المادة    
إن الأصل الأول من أصول دين الإسلام: أن نؤمن بالله، والإيمان بالله أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نوحده ونطيعه، ونتبع ما جاء به، ونصدق بكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد ورد الأمر بالإيمان في القرآن على صور شتى؛ فتارةً يرد الأمر بالإيمان بالله دون ذكر بقية الأركان، وتارة يرد الأمر بالإيمان بالله ورسله، وتارة يرد الأمر بالإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته، وتارة بزيادة اليوم الآخر، فإذا قلنا: الإيمان بالله، فإنه يدخل فيه الإيمان بالملائكة؛ لأنهم عباد الله المكرمون، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويدخل فيه الإيمان بالكتب؛ لأنها كلامه، ويدخل فيه الإيمان بالرسل؛ لأنهم عباده، اصطفاهم واختارهم، وأنزل عليهم الكتب. فالإيمان بالله يدخل فيه كل هذه الأمور، وإذا قيل: الإيمان بالله ورسله، فالحكمة أيضاً ظاهرة في ذلك، فالإيمان بالله واضح، أما الإيمان بالرسل فلأنهم الذين بلغوا دين الله وعرفوا الناس بالله، وأن له ملائكة وله جنةً وناراً، وغير ذلك، لذا يجب أن نؤمن بالله وبرسل الله، وهذا يدخل فيه الإيمان بالملائكة والكتب وغير ذلك.
فإن فُصِّل وطلب منا الإيمان بالله وملائكته ورسله، فلأن الوحي الذي أنزله الله على رسله، إنما نزل به رسل الله من الملائكة، وهو أشرف عمل تقوم به الملائكة، وأعظم الملائكة وأشرفهم هو جبريل، الذي هو الروح الأمين، ورسول رب العالمين إلى من يصطفيه الله من عباده.
فإذا ذكر الإيمان بالله وملائكته ورسله، فالحكمة في ذلك ظاهرة، فإذا أضيفت الكتب فلأنها النور الذي أنزله الله بواسطة هذا الملك إلى هذا الرسول، وإذا ذكر اليوم الآخر فهو الغرض والأساس، فمن لم يؤمن باليوم الآخر فليس بمؤمن بالله، وصلاح أعمالنا في هذه الدنيا يتوقف على الإيمان بالآخرة، وفسادها بإنكار اليوم الآخر.
إذاً: أصول الدين عندنا خمسة؛ وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وفي حديث جبريل ذكر أصلاً سادساً هو الإيمان بالقدر، وهو يدخل تحت أصل الإيمان بالله؛ لأن مراتب القدر أربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق؛ فالعلم هو علم الله، والكتابة هي كتابة الله، والمشيئة مشيئة الله، والخلق خلق الله، فالإيمان بالقدر هو في الحقيقة يدخل ضمن الإيمان بالله، وقد أفرد في حديث جبريل لأهميته، كما سبق في مباحث القدر.
يقول المصنف: [هذه الأمور من أركان الإيمان، قال تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))[البقرة:285] الآيات]، فذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أصول: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، قال: [وقال تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ))[البقرة:177] الآية]، فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أصول الإيمان الخمسة، فزاد الإيمان باليوم الآخر لأهميته؛ بل قدمه بعد الإيمان بالله.
قال المصنف: [فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة بقوله تعالى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا))[النساء:136]...].
إذاً: المؤمن مطالب بأن يؤمن بهذه الأمور الخمسة، ومن كفر بها فهو الكافر.. هذا هو المعيار، وهذا هو مقياس الإيمان، فهذه الأصول الخمسة هي أصول الإيمان، ومعنى أصوله: أركانه وأسسه التي يقوم عليها بناؤه.
أما الفرق الضالة فقد وضعت محلها أصولاً أخرى، سوف نبينها إن شاء الله.
  1. أهمية حديث جبريل في بيان أصول الدين

    قال المصنف رحمه الله: [وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته -حديث جبريل- وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان... فقال : {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره}، فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل].
    هذا الحديث -حديث جبريل- من أعظم الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك اختلاف في الصحابي الذي رواه، كما أن هناك اختلافاً في ألفاظه، فقد رواه الإمام مسلم في أول الصحيح عن عبد الله بن عمر عن عمر، وهي أتم الروايات، وقد رواها غيره بأسانيد صحيحة، كالإمام ابن مندة في كتاب الإيمان، وأما الإمام البخاري فقد رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ أوجز من رواية الإمام مسلم.
    وقد ذكرنا أهمية هذا الحديث، ومما يدل على أهميته: مجيء جبريل بنفسه إلى رسول الله وحوله صحابته، وجبريل يسأله ويصدقه في نفس الوقت، وهذا النوع من الحديث يسمى: العرض، وهو أعلى درجات الوحي، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ الكلام من عنده، فقال: الإيمان ستة أركان، هي كذا وكذا، والإسلام خمسة، هي كذا وكذا؛ والإحسان هو كذا وكذا، لما كانت قوة هذا الحديث -مع أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله حق- بتلك القوة التي نشأت عن مجيء جبريل، وخاصة أن جبريل دخل على الصحابة بتلك الهيئة، كما قال عمر رضي الله عنه: {بينا نحن جلوس عند رسول الله، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد}، فهو رجل مهيب ولا يعرفه أحد، ثم أخذ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ويصدقه؛ قال عمر رضي الله عنه: {فعجبنا له يسأله ويصدقه!}، فهذا ليس بأعرابي جاء من البادية، فإن الأعراب مظهرهم غير هذا المظهر، وأسئلتهم غير هذه الأسئلة، وليس عندهم علم حتى يصدقوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هذا السائل من علماء الصحابة، فالصحابة كلهم متعارفون، إذاً فقد كان السائل غريباً؛ قال عمر: {لا يعرفه منها أحد}، فلما ذهب قال صلى الله عليه وسلم لـعمر: {هل تدري من السائل؟ قال عمر: فقلت: الله ورسوله أعلم! قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}.
    ومن أهمية هذا الحديث: أنه كان في آخر عمره صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه من حجة الوداع وقبيل موته ببضع وثمانين ليلة، فكان هذا الحديث بعد أن اكتمل الدين، وتم التشريع.
    والأركان التي ذكرت في هذا الحديث لم تذكر مجتمعة في حديث غيره، وإنما ذكرت متفرقة في عدة أحاديث، ومن هنا كان هذا الحديث أشرف حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
  2. موقف الفلاسفة من أصول الدين

    قال المصنف رحمه الله: [فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه] يعني: هذه الأصول الخمسة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، قال: [ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل] أي: لم يؤمن بها الإيمان الذي يقبله الله إلا أتباع الرسل.
    وعلى هذا: فمن آمن بالله والملائكة والكتب من غير اتباع للرسل، فهو لم يؤمن بالله على الحقيقة، وما عرف الله حق معرفته؛ بل قد ضل ضلالاً بعيداً.
    وأخذ رحمه الله يمثل لأكبر وأوضح نموذج للأعداء المخالفين لمنهج الرسل فقال: [وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع، فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها، وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة المسمّون عند من يعظمهم بالحكماء؛ فإن من علم حقيقة قولهم؛ علم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر]
    إن الإنسان -بقدر مخالفته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبقدر مخالفته لما جاءت به الرسل- ينقص إيمانه، ثم يبعد بعداً كلياً عن الإيمان، كما هو حال الفلاسفة .
    والفلاسفة ليسوا منكرين لوجود الله، فلم يعهد عن أمة من الأمم أو طائفة معروفة من بني آدم أنها تنكر وجود الله إنكاراً كلياً، وإنما ظهر هذا الإلحاد الخبيث في القرون المتأخرة، وعلى أيدي شواذ، وبسبب ردود فعل معينة.
    والمقصود: أن الفلاسفة الأولين لم يكونوا ينكرون وجود الله إنكاراً كلياً، ولا يقولون: ليس هناك إله، وإنما كانوا يفسرون الإيمان بالله وبالملائكة تفسيرات ضالة، ومن هنا تعرض المصنفللفلاسفة، وهو يقصد هنا الفلاسفة الإسلاميين، أي: المنتسبين إلى الإسلام، وإلا فالإسلام ليس فيه فلسفة.
    فالمنتسبون للإسلام من الفلاسفة هم الذين يلبسون على المسلمين، ويقولون: نحن نؤمن بالله مثلكم؛ لكن الله كذا وكذا، ونؤمن بالملائكة؛ لكن الملائكة عندنا كذا وكذا، ونؤمن بالقرآن؛ لكنه عندنا كذا وكذا، على ما سوف يأتي تفصيله.
    أما غير الفلاسفة الإسلاميين؛ فإنهم يختلفون؛ فـفلاسفة كل دين بحسبه؛ فإن فلاسفة اليهود يأخذون من اليهودية، ويقاربونها، وفلاسفة النصارى يأخذون من النصرانية ويقاربونها.