يقول
ابن القيم رحمه الله: (وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها تمنع التواطؤ على الاتفاق على الكذب في هذه الأخبار، ويمتنع في العادة وقوع الغلط فيها، أفادت العلم اليقيني)، يعني: ما دام أفراد الأمة والحمد الله -حتى في العصور المتأخرة فضلاً عن سلفها الصالح- يمتنع تواطؤهم على الكذب فإن هذه الأخبار تفيد اليقين، وتقطع وتجزم بثبوت معانيها يقيناً، وهذه وإن كانت قضية فرعية فإننا نأخذ عنها فكرة عامة، فعندما تقول: حصل لي العلم يقيناً بأن الله تعالى عالٍ على المخلوقات أو عندما تقول بإثبات الشفاعة فإن طريق الوصول إليه كما قال البعض: ضروري، وهو ما نقول له: بدهي أي: الذي يحصل من غير مقدمات استنتاجية، بل النتيجة تقع في ذهنك من غير مقدمات، ومثال ذلك في علم الرياضيات أن كل الناس يعرف أن الاثنين أكثر من الواحد، ولا يحتاج إلى مقدمات لتصل معه إلى النتيجة، ومثله أن الواحد نصف الإثنين، وأن الكل أكبر من الجزء كما يقوله المتكلمون الذين ليس عندهم من اليقين إلا أن الكل أكبر من الجزء، لكن نحن نقول: هذا ليس فقط كل العلم، إنما هذا من أمثلة العلم الضروري، فالضروري لا يحتاج إلى مقدمات، وبمجرد أن تطلع على هذه الأحاديث ينقدح في ذهنك ذلك ضرورة.الطريقة الأخرى: إن طريق الوصول إليها نظري استدلالي، فأصحاب الضرورة يستدلون بحصول العلم لهم ضرورة على حصول التواتر الموجب له، يعني: عندما أقرأ الأحاديث التي في الشفاعة فإنه ينقدح في ذهني ضرورةً أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وأستدل بهذا على أنها متواترة؛ لأنه أنقدح في ذهني ما جعلني أقطع بها، فوقوع ذلك دليل على تواترها.يقول رحمه الله: (وأصحاب النظر يعكسون الأمر، ويقولون: بناءً على الآحاد هذه نحن نستدل بتواتر المخبرين على إفادتها العلم)، كمن قال: أنا جمعت الطرق كلها ووجدتها عشرين أي: أن الحديث متواتر، فيجب عليَّ أن أستفيد منه العلم القطعي.يقول
ابن القيم رحمه الله: (والطريق الأول أعلى التقديرين، وهذا حق، فكل عالم بهذه الأحاديث وطرقها ونقلها وتعددها يعلم علماً يقيناً لا شك فيه، بل يجد نفسه مضطرةً إلى ثبوتها أولاً وثبوت مخبرها ثانياً، ولا يمكنه دفع هذين العلمين عن نفسه، العلم الأول ينشأ من جهة معرفته بطرق الأحاديث وتعددها وتباين طرقها، واختلاف مخارجها، وامتناع التواطؤ زماناً ومكاناً على وضعها) ولتعرف أيضاً أنه لا يمكن التواطؤ فيه على الكذب تجد أنك تستدل بحديث من الأحاديث على صفة من الصفات وهو وارد في حكم من الأحكام، وهذا يمنع التواطؤ فيه على الكذب؛ لأنك قلت: إن لله صفة كذا مستنبطاً لها من نص ليس له علاقة بالصفات، أي أنه حصل عندك علم يقين بذلك، ومثال ذلك حديث: (
قد عجب الله من صنيعكما البارحة ) فإيراد هذا الحديث ليس في باب الصفات بخلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ) فهذا حديث وارد في صفات الله، ولكن عندما يتكلم النص في قضية أخرى ويذكر الصفة عندها تعلم أن ذلك مما لا يمكن أن يتواطأ الناس على الكذب فيه، ومن ذلك أيضاً حديث
معاوية بن الحكم في الجارية فإنه ما كان السؤال فيه عن الصفات، ولا هو موضوعه، إنما السؤال فيه هل تجزئ في العتق أو لا، (
فسألها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: اعتقها ) وكذلك حديث: (
يضحك الله من رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة ) وهكذا حديث النزول جاء في أبواب الدعاء، فيأتي ويكون فيه إثبات صفة النزول، وإذا جمعت هذه النصوص كلها تجزم قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء من عند الله بإثبات العلو؛ لأنك جمعتها من عدة أحاديث لا يمكن أن يتواطأ رواتها ويقصدوا إثبات شيء لم يأتِ به النبي صلى الله عليه وسلم، هذا من جهة الطرق.وعندنا أمر آخر يحصل به العلم، وهو عظيم جداً كما قال رحمه الله: (العلم الثاني من جهة إيمانه بالرسالة) لأننا مؤمنون -والحمد لله- برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صادق فيما يخبر به، والإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة صدقه -عند المشتعلين بعلم الحديث- أعظم من علم الأطباء بوجود
بقراط -والعرب عادة يتصرفون في اللفظ الأعجمي، فينطقونها (بقراط) أو (أبقراط) أو (أبو راط)- وكذلك
جالينوس ، أي: أن أصحاب كل علم وكل فن يستطيعون أن يجدوا ضرورات لا يجزم بها من لم يشاركهم في هذا العلم، فـ
المشتغلون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطعون ويجزمون بأمور هي أقوى عند الأطباء من الجزم بوجود أبقراط و جالينوس، الذي لما ورث العرب طبه صار مشهوراً صارت تضرب به الأمثال كما قال
المتنبي :
يموت راعي الضأن في جهله ميتة جالينوس في طبه وعلم أهل الحديث بصدق الرسول أيضاً أعظم من علم النحاة بوجود
سيبويه و
الخليل و
الفراء ، وأعظم من علمهم بالعربية، إذ صاحب النحو لا يمكن أن يستغني عن كلام
سيبويه و
الخليل و
الفراء مثلاً؛ لأن مادة تخصصه هي كلام هؤلاء، فلو جاء من تعلم ودرس اللغة العربية وأحبها ولكنه أنكر وجود
سيبويه ، أو قال:
سيبويه ما ألف كتاباً اسمه
الكتاب ، أو
سيبويه ما تتلمذ على فلان لقال عنه النحاة: إنه مجنون؛ لأن هذه الأمور عند أهل الفن مجزوم ومقطوع بها وإن خفيت على غيرهم، حتى ولو كان قائل هذا من المشتغلين بالفرائض مثلاً فشرح أحكام الميراث وقال: وأما
سيبويه وأمثاله فوجودهم خرافة، لكان لصاحب اللغة أن يقول: يا أخي لا تتكلم في هذا العلم جزاك الله خيراً، أنت في الفرائض متقن أما اللغة فنحن أهلها، ولا يمكن لأحد منا أن يقبل منك أن تقول:
سيبويه خرافة. فإذا عذروه فإما لأنه جاهل وتدخل في غير علمه، فقالوا له: سلم لنا في علمنا كما أننا نسلم لك في مسائل الفرائض التي لا نعرفها، فكذلك
يجب أن يسلم المتكلمون والفلاسفة وأي أصحاب علم لعلماء الحديث فيما هم أهله وورثته وحملته، وأعظم من ذلك أن
أهل الحديث أتقى الناس وأبرهم وأضبطهم وأحفظهم للسنة، وهم متدينون بها بخلاف أهل اللغة فمنهم الفساق، وهذا معروف وكثير في أهل اللغة المتأخرين، أما الأولون والمتقدمون من أهل اللغة فقد كان فيهم الخير الكثير، وكانوا على عبادة كـ
الخليل بن أحمد و
النضر بن شميل و
الكسائي ، لكن المتأخرين كما ينقل عن
ثعلب ومن بعده فهم أسوأ وأسوأ، وليسوا أهل ديانة، وهذا العلم إن لم يكن صاحبه عدلاً بأن كان فاسقاً لرفض، ولا يعد من أهل هذا العلم مهما كان.فهذه قضية مهمة جداً، ولكن مشكلة
الأشاعرة و
المعتزلة و
الماتريدية و
المتفلسفة وأهل الكلام وأتباعهم عموماً في قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به، ومن تأمل كتبهم وقرأها يجد شيئاً عجيباً من جهلهم بالأحاديث، كما في كتاب
الجويني صاحب
الشامل الذي يعتبر عندهم من العلماء، و
إحياء علوم الدين للغزالي الذي لا يعتبر متكلماً بحتاً، بل قد أورد أحاديث كثيرة جداً في كتابه، ولا يكاد يخلو باب من أبواب
الإحياء من جملة من الأحاديث والآثار، وهذا دليل على سعة الإطلاع ومع ذلك لم يكن من أهل التمييز، فتجد فيه الموضوع والواهي والضعيف جداً، وتجد أن ما كان مرفوعاً قد يجعله موقوفاً، وما كان موقوفاً أو مقطوعاً يجعله مرفوعاً وهكذا، وهذا حصل لهؤلاء ولهم صلة بالعلم والفقه، فكيف بالمتكلم الصرف الذي ليس له علاقة بالفقه ولا بالحديث؟ لا شك أنه من أجهل الناس، ونضرب مثالاً لهذا وهو أن بعضهم يظن أن الباب الذي يتكلم فيه لم يرد فيه شيء أو أن المروي فيه حديث أو حديثان، كما وقع لأكابر شيوخ
المعتزلة كـ
أبي الحسين البصري حيث كان يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث
جرير ، ولم يعلم أن فيها ما يقارب ثلاثين حديثاً، وهذا دليل على أنهم جهلة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. يقول
ابن القيم رحمه الله: (وقد ذكرنا الأحاديث في إثبات الرؤية في كتاب صفة الجنة ) لـ
ابن القيم كتاب في صفة الجنة، وهو كتاب
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. فإنكار هؤلاء لما علمه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم يجعل علماء الحديث يتعجبون من إنكار هؤلاء الجهال بالسنة على أهل الوراثة، ولا أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة من أتباعهم، فتجد بعض المتكلمين يقول لك: نحن شافعية، نعرف أصول
الشافعي وكلامه ورواياته، ولا يحق لحنفي أن يقرر ما هي أصول مذهب
الشافعي ويخلط فيها، فنحن أصحاب المذهب ونحن نعرف أكثر، فنقول: سبحان الله! إذا كان هذا في أمر يسير وليس كثير الإشكال فكيف يأتي علماء اشتغلوا بكلام اليونان وأشباههم ويقولون: إن شيئاً ما لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتجرءون على علماء الحديث وعلماء السنة الذين يعلمون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على التفصيل، وليس فقط على الإجمال.وسننقل فيما بعد بعضاً من كلام
الرازي في هذا، وهو مما تقشعر منه الجلود، يقول
ابن القيم : (وما يعلم أن كثيراً من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا تفيده علماً؛ لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها من قبله) فإذا اتفق له أعرض عنها متناسياً روايتها، ومحسناً للظن بمن قال بخلافها، أو لأنها تعارض خيالاً شيطانياً يقوم بقلبه، كحال
الصوفية أصحاب الخيالات وغيرهم، فالخيال الشيطاني يقوم بقلبه فهناك يكون الأمر كما قال تعالى: ((
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ))[فصلت:44] إلى قوله: ((
مَكَانٍ بَعِيدٍ ))[فصلت:44]فلو كانت النصوص أضعاف الموجود لم تحصل لهم إيماناً ولا علماً، مع أن حصول العلم في القلب بموجب التواتر أمر لابد منه، فالذين طمس الله بصائرهم هؤلاء لا خير فيهم، بل هم ممن أعمى الله بصائرهم كما قال تعالى: ((
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ))[المائدة:41] وقال: ((
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ))[الأنعام:25] فماذا نقول لمن لا يمكن أن يصدق بهذا ويسلم بالأمر لأهله، مع حصول العلم في القلب بالتواتر مثل الشبع والري ونحوها، فكما أن الجائع إذا أكل يشعر بالشبع، وإذا شرب العطشان يشعر بالري، فكذلك طالب الحق إذا أراد أن يطلبه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سيجده متواتراً، فيحصل له اليقين مثل هذه الحالة، وهذا مثال عظيم وهو حق كذلك.يقول: (وكل واحد من الأخبار يفيد قدراً من العلم)، فإذا تعددت الأخبار وقويت أفادت العلم إما بالكثرة وإما بالقوة، وإما لمجموعها، فأما الكثرة كثلاثين راوٍ عن ثلاثين، أو أربعين عن أربعين، وأما القوة كحديث ما رواه إلا عشرة مثلاً، لكن هؤلاء العشرة أئمة جبال، وهم من الأعلام، وقد يكون ذلك باجتماع القوة والكثرة.