراد هذا الحديث ليس في باب الصفات بخلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ) فهذا حديث وارد في صفات الله، ولكن عندما يتكلم النص في قضية أخرى ويذكر الصفة عندها تعلم أن ذلك مما لا يمكن أن يتواطأ الناس على الكذب فيه، ومن ذلك أيضاً حديث معاوية بن الحكم في الجارية فإنه ما كان السؤال فيه عن الصفات، ولا هو موضوعه، إنما السؤال فيه هل تجزئ في العتق أو لا، ( فسألها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: اعتقها ) وكذلك حديث: ( يضحك الله من رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة ) وهكذا حديث النزول جاء في أبواب الدعاء، فيأتي ويكون فيه إثبات صفة النزول، وإذا جمعت هذه النصوص كلها تجزم قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء من عند الله بإثبات العلو؛ لأنك جمعتها من عدة أحاديث لا يمكن أن يتواطأ رواتها ويقصدوا إثبات شيء لم يأتِ به النبي صلى الله عليه وسلم، هذا من جهة الطرق.
    وعندنا أمر آخر يحصل به العلم، وهو عظيم جداً كما قال رحمه الله: (العلم الثاني من جهة إيمانه بالرسالة) لأننا مؤمنون -والحمد لله- برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صادق فيما يخبر به، والإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة صدقه -عند المشتعلين بعلم الحديث- أعظم من علم الأطباء بوجود بقراط -والعرب عادة يتصرفون في اللفظ الأعجمي، فينطقونها (بقراط) أو (أبقراط) أو (أبو راط)- وكذلك جالينوس ، أي: أن أصحاب كل علم وكل فن يستطيعون أن يجدوا ضرورات لا يجزم بها من لم يشاركهم في هذا العلم، فـ المشتغلون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطعون ويجزمون بأمور هي أقوى عند الأطباء من الجزم بوجود أبقراط و جالينوس، الذي لما ورث العرب طبه صار مشهوراً صارت تضرب به الأمثال كما قال المتنبي :
    يموت راعي الضأن في جهله            ميتة جالينوس في طبه
    وعلم أهل الحديث بصدق الرسول أيضاً أعظم من علم النحاة بوجود سيبويه و الخليل و الفراء ، وأعظم من علمهم بالعربية، إذ صاحب النحو لا يمكن أن يستغني عن كلام سيبويه و الخليل و الفراء مثلاً؛ لأن مادة تخصصه هي كلام هؤلاء، فلو جاء من تعلم ودرس اللغة العربية وأحبها ولكنه أنكر وجود سيبويه ، أو قال: سيبويه ما ألف كتاباً اسمه الكتاب ، أو سيبويه ما تتلمذ على فلان لقال عنه النحاة: إنه مجنون؛ لأن هذه الأمور عند أهل الفن مجزوم ومقطوع بها وإن خفيت على غيرهم، حتى ولو كان قائل هذا من المشتغلين بالفرائض مثلاً فشرح أحكام الميراث وقال: وأما سيبويه وأمثاله فوجودهم خرافة، لكان لصاحب اللغة أن يقول: يا أخي لا تتكلم في هذا العلم جزاك الله خيراً، أنت في الفرائض متقن أما اللغة فنحن أهلها، ولا يمكن لأحد منا أن يقبل منك أن تقول: سيبويه خرافة.
    فإذا عذروه فإما لأنه جاهل وتدخل في غير علمه، فقالوا له: سلم لنا في علمنا كما أننا نسلم لك في مسائل الفرائض التي لا نعرفها، فكذلك يجب أن يسلم المتكلمون والفلاسفة وأي أصحاب علم لعلماء الحديث فيما هم أهله وورثته وحملته، وأعظم من ذلك أن أهل الحديث أتقى الناس وأبرهم وأضبطهم وأحفظهم للسنة، وهم متدينون بها بخلاف أهل اللغة فمنهم الفساق، وهذا معروف وكثير في أهل اللغة المتأخرين، أما الأولون والمتقدمون من أهل اللغة فقد كان فيهم الخير الكثير، وكانوا على عبادة كـالخليل بن أحمد و النضر بن شميل و الكسائي ، لكن المتأخرين كما ينقل عن ثعلب ومن بعده فهم أسوأ وأسوأ، وليسوا أهل ديانة، وهذا العلم إن لم يكن صاحبه عدلاً بأن كان فاسقاً لرفض، ولا يعد من أهل هذا العلم مهما كان.
    فهذه قضية مهمة جداً، ولكن مشكلة الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية والمتفلسفة وأهل الكلام وأتباعهم عموماً في قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به، ومن تأمل كتبهم وقرأها يجد شيئاً عجيباً من جهلهم بالأحاديث، كما في كتاب الجويني صاحب الشامل الذي يعتبر عندهم من العلماء، وإحياء علوم الدين للغزالي الذي لا يعتبر متكلماً بحتاً، بل قد أورد أحاديث كثيرة جداً في كتابه، ولا يكاد يخلو باب من أبواب الإحياء من جملة من الأحاديث والآثار، وهذا دليل على سعة الإطلاع ومع ذلك لم يكن من أهل التمييز، فتجد فيه الموضوع والواهي والضعيف جداً، وتجد أن ما كان مرفوعاً قد يجعله موقوفاً، وما كان موقوفاً أو مقطوعاً يجعله مرفوعاً وهكذا، وهذا حصل لهؤلاء ولهم صلة بالعلم والفقه، فكيف بالمتكلم الصرف الذي ليس له علاقة بالفقه ولا بالحديث؟ لا شك أنه من أجهل الناس، ونضرب مثالاً لهذا وهو أن بعضهم يظن أن الباب الذي يتكلم فيه لم يرد فيه شيء أو أن المروي فيه حديث أو حديثان، كما وقع لأكابر شيوخ المعتزلة كـأبي الحسين البصري حيث كان يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث جرير ، ولم يعلم أن فيها ما يقارب ثلاثين حديثاً، وهذا دليل على أنهم جهلة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم رحمه الله: (وقد ذكرنا الأحاديث في إثبات الرؤية في كتاب صفة الجنة ) لـابن القيم كتاب في صفة الجنة، وهو كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
    فإنكار هؤلاء لما علمه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم يجعل علماء الحديث يتعجبون من إنكار هؤلاء الجهال بالسنة على أهل الوراثة، ولا أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة من أتباعهم، فتجد بعض المتكلمين يقول لك: نحن شافعية، نعرف أصول الشافعي وكلامه ورواياته، ولا يحق لحنفي أن يقرر ما هي أصول مذهب الشافعي ويخلط فيها، فنحن أصحاب المذهب ونحن نعرف أكثر، فنقول: سبحان الله! إذا كان هذا في أمر يسير وليس كثير الإشكال فكيف يأتي علماء اشتغلوا بكلام اليونان وأشباههم ويقولون: إن شيئاً ما لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتجرءون على علماء الحديث وعلماء السنة الذين يعلمون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على التفصيل، وليس فقط على الإجمال.
    وسننقل فيما بعد بعضاً من كلام الرازي في هذا، وهو مما تقشعر منه الجلود، يقول ابن القيم : (وما يعلم أن كثيراً من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا تفيده علماً؛ لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها من قبله) فإذا اتفق له أعرض عنها متناسياً روايتها، ومحسناً للظن بمن قال بخلافها، أو لأنها تعارض خيالاً شيطانياً يقوم بقلبه، كحال الصوفية أصحاب الخيالات وغيرهم، فالخيال الشيطاني يقوم بقلبه فهناك يكون الأمر كما قال تعالى: (( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ))[فصلت:44] إلى قوله: (( مَكَانٍ بَعِيدٍ ))[فصلت:44]فلو كانت النصوص أضعاف الموجود لم تحصل لهم إيماناً ولا علماً، مع أن حصول العلم في القلب بموجب التواتر أمر لابد منه، فالذين طمس الله بصائرهم هؤلاء لا خير فيهم، بل هم ممن أعمى الله بصائرهم كما قال تعالى: (( وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ))[المائدة:41] وقال: (( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ))[الأنعام:25] فماذا نقول لمن لا يمكن أن يصدق بهذا ويسلم بالأمر لأهله، مع حصول العلم في القلب بالتواتر مثل الشبع والري ونحوها، فكما أن الجائع إذا أكل يشعر بالشبع، وإذا شرب العطشان يشعر بالري، فكذلك طالب الحق إذا أراد أن يطلبه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سيجده متواتراً، فيحصل له اليقين مثل هذه الحالة، وهذا مثال عظيم وهو حق كذلك.
    يقول: (وكل واحد من الأخبار يفيد قدراً من العلم)، فإذا تعددت الأخبار وقويت أفادت العلم إما بالكثرة وإما بالقوة، وإما لمجموعها، فأما الكثرة كثلاثين راوٍ عن ثلاثين، أو أربعين عن أربعين، وأما القوة كحديث ما رواه إلا عشرة مثلاً، لكن هؤلاء العشرة أئمة جبال، وهم من الأعلام، وقد يكون ذلك باجتماع القوة والكثرة.