المادة    
ثم فوق ذلك درجة أعلى وهي: (( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65]، وهي درجة أو مقام الإحسان كما ذكر الشيخ رحمه الله في المدارج، التحكيم في مقام الإسلام، فمن لم يحكم فليس مسلماً، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، فمن لم ينتف الحرج من قلبه فليس بمؤمن وإن كان مسلماً لأنه حكم النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم في مقام الإحسان، فمن لم يسلم تسليماً فليس بمحسن وإن كان مؤمناً لأنه حكم وانتفى الحرج من قلبه، ثم قال: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، أي: ينقادوا انقياداً لحكمه من غير مدافعة ولا منازعة ولا ممانعة ولا معارضة، وإنما يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يصبح له هوىً، وإنما ينظر أينما كان أمر الله ورسوله، فهواه تبع له، وهذه غاية الإيمان، وهي مرتبة عظمى نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهلها، والتي ما نالها الصحابة إلا بعد جهد جهيد، ويوم الحديبية -كما تعلمون- نال هذه الدرجة وفاز بها: أبو بكر رضي الله تعالى عنه، أما عمر وبقية الصحابة فكانوا يرون الإقرار بشروط الصلح والعودة أنه ليس بصواب، فقالوا: أنرضى بالدنية في ديننا؟ ألسنا مؤمنين؟ أليسوا كافرين؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يطمئنهم ويهدأ من روعهم، مع أنهم أبوا أن يحلقوا رءوسهم إلا بعد أن فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك اعتراضاً عليه صلى الله عليه وسلم، لكن من غيرتهم على الدين ما فعلوا ذلك، مع أن الغيرة على الدين والحرص عليه تعني أنه لا بد أن تحكم ما يأتيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تعمل به، أما أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإنه سلم تسليماً وأذعن وقال: إنه رسول الله، ولا بد أن نصدقه، وأن نطيعه من غير أدنى اعتراض أو ممانعة. ثم فيما بعد اكتمل إيمانهم رضي الله تعالى عنهم، ولذلك يقول عمر رضي الله تعالى عنه: فأعتقت وتصدقت لذلك، أي: من أجل هذا الموقف ظل عمر رضي الله تعالى عنه، يعتق ويتصدق ليكفر عن موقفه، فانظروا كيف هذا الإيمان؟! مع أنه ما وقفه من أجل نفسه أو حظها أو شهوتها، وإنما من أجل إعزاز دين الله وإظهار الحق، في نظره، لا كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والله يشهد ورسوله وملائكته والمؤمنون أن من قال: إن أدلة القرآن والسنة لا تفيد اليقين، وإن أحاديث الأسماء والصفات أخبار آحاد لا تفيد العلم، بمعزل عن هذا التحكيم) أي: لا حظ له في التحكيم فضلاً عن انتفاء الحرج أو التسليم؛ لأنه يقول: هذه أخبار آحاد! كأحاديث الرؤية لله، وأحاديث عذاب القبر، وأحاديث النزول، وحديث القدر، فبقولهم هذا عزلوا الوحي عن التحكيم، فلم يحكموا شرع الله، ولم يحكموا ما جاء عن الله، وإنما حكموا أهواءهم وعقولهم المزعومة، وظنوا أن هذا هو الحق.
ثم يقول: (وهو يشهد على نفسه بذلك) أي: إن قائل هذا القول يشهد على نفسه أنه ما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعل كلامه لا يفيد العلم اليقيني.
ثم قال: (وقد قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ))[النساء:59]، وأجمع المسلمون أن الرد إليه هو الرجوع إليه في حياته صلى الله عليه وسلم) كما قال تعالى: (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ))[النساء:59] والرد إلى الله يعني: الرد إلى كتاب الله وهذا باتفاق، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعني الرد على سنته صلى الله عليه وسلم، فيكون الرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى سنته بعد مماته، واتفقوا أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته أيضاً، بل حتى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فليس شرطاً أن يرد الإنسان الأمر إلى شخصه أو إلى ذاته صلى الله عليه وسلم، فلو كان الصحابة خارج المدينة في سفر مثلاً، واشتبه عليهم أمر فقال أحدهم: برأي، وقال الآخر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فالواجب هو الاتباع، حتى وهو حي صلى الله عليه وسلم؛ وبالتالي فلا فرق بين حياته صلى الله عليه وسلم أو موته، وإنما المهم ثبوت ذلك القول عنه، فإذا ثبت عنه هذا القول وجب أن يرد الإنسان الأمر إلى ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.