المادة    
ثم قال رحمه الله تعالى: (وأما الاحتجاج بقوله تعالى: (( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))[الذاريات:35-36] على ترادف الإسلام والإيمان؛ فلا حجة فيه)؛ لأن المسلم قد لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر مثلاً؛ فيؤاخذ فيعاقب فيهلك، وقد يفعل المسلم من الكبائر ومن الموبقات ومن موجبات العذاب ما يصيبه بسببه العذاب، فلا يكون مؤمناً، بل هو مجرد مسلم، والنجاة معلقة بالإيمان؛ لذا قال الله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وفي غيرها من الآيات: (( وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ))[النمل:53]، (( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ))[الأعراف:165].. إلخ، ففي كل قصص الأنبياء نجد أن الإيمان هو مناط النجاة.
ففي الآية الأولى بين الله تبارك وتعالى أن النجاة والإخراج وقعا للمؤمنين: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وهذا لم يقع إلا للوط عليه السلام وابنتيه، وأما زوجته فقد أهلكت مع الغابرين، ثم قال: (( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))[الذاريات:36]، ولو قال الله تعالى: (( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ))[الذاريات:35] مباشرة وسكت لقال قائل: كم عدد المؤمنين؟ وربما ذكر لوطاً عليه السلام وابنتيه؛ لأنهم أهم من يذكر، لكن ما المانع أن يكون في الأمة غيرهم من المؤمنين، ولم يذكرهم الله تبارك وتعالى بأسمائهم.
إذاً: قد يكون هناك من قوم لوط من آمن؛ لكن لا يريد الله تبارك وتعالى أن يبين لنا أسماءهم، ولم يؤمن حقاً إلا هؤلاء، وأما من عداهم فقد شمله وعمه العذاب، فقال: (( فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))[الذاريات:36]، فالبيت المسلم بيت واحد فقط، فالوصف هنا للبيت، فكأنه قال: بيت مسلم واحد، ولا يلزم من ذلك أن يكون أهله كلهم مؤمنين، فـمكة مثلاً دار إيمان و بغداد كان الخلاف عليها في تلك الأيام بين أهل السنة و المعتزلة ؛ لأنها كانت حاضرة الخلافة، وقد ذكر في كتب الفرق -كما ذكر الأشعري -: هل بغداد دار كفر أم دار إيمان؟ والمدينة ، دمشق ، القاهرة ، فإذا قلنا: هذه البلاد دار إسلام فلا يعني هذا أن كل واحد ممن يسكنها هو مؤمن أو مسلم، ولا سيما هنا أن البيت واحد، وساكنوه أربعة: لوط عليه السلام، وابنتاه، وهؤلاء مؤمنون، وقد نجوا، والرابع امرأته، وقد كانت تسكن في البيت معه، فهي في بيت مسلم ولكنها لم تكن مؤمنة، فاستفدنا معنىً جديداً جاء بهذه الصيغة العظيمة، وليس في الإمكان صيغة أبلغ ولا أبين بالدلالة من هذه، مع الإشارة والتنبيه على اختلاف حكم الدار عن حكم ساكنيها وأهلها، وهذا أصل فيما بعد عندما اختلفت الفرق في أحكام الدار، وما يتعلق بها، فإن الدار قد يسكنها المسلم وغير المسلم، فتكون دار إسلام إذا حكمها الإسلام، أو إذا كان غالب أهلها مسلمين.
قال: (فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا موصوفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما) وهو يقصد بذلك نجوا وأخرجوا وهم مسلمون مؤمنون، وأما امرأة لوط عليه السلام فهي في بيت مسلم، فاجتماع الصفتين فيمن أخرجه الله وأنجاه لا يدل على التلازم، وإنما هما وصفان يمكن أن يطلقان على سبيل أن هذا الذي استحق أن يوصف بالإسلام يوصف أيضاً بالإيمان.
  1. براءة الإمام أبي حنيفة مما ينسب إليه من كثير من انحرافات المرجئة القائلين بالترادف بين الإيمان والإسلام