المادة كاملة    
ابتدأ هذا الدرس بالكلام عن الحوض، ثم ذكر منزلة الإيمان به من الدين، وذكر خلاف العلماء في مسألة: هل الحوض خاص بنبينا عليه الصلاة والسلام أم أنه ثابت له ولغيره من الأنبياء؟ مع بيان حكم من أنكر الحوض، وشرح أحاديث الحوض.
  1. أهمية موضوع الحوض

     المرفق    
    قال أبو جعفر الطّّحاويّ:
    [والحوض -الذي أكرمه الله تَعَالَى به غِيَاثاً لأمته- حق]
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تَبْلُغُ حَدَّ التواتُرِ، رواها من الصحابة بِضْعٌ وثلاثونَ صحابياً، رضي الله عنهم، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عِمَادُ الدين ابن كثير -تغمده الله برحمته- في آخر تاريخه الكبير المسمى بـالبداية والنهاية.
    فمنها: ما رواه البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إن قدر حوضي كما بين أيلة إِلَى صنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء}.
    وعنه أيضاً عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصيحابي، فَيَقُولُ: لا تدري ما أحدثوا بعدك} ورواه مسلم.
    وروى الإمامُ أَحْمَد عن أنس بن مالك-رضي الله عنه- قَالَ: {أغفى رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إغفاءةً فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له:لم ضحكت؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه نزلت عليّ آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) [الكوثر:1] حتى ختمها، ثُمَّ قَالَ: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: هو نهر أعطانيه ربي -عَزَّ وَجَلَّ- في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنيته عدد الكواكب يُخْتَلجُ العبد منهم، فأقول: يارب إنه من أمتي، فيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك}.
    ورواه مسلم، ولفظه {فإنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ} والباقي مثله. ومعنى ذلك أنه يَشْخُبُ فيه مِيزَابَانِ من ذلك الكوثر إِلَى الحوض] إهـ.

    الشرح:
    هذا الموضوع هو أحد أمور الغيب التي صح بها الخبر وثبتت عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأحاديث كثيرة، وهذا مما يجب الإيمان به، فيجب أن نؤمن بالحوض، وبالصراط وبالميزان، وبجميع ما أخبر الله به ورسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمور الغيب، والمراد إثبات هذه العقيدة، والرد عَلَى من خالف فيها وإبطال شبههم، وقوله: (والحوض الذي أكرمه الله تَعَالَى به غياثاً لأمته حق)، والضمير في (أكرمه) يعود إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابتدأ المُصنِّفُ ببيان الأحاديث الواردة في الحوض وأنها تبلغ حد التواتر.
  2. خلاف العلماء في اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض

     المرفق    
    اختلف العلماء في الحوض: هل هو مختص بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم أن غيره من الأَنْبِيَاء لهم حوض؟
    وسبب الاختلاف: يرجع إِلَى الحكم في تصحيح النقل في ذلك، لأن علماء أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كما علمنا في باب المغيبات وغيرها إنما يتبعون النقل الصحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا النقل ورد فيه حديث رواه التِّرْمِذِيّ {إن لكل نبي حوضا} وهذا الحديث قال التِّرْمِذِيّ بعد أن ذكره: اختلف في وصله وإرساله، والمرسل أصح، وهذا القول هو الصحيح.
    وقال الحافظ ابن حجر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن فالحديث مرسل، فمن يعمل بالمرسل -من الفقهاء- فقد رأى أن هذا الحديث صحيح وثابت، والاستدلال به جائز، ومن كَانَ لا يقبل المرسل أو لا يعمل به أولم يثبت لديه هذا الحديث -وهو مذهب المحدثين- فلا يثبت، وعليه فلا نثبت لغير النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوضاً، إلا أن يصح النقل من غير هذه الطريق
    .
    ولهذا عقب الحافظ ابن حجر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عَلَى هذا فقَالَ: "فإن ثبت فالمختص بنبينا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكوثر الذي يصب ماؤه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره فوقع الامتنان عليه به في السورة المذكورة)، وهذا الكوثر كما مر معنا في طرق حديث الإسراء: نهر في الجنة، وهذا النهر الذي في الجنة -كما سيأتي في الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد هنا- هو يصب في الحوض، وبهذا يجمع بين الروايات في الحوض وفي الكوثر.
    وروى الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وهو من ثلاثياته عن أنس، قَالَ: {أغفى رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إغفاءةً فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه أُنزلت علي آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ))[الكوثر] حتى ختمها ثُمَّ قال لهم: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قَالَ: هو نهر أعطانيه ربي -عَزَّ وَجَلَّ- في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب! إنه من أمتي، فيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك}.
    ورواه مسلم ولفظه: { إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ}، فيلاحظ أنه سمى النهرُ حوضاً، والحوضُ نهراً، وذلك ثابت في طرق كثيرة غير هذه
    .
  3. إنكار بعض الطوائف للحوض

     المرفق    
    الذين أنكروا الحوض: هم طائفة قليلة من أهل البدع والضلال، وبعض فرق الخوارج، وبعض المعتزلة وتأولوه وَقَالُوا: لا يثبت للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوض، وإنما هذا كناية عن الكرم والعطاء.
    1. حكم من أنكر الحوض

      وهذا المذهب لا دليل عليه، لا من النقل ولا من العقل والنظر، فما الذي يمنع أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يجعل كرمه وعطاءه إكراماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفة هذا الحوض، ولا سيما في ذلك اليوم الذي هو يوم العطش الأكبر "يَوْمَ القِيَامَةِ" حين تدنو الشمس من النَّاس عَلَى مسافة ميل فمنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يبلغ العرق إِلَى منكبيه، ومنهم يبلغ إِلَى سرته، ومنهم من يبلغ إِلَى ركبتيه، ففي ذلك اليوم تكون المنة، ويكون التكريم العظيم من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الشَّفَاعَة العظمى.
      فليس هناك أدنى شبهة لا نقلية ولا عقلية لمن ينكر الحوض
      ، وقد ثبت بالتواتر ومعنى ذلك: أن منكره بعد قيام الحجة عليه كافر، فمن أنكره فقد أنكر أمراً معلوماً بالتواتر.
    2. متى ظهر منكري الحوض

      نقل إنكار الحوض في أواخر عصر الصحابة، حتى أن أنس بن مالك وهو من أواخر الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم جميعاً- وفاةً، قَالَ: "ما ظننت أني أعيش حتى أسمع من ينكر الحوض".
      وكما ظهرت البدع الأخرى حين ظهرت القدرية والمرجئة في أواخر عصر الصحابة، بخلاف الرافضة والشيعة والخوارج فإنها ظهرت في زمن أمير المؤمنين عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وعن أصحاب نبيه أجمعين.
    3. هل عبيد الله بن زياد أنكر ثبوت الحوض؟

      وممن نُقل عنه إنكار الحوض كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر وجمع طرفاً فيه: هو عبيد الله بن زياد أمير العراق؛ لكن الذي يظهر لمن تأمل ما ورد عن عبيد الله بن زياد أنه لم ينكر الحوض.
    4. وجوب تعليم الناس العلم

      لهذا وجب عَلَى الْمُسْلِمِينَ أن ينشروا العلم، لأن العلم لا يموت حتى يكون سراً كما قال ذلك أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فالعلم يجب أن يظهر وينشر ولا يقَالَ: هذا الموضوع لا يجوز التحدث عنه ولا يهم الكلام فيه فما كَانَ من أمور ديننا -من أمور الغيب- نظهره للناس ونبينه لهم فيزداد العالم علماً ويعلم الجاهل، وتقوم الحجة عَلَى المنكر والمعاند.
  4. أحاديث الحوض

     المرفق    
    هذه الروايات التي وردت في الحوض ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- أنها بلغت حدًّ التواتر فقد رواها من الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- بضع وثلاثون صحابياً، ثُمَّ قَالَ: ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير -تغمده الله برحمته- في آخر تاريخه الكبير المسمى البداية والنهاية في الجزء الأخير الذي هو النهاية في الفتن والملاحم، وذكر فيه أشراط الساعة وعلاماتها وأهوالها، ولقد ذكر الحافظ ابن حجر- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في الفتح من نقل هذه الطرق وعددها.
    ويقول عن نفسه: "فزدت عليهم أجمعين قدر ما ذكروه سواء، فزادت العدة عَلَى الخمسين"، ويقول: "بلغني أن بعض المتأخرين وصلها إِلَى رواية ثمانين صحابياً" وهَؤُلاءِ الصحابة الحديث عن بعضهم فيه ضعف ولا يعني أن الثمانين قد صحت الرواية عنهم كلهم لكنها وردت عنهم، والإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر في آخر كتاب الرقاق من صحيحه أحاديث الحوض من تسعة عشر طريقاً، وأشهر هَؤُلاءِ الصحابة الذين يروون عنهم هذا الأحاديث هم:
    أنس بن مالك، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود، وأبو بكرة، وسهل بن سعد، وجندب بن عبد الله، وابْنُ عُمَرَ، وابن عباس، وابن عمرو، وأَبُو هُرَيْرَةَ، وأم المؤمنين عَائِِِشَةَ، وأم المؤمنين أم سلمة، وأبو ذر، وعقبة بن عامر، وحارثة بن وهب، والمستورد، وثوبان، وجابر بن سمرة وهَؤُلاءِ هم أشهر من صحت الطرق عنهم في الصحيحين وغيرها، وورد عن غيرهم، كـأبي بكر الصديق، وأسماء بنت أبي بكر.
    فالمقصود أن ثبوت هذا الحديث مثل الشمس، لا يماري ولا يجادل فيه أحد، وأنه كرامة للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه يكون يَوْمَ القِيَامَةِ، وأن أمته ترده، وورد أحاديث كثيرة في وصفه عَلَى اختلاف الروايات، منها ما ورد في عرضه، وما ورد في آنيته، وما ورد في بياضه وحلاوته، وما ورد أيضاً من ذود النَّاس عنه، وقد ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ رواية أنس يقول: [منها: ما رواه البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إن قدر حوضي كما بين أيلة إِلَى صنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء}] هذا الحديث ذكره البُخَارِيّ في نفس باب الحوض من كتاب الرقاق في آخره، وأيضاً أخرجه الإمام أَحْمَد.
    وله حتى إن حديث أنس له طرق أخرى، فالمصنف اختار الرواية التي فيها أن قدره كما بين أيلة إِلَى صنعاء؛ وكأنه تعمد أن يختار هذه الرواية التي ذكر فيها قدر الحوض.
    وأيلة هي المعروفة باسم إيلات وهي كما وصفها الحافظ ابن حجر يقول: إنها في زمانه مدينة خربة عَلَى الخليج بجوار العقبة، وهي الآن معمورة ومعروفة وتسمى إيلات وهي ميناء لليهود قبحهم الله تَعَالَى ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يذلهم ويخذلهم وأن يردها أرضاً للمسلمين كما كانت وهي عَلَى الخليج المسمى بخليج إيلات، والذي يسميه العرب خليج العقبة وكأن هذه كما يظهر من أطول المسافات.
    1. اختلاف الروايات في تحديد عرض الحوض لا يعني أن الحديث مضطرب:

      والذي ينبغي أن يُعلم أن اختيار المُصنِّف لهذه الرواية لا يعني أن غيرها لم يصح، فالروايات الصحيحة كثيرة ومختلفة في تحديد المسافة في عرض الحوض، حتى أن بعض النَّاس توهم أنها من قبيل الاضطراب في الحديث؛ لأن فيها {ما بين أيلة إِلَى مكة }.
      و{ما بين صنعاء إلى مكة}.
      وفي بعضها: {ما بين أذرح إِلَى جرباء}.
      وفي بعضها: {ما بين عمان إلى أيلة}.
      وبعضها: بين عمَّان.
      وبعضها: بصرى.
      وبعضها: {ما بين صنعاء وعدن}، فذكرت عدة مناطق وعدة مدن؛ نظراً لكثرة الروايات.
    2. العلة من تعدد الروايات من قبل الرواة

      لا شك أن كثرة الروايات، وكثرة الرواة والطرق، قد يكون الخلاف يعود إِلَى عدم ضبط بعض الرواة، وقد يعود إِلَى أن المسافات تختلف بحسب السرعة والإبطاء، فقد تكون مسافة ما بين بلد وبلد بحسب سرعة الإبل السريعة مثلاً، أو الخيل السريعة، وبين بلد وآخر، ولكن بحسب سرعة أخرى.
      وقد يكون بحسب المقامات التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد تكون بحسب القبائل، فإذا جاءته قبيلة من جهة ما وصف لهم عرض الحوض أو طوله بحسب ما يعرفون من المدن إن كانوا من اليمن بيَّن لهم بمدن من اليمن، وإن كانوا من أهل الشام بين لهم بمدن من الشام والله أعلم.
      والمسألة ليست -ولله الحمد- مما يقتضي الإشكال
      ، وإنما المراد من المثال أن هذا الحوض طويل وعريض، وأنه بهذه السعة، وبهذا العرض وبهذا الطول، هذا هو غاية ما ينبغي أن يفهم، ثُمَّ يقول: {وعدد ما فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء} وهذا أيضاً دليل عَلَى كثرته، فهو طويل وعريض، وهو أيضاً كثير الأباريق وكثير الكيزان، كما وردت في روايات أخرى، والكيزان: جمع كوز.
  5. ذود أناس من أمته صلى الله عليه وسلم عن الحوض

     المرفق    
    وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {ليردن عليّ أناس من أصيحابي حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول أصيحابي، فيُقَالُ:: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك}وكأن المُصنِّفُ اختار الحديث الأول ليدلنا عَلَى المسافة.
    واختار الحديث الثاني لشيء آخر هو شأن الذين يُردَّون ويذادون عن الحوض، ولو نظرنا إِلَى حديث سهل بن سعد وهو أيضاً مما رواه البُخَارِيّ وفي رواية أبي سعيد يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنهم مني، فيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً لمن بدل بعدي}.
    والأحاديث غير هذين الحديثين أيضاً كثيرة في خصوص هذه القضية، وهي أنه يذاد عن حوضه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض هذه الأمة وأنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستغرب ذلك، ويقول: أمتي أمتي، أو أصحابي أصحابي، وأن الجواب يكون إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، أو إنهم غيروا وبدَّلوا، فهَؤُلاءِ قوم كانوا يستحقون الرد بما ارتكبوا، وبدلوا، وبما حرفوا، وابتدعوا في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حجبوا ومنعوا من ورود الحوض، وصحت الرواية أنه {من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً}
    1. هل الصحابة ارتدوا كما زعمت الرافضة

      ولورود الآحاديث السابقة برز قرن فرقة خبيثة وطائفة من أعظم طوائف هذه الأمة نفاقاً - كما وصفهم بذلك العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم - وهم: الروافض عليهم من الله ما يستحقون.
      فقالوا: إن هذا الحديث دليل لمذهبهم الخبيث بأن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ارتدوا من بعده إلا أربعة نفر، وعلى أكثر أقوالهم: إنهم اثني عشر فقط، وأما البقية فإنهم قد ارتدوا عَلَى أعقابهم وأنهم يطردون عن الحوض.
      فيقولون: إن سبب ذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منصرفه من حجة الوداع، وبعد أن أراد أن يكمل الدين وأن يودع الْمُسْلِمِينَ ويبين لهم أحكام الدين جميعاً، أخذ يجدد عليهم العهد في إمامة عَلِي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من بعده لأنهم يقولون: العهد قديم، ونزلت فيه آيات، وقرأها الصحابة، وبلغهم إياها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه الآيات تدل عَلَى إمامة عَلِيّ من بعده وأنه الوصي.
      وَقَالُوا: إن معرفة الإِنسَان لإمامته ركن من أركان الدين وأصل من أصوله، ولا بد منه، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُخِفي شيئاً من الدين، فقد بلغ هذا الركن وهذا الأصل، ومن ذلك: أنه في غدير خم -كما يسمونه- أشهد الصحابة جميعاً وجمعهم -وكانوا آلاف مؤلفة- وبلغهم هذا وأخذ عليهم العهد والميثاق أن الخليفة من بعده هو عَلِيّ ولكن الذي حصل: أنهم ما كاد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يموت، حتى اتفقوا جميعاً وتواطئوا وكتموا الآيات والأحاديث، وكتموا هذه الوصية، وحولوا الخلافة إِلَى أبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَر ثُمَّ عثمان وغمطوا علياً وأهل البيت حقهم؛ وأنكروا أصلاً من أصول الدين وركناً من أركان الإيمان والإسلام.
      ويقولون: هَؤُلاءِ هم من الصحابة الذين كانوا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن يَوْمَ القِيَامَةِ يأتون والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدري ما أحدثوا من بعده، فيطردهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول لهم: سحقاً وبعداً ولذا طردوا؛ لأنهم غيروا ونقضوا وصيته لابن عمه عَلِيّ، هذا هو قول الرافضة.
    2. مقتضى كلام الرافضة في الصحابة

      كلام الرافضة في الصحابة يقتضي أموراً كثيرة منها:
      أولاً: أن الصحابة الكرام -رضوان الله تَعَالَى عليهم- كفار مرتدون متواطئون عَلَى ترك أمر من ضرورات الدين وأصل من أصوله وركن من أركانه.
      ثانياً: أن هذا طعن في جميع أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى في الأربعة الخلفاء ومنهم عَلِيّ! ومن معه؛ لأن هذا ركن من أركان الدين فترك هذه الألوف المؤلفة هذا الأصل وسكوت الأربعة عنه، ومنهم عَلِيّ -لأنه لم يقم بأي عمل، ولم يقل للناس أخرجوا عليهم، ولم يثأر من أجل أصل من أصول الدين- إذاً: كل الصحابة متهمون بموجب هذه الدعوى، فليس فيهم مؤمن بل كلهم كفار، والأربعة منافقون.
      ثالثاً: وهذا القول فيه اتهام للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه لأنه هو الذي زكاهم ورباهم، وهو الذي مدحهم، وأثنى عليهم، وجاهد بهم الكفار، وعاش بينهم، وأخذوا منه أخلاقهم ومعاملاتهم، وكل ما يتصفون به من الصفات النبيلة والحميدة أخذوها من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا كانوا أخذوا منه هذا ويصلون إِلَى حد أنهم وهم ألوف مؤلفة يتواصون ويتواطئون ويتفقون عَلَى ترك ركن من أركان الدين وأصل من أصوله؛ ليجحدوا ابن عمه فضله وحقه، فإذاً هو الذي رباهم عَلَى الغش والخداع والتواطؤ والنفاق والكذب كيف يصحبونه ويكونون من خاصته ومن أصفيائه وحواريه، وهم خونة وكذبة وفجرة، يتواطئون عَلَى أمر من أمور الدين العظيمة ويكتمونه، ويتواطئون عَلَى رجل عظيم فيغمطونه حقه؟!
      ولو اتفقوا عَلَى دينار من الحرام لكان هذا طعن فيهم، فكيف وهذه قضية من أمور الدين ومن أصوله الكبرى، مثلاً: لو أنك وجدت مجموعة من الطلاب يدَّعون الإسلام والدين الصحيح، وَقَالُوا: الذي ربانا عَلَى هذا الدين شيخنا فلان، وكانوا يعظمونه ويتبعونه، فلما جالستهم وخبرتهم وعرفت أفعالهم، وجدتهم عَلَى بدعة وعلى كذب وزور وفجور؛ كيف يكون ظنك بشيخهم؟! بطبيعة الحال نقول: هذه تربيته، وهذه طائفته.
      إذاً: هذا طعن بلا ريب في رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكبر من ذلك وهو جلي أيضاً أن يقَالَ: إن هذا الطعن في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أيضاً اتهام وسب لله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أثنى عليهم ومدحهم وزكاهم في كتابه العزيز وبين أحوالهم وصفاتهم الجليلة ولم ينزل هذا الدين إلا عليهم، فاصطفاهم واختارهم ليكونوا حواريين وأصحاباً لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نصرهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى اليهود والنَّصَارَى والمجوس وعلى أهل مكة الذين كانوا يدعون أنهم عَلَى دين إسماعيل، ويظهرهم عَلَى الدين كله ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم بعد الخوف، والذل عزاً وأمناً وأصبحت الدنيا كلها تلهج بذكرهم وبثنائهم ويشتهر عنهم العلم في آفاق الدنيا.
      فكل هذا يحصل من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وحياً منزلاً ونصراً وتأييداً بالواقع المشاهد، ويكون هذا العمل ويقع لأناس مرتدين منافقين كاذبين متواطئين ومتآمرين، وهذا يتنافى مع حكمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو تكذيب لكتاب الله، فإنه قد جرت السنن الربانية الموصوفة في التاريخ أن الله يذل الكاذب الفاجر الظالم الغادر ولو بعد حين، وأن الله يفضحه ويخزيه ويعرف النَّاس حقيقته.
      أما وهو بهذا الشكل،
      يشهد أبناء الدنيا جميعاً مؤمنها وكافرها بإجماع التاريخ البشري الموجود أنه لا يوجد أمة أطهر ولا أزكى من هذه الأمة ويكونون في الحقيقة والواقع خونة متآمرين إِلَى آخره، هذا اتهام لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وسبٌ له، وطعن فيه وفي دينه وفي كتابه بلا ريب.
  6. تفسير روايات حديث الحوض

     المرفق    
    قد يقول قائل: كيف نفسر الحديث، وكيف نستشهد به في موضوعه الصحيح؟ وفي بعض روايات الحديث: أصحابي وفي بعضها: أمتي والجواب عَلَى التفصيل الآتي:
    1. تفسير رواية ( أمتي أمتي )

      الروايات التي فيها {أمتي أمتي} لا إشكال أن في هذه الأمة من يذاد عن الحوض؛ لأن فيهم من أهل البدع والنفاق والضلال أو ليس المنافقون يَوْمَ القِيَامَةِ يطمعون أن يحشروا مع المؤمنين لأنهم منهم، ولكن يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويظنون أنهم من هذه الأمة ويحاولون السجود ولكن تتصلب ظهورهم، وهَؤُلاءِ ممن يحسب في الدنيا أنهم من هذه الأمة، ويتبين لهم يَوْمَ القِيَامَةِ أنهم ليسوا من هذه الأمة وإن انتسبوا إليها.
      ومن أولى النَّاس بهذا الطرد الرافضة: لأننا إذا أثبتنا أن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشربون من الحوض، وأنهم كذلك بلا ريب، فإن من أبعد النَّاس عن مشاركتهم فيه من يكفرهم ويلعنهم ويعد ذلك ديناً له، فـالخوارج والروافض وأهل الضلالات ينطبق عليهم هذا الحديث: {إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك} فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعِلم الغيب.
      وقد أَحدث بعده الطوائف من الضلالات والبدع ما هو كفر وخروج من الدين، فمن كَانَ ينتمي إِلَى هذه الأمة، ولكنه في الحقيقة ليس منها، فإنه لا يَرِدَ الحوض ولا يشرب منه، وبالتالي لا يدخل الجنة لأنه مرتد منافق -نسأل الله العفو والعافية- وهذا حال بعض أهل الفرق وأهل البدع، فهذا تفسير رواية: {أمتي أمتي}.
    2. تفسير راوية: ( أصحابي أصحابي )

      الرواية الثانية قوله: {أصحابي أو أصيحابي} لا إشكال فيها، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمن به في حياته جمع كثير بل كل العرب أرسلت إليه الوفود فمثلاً من الوفود التي جاءت إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد بني حنيفة ومنهم مسيلمة فرأوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأظهروا الإسلام، فدخلوا في حكم الصحبة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما توفي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو قبيل ذلك بعد أن فارقوه -وهو لا يعلم- أحدثوا الردة عن الإسلام، وكذلك قبائل بني تميم وقبائل غطفان وبعض أهل اليمن اتبعوا الأسود العنسي وحصلت الردة من أناس جاءوا ووصلوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتسبوا إِلَى أمته.
      فهو يظن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو لا يعلم الغيب- أنهم من أصحابه، فيأتون يَوْمَ القِيَامَةِ فيذادون، لأنهم ليسوا من أصحابه، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فكان هذا حالهم فهَؤُلاءِ الذين ينطبق عليهم الحديث: ولفظه: {أصيحابي} تدل عَلَى لفظ التصغير الذي يدل عَلَى القلة ولا يعني هذا أن أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذادون وإنما هَؤُلاءِ أصيحاب جزء منهم ويكون أصيحاب كما قال أبو فراس الحمداني مثلاً:
      وقال أصيحابي الفرار أو الردي            فقلت هما أمران أحلاهما مر
      لو قَالَ: إن أصحابه كثير وقعوا في أسر الروم لكان هذا كالذي يريد أن يذم نفسه ويقول: نَحْنُ كثيرون، ولكننا نفكر، هل نهرب أو نقع في الأسر أو في الموت؟ لا، وإنما يقول: نَحْنُ قلة قليلة، وأحاط بنا من الروم وهم جمع كبير فصار الأمران أحدهما مر: إما أن نموت وإما أن نفر، وفعلاً وقعوا في الأسر.
      والذين ثبت وصح أنهم مبشرون بالجنة عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أول من ينطبق عليهم ثناء الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في القُرْآن فهَؤُلاءِ لا يمكن أن يدخلوا في المطرودين والمبعودين عن الحوض.
    3. غرض الرافضة من الطعن في الصحابة

      هَؤُلاءِ الروافض إنما يقصدون بالدرجة الأولى أبُو بَكْرٍ وعُمَر وعثمان، ومن كَانَ معهم من العشرة المبشرين بالجنة وأصل عداوتهم منصبه ومحصورة بالذات في هَؤُلاءِ، وموقف الرافضة من مسيلمة كما يقول هذا الذي يسمي نفسه ابن المطهر الحلي صاحب منهاج الكرامة يقول: ومن الأدلة عَلَى عدم انعقاد بيعة أبِي بَكْرٍ أن بعض الْمُسْلِمِينَ لم يبايعه مثل بني حنيفة، فاعتبر مسيلمة وبني حنيفة من الأمة ومن الْمُسْلِمِينَ وهَؤُلاءِ رفضوا بيعة أبِي بَكْرٍ، واجتمعوا وولوا عليهم مسيلمة.
      إذاً هذا يدل عَلَى أن الإجماع لم ينعقد عَلَى بيعة أبِي بَكْرٍ والعياذ بالله فانظر كيف يجعلون أبا بكر وعُمَر وعثمان رؤساء الكفر والردة، ويجعلون مسيلمة من الْمُسْلِمِينَ!!
      وكان يجب أن يأخذ رأيه في الإمارة والخلافة ولما لم يوافق، فالبيعة لم تنعقد والإجماع لم يصح، وإنما أوردتُ هذا لتعرفوا أن غرضهم هو -كما قال من أدركهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم-: إنهم قوم منافقون، ما قصدوا إلا الطعن في الدين، ولكن لما عجزوا أن يقولوا للمسلمين: إن القُرْآن باطل، وإن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذاب -وهو الصادق الأمين- وحاشاه من ذلك، فَقَالُوا: نكذب أصحابه، فإن الكتاب والسنة إنما يؤخذ عنهم، فإذا كُذِّبَ الشهود بطلت القضية (إذا كُذِّبَ النقلة بطل الخبر) هذا هو المقصود والمراد منهم
      ، فإذاً تبين لنا أن هذا الحديث حق، وأن قوماً يذادون عن الحوض؛ لأنهم من المرتدين أو من أصحاب البدع والضلالات التي تجعلهم جديرين وأهلاً لأن يطردوا عن حوضه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب، وهذا من الأدلة الكثيرة عَلَى ذلك، ولهذا يقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
  7. شرح حديث ( أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة .. )

     المرفق    
    الحديث الثالث من أدلة الحوض: هو حديث الإمام أَحْمَد-الذي قلنا: إنه من ثلاثيات المسند- عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {أغفى رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إغفاءة فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه نزلت علي آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ))[الكوثر] } وقام متبسماً بهذه البشرى العظيمة وهذا الاختصاص وهذا الفضل الجزيل الذي امتن الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - به عليه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أيضاً مِنِّة عَلَى الأمة جميعاً، لأن هذا الحوض تشرب منه هذه الأمة المصطفاة المختارة من بين الأمم.
    1. خلاف الفقهاء في البسملة

      بعض الفقهاء استدلوا بهذا عَلَى أن (بسم الله الرحمن الرحيم) هي آية من كل سورة؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ فقَالَ: بسم الله الرحمن الرحيم ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) هذه قضية فقهية فرعية، لكن لا بأس أن نقول: إن هذا الاستدلال ليس راجحاً، لأن الإِنسَان يمكن أن يقرأ البسملة قبل أي سورة، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثُمَّ يقرأ بالبسملة فتكون قراءته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) ليست لأنها نزلت عليه مع السورة.
      ولكن لأن الإِنسَان إذا أراد أن يقرأ فإنه يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك كالعادة المتبعة في القرآن، وليس لخصوص أن الله أنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) فالمهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأها هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم) ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)).
    2. معنى الكوثر

      {سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم} فهم لا يعلمون الغيب ولا يعرفون شيئاً حتى يخبرهم ويطلعهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عن طريق الوحي الذي يأتي به رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {هو نهر أعطانيه ربي - عَزَّ وَجَلَّ - في الجنة}.
      وهذا ينطبق عَلَى ما جَاءَ في حديث الإسراء أنه رأى ذلك النهر العظيم في الجنة {عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ، آنيته عدد الكواكب} والآنية والأباريق والكيزان -كلها جاءت في الروايات- عدد الكواكب: أي: عدد نجوم السماء، وذلك لكثرتها، فالله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أعطى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الحوض عريضاً واسعاً وعذباً شهياً أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وهذا النهر ترابه المسك وحصباؤه الدر والياقوت، وهذا شيء عظيم لا يمكن أن يتخيل.
    3. هل الكوثر مشقوق في الأرض

      والكوثر ليس مشقوقاً في الأرض كما جَاءَ في بعض الروايات وإنما يجري فوق الأرض، حتى يكون الأخذ منه أسهل، ويكون الامتنان به أعظم، وهو أغرب للعقل البشري بأن يرى الإِنسَان نهراً يجري هكذا فوق الأرض وليس مشقوقاً، نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا ممن يَرِدُه إنه عَلَى كل شيء قدير.
      يقول: {يُخْتَلجُ العبدُ مِنْهُم}، والاختلاج يشبه الانتهاب أو الاختلاس، يأتي أناس يردون فيتقدمون ليشربوا من الحوض فيختلجون ويجذبون من بين الذين يردون عَلَى الحوض.
      فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {يا رب! إنه من أمتي} فانظر إِلَى شفقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بأمته! يرجوا أن لا يختلج ولا يذاد ولا يطرد أحد عن الحوض.

      فيقال لي: {إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك} العلة في طردهم أنهم أحدثوا بعدك أموراً تقتضي أن يطردوا وأن يذادوا.
      ثُمَّ ذكر لفظ مسلم: {إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يَوْمَ القِيَامَةِ} والحوض في العرصات يشخب فيه ميزابان يصب من النهر الذي ورد كما في حديث الإسراء أنه في الجنة في السماء السابعة، فهو نهر غريب بصفته، وكذلك في أرضه كما يذكر القرطبي -رحمه الله تعالى- أن الأرض التي يكون عليها هذا النهر ليس في هذه الأرض وإنما هي الأرض المبدلة ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ))[إبراهيم:48] فهو في السماوات المبدلة التي تكون يَوْمَ القِيَامَةِ.