المادة    
ثم قال: (وقال عكرمة عن ابن عباس: [إياكم والرأي؛ فإن الله رد على الملائكة الرأي]) وهذا الاستنباط دقيق فإن الملائكة رأوا أن جعل خليفة في الأرض لعلة: (( وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[البقرة:30]، فكان في نظرهم أن العلة واضحة، وهي إن كان المقصود من جعل خليفة في الأرض العبادة، فنحن نسبحك ونقدس لك ونعبدك ولا نعصيك في شيء، فكيف تجعل فيها من يكون هذا حاله وشأنه؟ فقال الله: (( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[البقرة:30].
قال: (وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ))[النساء:105]، ولم يقل: (بما رأيت)، مع أنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحكم بما رأى، وإنما بما أراه الله عز وجل.
قال: (وقال بعض العلماء: ما أخرج آدم من الجنة إلا بتقديم الرأي على النص، وما لعن إبليس وغضب عليه إلا بتقديم الرأي على النص‎، ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم آرائها على الوحي) وبيان ذلك: أما في شأن آدم فقال الله: (( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ))[البقرة:35] خطاب رباني بأن لا تقرب هذه الشجرة أنت ولا زوجك، فقدم الرأي وهو: (( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ))[الأعراف:20]، فإنه رأى أن هذا الأمر أفضل مما هو فيه، وأما بشأن إبليس فالنص قوله تعالى: (( اسْجُدُوا لِآدَمَ ))[البقرة:34] أمره الله من جملة ما أمر، فاعتراض على الأمر بدليل القياس أو العقل، فقال: (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12] فعنصر النار أعلى من عنصر الطين، فالواجب أن الطين يسجد للنار، فأنت يا رب! كأنك أمرت بعكس المفروض، ثم قال: (ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم الرأي على الوحي) فالآراء مثل: نظريات، وفلسفات، وقوانين وضعية، وعادات اجتماعية، وتقاليد قبلية، وأهواء، وعصبيات، وشهوات، فكل ذلك يدخل في الرأي، وهو من غير الوحي أو ما شرع الله وأنزله.
قال: (ولا تفرقت الأمة فرقاً وكانوا شيعاً إلا بتقديم آرائهم على النصوص). إذ لو حكموا الوحي ما تفرقوا وما اختلفوا، لكن عندما قدموا هذه الآراء على ما جاء من عند الله تفرقوا فكل واحد يرى أن عقله أفضل من الآخر، ورحم الله الإمام مالكاً لما قال: [أو كلما جاءنا رجل هو أجدل بحجته من الآخر تركنا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه لقوله]، ولهذا قال العلماء: من اتبع الرأي أكثر التنقل. أي: أنه ما يثبت، فيكثر التنقل والتردد، وصاحب البدعة يبدأ بالانحراف -والعياذ بالله- في قضية من القضايا، ثم يستمر، ولا تظنوا أن صاحب البدعة أو صاحب الهوى هو فقط من كان محدوداً في أحد الفرق هذه، إما خارجي أو رافضي أو معتزلي، إذ كل من أعرض عن الحق واتبع هواه فهو من أهل الأهواء والبدع والعياذ بالله، وكل من يريد أن يكون الحق كما يرى هو، أوكما يتمنى، أوكما يهوى، أوكما يحب، فهذه هي الأساس، وهذه هي العلة، فليكن بعدها ما كان، حتى لو أخذ من هذه الفرقة بطرف، ومن هذه بطرف، وقد لا يكون له رأي معين أو بدعة معينة، لكنه يكون صاحب هوى، أي: حاطب ليل يتخبط في كل وادي، ويأخذ من كل فرقة، ومن كل كاتب، ومن كل عالم، ومن كل مفت ما يوافق هواه، ويعارض هذه بهذه، وهؤلاء كثير والعياذ بالله، فأهل الأهواء أعم من أن يكونوا أهل بدع بالمعنى المعروف.
ثم قال: (وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: [يا أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهاداً، والله ما آلو عن الحق]) أي: ما كانت نيته إلا الحق رضي الله تعالى عنه، وذلك يوم أبي جندل والكتاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وهو في يوم الحديبية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: بل تكتب كما نكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت عليه حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تراني أرضى وتأبى )، أي: أخذ يعاتبه، وقال ابن عباس في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))[الحجرات:1]: [لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة]. وحديث عمر رضي الله عنه معلوم للجميع، وقد قال: [قد أعتقت وتصدقت لذلك دهراً]، أي: ظل حيناً يفعل من العبادات والمكفرات ما يكفر الله به عنه في ذلك الموقف الذي عارض أو امتنع أو تحرج من قبول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما أمر به، وأما كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه فإنه فسر آية الحجرات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))[الحجرات:1]، فقال: [لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة] وهذا معنى التقديم بين يدي الله ورسوله، أي: أن يعلم العبد أو يبلغه أمراً عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول بخلافه، ويرى أن العمل إنما هو بما قاله هو لا بما بلغه عن الله ورسوله، فيكون قد قدم بين يدي الله ورسوله، والواجب إنما هو الاتباع وهو عكس التقديم، أي: اتباع ما جاء في كتاب الله وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس التقديم بين أيديهما خاصاً في حال الحياة فقط، بل هذا ينطبق عليه أن يقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وغض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وكذلك أن لا يقدم بين يدي كلامه، فإذا قال أحد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فالواجب أن لا يرفع أحد صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ولكن المذهب الفلاني كذا، أو الشيخ الفلاني قال كذا، أو الرأي كذا، أو العقل كذا، إنما الواجب هو الاتباع والانقياد لما جاء به صلى الله عليه وسلم.
وبهذا الكلام يكون قد انتهى المقام الثالث، وهو موجز وجامع لوجوب تلقي الأحاديث وأخبار الآحاد بالقبول، ثم يبدأ بعد ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في شرح المقام الرابع وهو: إفادتها للعلم واليقين، ولا نستطيع أن نبدأ بهذا، لكن نعقب على المقام الثالث بالتذكير بما تقدم في شرح هذا الكتاب من قوله: (فهما توحيدان لا نجاة للعبد إلا بهما) أي: توحيد المرسل، ويعني به: توحيد الله تبارك وتعالى بالعبادة، وتوحيد متابعة المرسل، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يغني أحدهما عن الآخر، حتى الخوارج الذين تعبدوا وتقربوا إلى الله بقربات وطاعات يحقر أحدنا عبادته بعبادتهم، لكن لما لم يتبعوا لم ينفعهم ذلك.
إذاً ليست المسألة فقط توحيد المرسل، أي: توحيد الله تعالى بالعبادة والطاعة، ولكن يجب أيضاً متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون الأصلان اللذان هما أصلا الدين وقاعدته: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يُعبد إلا بما شرع، وهو ما بلغه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من تحقيق هذين الأصلين ليكون الإنسان مؤمناً حقاً.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.