ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى: (وأما من يحرمه، فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً) وهم
الخوارج و
المرجئة ، لكن كيف يمكن التوفيق بين كلام الشارح (كل) وبين أن
الأشاعرة وهم
مرجئة وعندهم أن الإيمان شيء واحد، وهم يقولون: بوجوب الاستثناء؟ والجواب: أن المقصود ما عدا من تقدم، وهم أهل القول الأول، فقول الشارح: (وأما من يحرمه) عكس من يوجبه، ولا بد أن يخرج من يوجبه، ثم قال: (فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم..) وأصل كلام الشيخ مأخوذ من كلام
شيخ الإسلام في آخر
الإيمان الكبير ، إذ يقول رحمه الله: (وأما من يحرمه فهم
المرجئة و
الجهمية ونحوهم) وهم في الحقيقة كما تقدم ما عدا
الأشعرية الكلابية ، فهؤلاء مأخذهم أن الإيمان شيء واحد، أي: أنهم بنوا على الأصل الذي قالوا به: لا يزيد لا ينقص، لا يتركب لا يتبعض، وإنما هو شيء واحد وهو التصديق القلبي.إذاً فهؤلاء يقولون: يحرم الاستثناء، ومعهم
المعتزلة -كما ذكر الشيخ- و
الخوارج ، لكن هؤلاء لهم مأخذ وأولئك لهم مأخذ، مع أن الجميع يقولون: إنه شيء واحد، فالخارجي والمعتزلي يقول: إنه شيء واحد، وهو كل أعمال الطاعات -ولهذا يحرم الاستثناء- ولو نقص منها شيء كفر العبد، فإذا قال العبد: إن شاء الله كفر، والمرجئ الجهمي يقول: هو شيء واحد وهو مجرد التصديق، فإذا كان لديه التصديق فقط ويقيده ويقول: إن شاء الله، فإنه ما بقي عنده شيء من الإيمان، وبالتالي فيكفر؛ ولذلك حرموا الاستثناء فيه، وهذا له نظره، مع اختلافهما نظراً أو تبعاً لاتفاقهما في الأصل، وهو أنه شيء واحد، وهذا يؤكد ما قلنا:
إن أصل ضلال الفرق كلها في الإيمان هو اعتقادهم أنه شيء واحد، ولو أنهم اعتقدوا كما اعتقد السلف الصالح، وكما هو صريح القرآن وصريح السنة: أن الإيمان يزيد وينقص، يتبعض ويتجزأ إلى شعب وأمور وشرائع، وله سنن وواجبات وأركان، لأراحوا أنفسهم من هذا العمل، ثم يقول:
[فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين] أي: إن كان خارجياً أو معتزلياً يقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قلت: لا إله إلا الله، فكيف أقول: إن شاء الله، وأنا أقول: بكفر من فعل كبيرة من الكبائر؟ إذاً: لا أستثني في إيماني فأكفر، وأيضاً المرجئ يقول: الإيمان عندي هو مجرد التصديق، فيكفي أن أقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فلماذا أستثني؟ وإذا كان شيئاً واحداً واستثنيت فيه فما بقي عندي شيء، يقول على لسان الجميع: (فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم) فهم -
المرجئة - لا يفرقون بين الإسلام والإيمان، وناقشناهم في ذلك عما قريب، قال: (فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكاكة) وتطور الخلاف والتعصب المذهبي المقيت الذي فرق الأمة -ولا يرضى به الأئمة الأربعة- حتى أفضى ببعضهم إلى أن يقول في بعض: إنه يحرم الزواج من الآخر، مثل أن تقول الحنفية: إنه يحرم الزواج من الشافعية؛ لأنها تشك في إيمانها، والآخر يقول: ويحرم أيضاً الزواج من الحنفية؛ لأنها إذا قالت: أنا مؤمنة، فقد جزمت بغير علم، وتكلمت في الموافاة والقبول، ولا علم لها بالموافاة والقبول. ولو نظرنا إلى سيرة السلف الصالح، فهذا
معاذ من جهة، و
عبد الله بن مسعود من جهة، ومع ذلك ما شنع أحدهم على الآخر، ولا لامه ولا عابه، ولا قال فيه -ولا قريب- من هذا القول، ولا شيء يؤدي إلى هذا القول؛ ولذلك كما يقول
شيخ الإسلام رحمه الله: (العلماء يخطِّئون، وأهل الأهواء يكفِّرون أو يبدِّعون) أي: فيما بينهم البين، فيقولون: هذا خطأ والصواب كذا، ولكن أهل الأهواء المخطئ عندهم كافر ومبتدع، مع أنه لا معصوم من الخطأ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن الله، والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم اختلفوا في بعض الأحكام، واجتهدوا في بعض الأمور، حتى ما يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ ومع ذلك ما قال أحد منهم: هذا مبتدع أو كافر أو ضال، وإنما كل منهم يقول: أخطأ فلان، حتى العبارة الشديدة التي نقلت: كذب
ابن عمر ، فالمقصود: أخطأ
ابن عمر ، أي: أنه خالف الواقع والصواب فقط، لا كذب بمعنى افترى، وهذه أشد ما ورد من بعضهم لبعض رضي الله تعالى عنهم، وهذا هو منهج العلماء، وكما قال
عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله كلمة عظيمة: (العلماء يكتبون مالهم وما عليهم). أي: أنهم يذكرون أدلة التحريم وأدلة الجواز، ثم يختارون ما يرون أنه أقرب لمرضاة الله، لا لشهوة ولا لهوى -هذا منهج العلماء- وأهل الأهواء يكتبون ما لهم فقط. مثل: المنافقين، قال الله فيهم: ((
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ))[النور:49]، أي: أن من علامات المنافقين: أنهم إذا علموا في خصوماتهم أن الحق لهم في الشرع قالوا: نحن مسلمون، ولا نريد إلا حكم الله، وإن كان عليهم تهربوا من حكم الله وقالوا: العادات، النظام.. وهذا مرض في قلوبهم، قال تعالى: ((
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ))[النور:50]، والمرض والريبة والشك والظلم موجود في أهل الأهواء، قال تعالى: ((
بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))[النور:50]، فهي كلها موجودة في أتباعهم، وهم أهل الأهواء أعاذنا الله وإياكم منها، وهم دائماً هكذا، فإذا جاء أحد هؤلاء الشكاكة أو
المرجئة ، وقرأ أو سمع عن أحد من الصحابة ما يوافق الاستثناء أشاعه وقال به، وترك الآخر، والآخر بالعكس، فإذا وجد ضد ذلك مما يؤيد كلامه نشره وأذاعه، وترك الآخر، مع أن هذا في سطر وذاك في سطر، كما رأينا الإمام
أبا بكر بن أبي شيبة رحمه الله يذكر قول من يقول بالاستثناء، وبعده يعقب فيقول: أحد غير ذلك، وهكذا دون أن يفصل هذا عن هذا، وإنما يروي بالسند إلى كل أحد من السلف، فمنهم من يقول: أستثني، ومنهم من يقول: لا أستثني.