المادة    
ثم قال: (ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه) وهنا نبدأ بمناقشة أدلة من أجاز أو ندب إلى الاستثناء فيقول: إنه ليس شكاً -كما يزعم الذين يحرمونه- ولا يقتضي الشك. ‏
قال: (ويحتجون بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه، كما قال تعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ))[الفتح:27]) وهذا هو الدليل الأول.
والدليل الثاني: قال رحمه الله: [وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله )، ونظائر هذا]. أي: أن له نظائر.
  1. الدليل الأول: قوله تعالى: (لتدخن المسجد الحرام...)

    أما الآية فواضحة في الاستدلال بها، وذلك أنها من كلام الله تبارك وتعالى، وهو الذي وعد رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك: (( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ))[الفتح:27]، فهذا من الله، والله تعالى علام الغيوب، والله تعالى يعلم أنهم سيدخلون المسجد الحرام، وأنهم سيدخلون بهذه الصفات، ومع تأكيده سبحانه لهذا إلا أنه علقه بالمشيئة: (إن شاء الله)، مع تحقق وقوعه وعلمه عز وجل بذلك، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، فهو يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهو كتب في الذكر كل شيء كما في الحديث الصحيح من حديث عمران بن حصين : ( إنه كتب كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة )، وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن عمر : ( قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كتب في الذكر كل شيء، وأول ما خلق القلم... )، أي: أن أول ما خلقه الله تعالى: القلم، ثم أمره أن يكتب فكتب كل ما هو كائن إلى قيام الساعة، فإذا أخبر الله تبارك وتعالى عن أمر أو خبر تضمن المشيئة، أو قول: إن شاء الله، فلا يمكن أن يحمل ذلك على الشك؛ لأن الشك إنما هو نتيجة تردد وضعف العلم وعدم اليقين، أي: أن عنده ظن لكن غير مستيقن، وهذا هو الشك، والإنسان يشك لأنه غير موقن، أما الله تبارك وتعالى الذي صفته وعلمه -كما ذكرنا- لا يمكن أن يتطرق إلى خبره الشك، فهذا دليل واضح على جواز أن يقال: إن شاء الله فيما لا شك في وقوعه.
  2. الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله...)

    وأما قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه عند زيارة المقابر: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) مثل ذلك، إذ ما من حي إلا وهو واثق أنه يوماً ما سيلقى الله عز وجل، وسيلحق بهؤلاء المقبورين، قال الشاعر:
    كل ابن أنثى وإن طالت سلامته            يوماً على آلة حدباء محمول
    فالكافر والمؤمن، والبر والفاجر، الكل يوقن بذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس يقيناً بالآخرة وما أعد الله تبارك وتعالى فيها للمؤمنين الأبرار من النعيم، وللكافرين الفجار من الجحيم والعياذ بالله، فعندما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه لأهل المقابر من المؤمنين ويقول: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) فلا يكون معنى الاستثناء هنا: الشك مطلقاً، ولا يصح أن يفسر به، ومع ذلك فقد ورد.
    إذاً يجوز قول: إن شاء الله، أو يجوز الاستثناء فيما لا شك فيه، وحتى إذا نظرنا من الناحية اللغوية البلاغية فلا شك أن كلام الله تبارك وتعالى هو أبين الكلام وأبلغه وأعلاه وأعظمه وأشرفه، وكذلك فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفصح كلام البشر وأبينه وأعظمه، فلا يمكن أن يقع في كلامه ما يقل أو ينزل عن مرتبة الفصاحة والبلاغة والبيان.
  3. الدليل الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون...)

    ثم قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله، وكذلك البخاري رحمه الله من وجه آخر: ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله )، وهذا في قصة سؤال النفر الثلاثة عن عبادته صلى الله عليه وسلم، إذ إنهم تقالوها، ثم في نهاية الحديث قال عليه الصلاة والسلام: ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له ) كما في الرواية الأخرى، فهل كلمة: (أرجو) هنا للتردد أو للشك؟ إنها بمعنى الاستثناء، ولذلك ورد من جملة كلام السلف: أنه إذا قيل لأحد: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو، وهذا جعلناه في قسم الذين يستثنون؛ لأنه قال: أرجو، وما جزم بأن قال: نعم، وبالتالي فمن يوجب الاستثناء يقول: هذا دليل لنا، والشاهد أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أرجو) ليس فيما هو محل الشك، إذ لا شك ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة وأتقاهم وأعرفهم بالله، وليس في ذلك شك، ونحن لا نقصد بكلامنا هنا الاستثناء اللغوي الذي يكون بإلا أو بغير أو خلا أو عدا أو حاشا إلى غير ذلك من الحروف أو أفعال الاستثناء، لكن نقصد الاستثناء بمعناه المعنوي البلاغي وليس النحوي، وكما ذكر الطبري رحمه الله فقال: أي صلة يوصل بها قول العبد: أنا مؤمن، فهي استثناء، أي: إذا قال: أنا مؤمن فيما أرجو، وفيما أحسب، أرجو أن أكون مؤمناً، أنا مؤمن إن شاء الله، أنا مؤمن إن سلمت من المعاصي والذنوب، أنا مؤمن إن تقبل مني عملي، فكل هذه استثناء.
    إذاً: فهذه ثلاثة أدلة لمن يرون الاستثناء ويقولون: إن ذلك لا يقتضي الشك.