المادة    
ثم ذكر فيما بعد حديث سعد ، ولا بأس أن نذكره هنا؛ فنحن إذا ضبطنا هذين الأصلين فهما كافيان، فالآية في منع الترادف بين الإسلام والإيمان، والثاني: الحديث الصحيح حديث سعد رضي الله تعالى عنه؛ الذي قال فيه الإمام أحمد : حديث سعد أحب إليَّ؛ لأنه واضح في التفرقة، وهو أوضح من حديث جبريل عليه السلام، وهو كالآية في الإذن له بأن يقول: إنه مسلم واعترض على قوله: إنه مؤمن.
قال: [وينتفي بعد هذا التقرير دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم -أي المرجئة ألزموا أهل السنة - بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقابل بذلك، ولا يقبل إيمان المخلص، وهذا ظاهر الفساد]، ولا شك أن هذا باطل، لكنهم ظنوا أنهما منفصلان، وظنوا أنه يمكن أن يقبل العمل الظاهر والباطن خالٍ من الإيمان، وهذا لا يمكن.
قال: [فإنه قد تقدم تنظير الإسلام والإيمان بالشهادتين وغيرهما، وإن حالة الاقتران غير حالة الانفراد، فانظر إلى كلمة الشهادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله...) الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله. قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بلا إله إلا الله حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به، فتضمنت التوحيد، وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة (أن لا إله إلا الله) إثبات التوحيد، ومن شهادة (أن محمداً رسول الله) إثبات الرسالة.
كذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر، كما في قول الله تعالى: ((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))[الأحزاب:35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت)؛ كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: ((إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ))[المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: ((وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ))[البقرة:271]]
.
وهذا ما أوضحناه، وكذلك الإسلام والإيمان إذا قرن أحدهما بالآخر، كما في قوله تعالى: (( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.. ))[الأحزاب:35] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم لك أسلمت، وبك آمنت )، فيكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب )، وقد تقدم تخريجه والكلام عليه، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وهذا كله تأكيد وتقرير لما تكرر وتقدم.
وكما في الفقير والمسكين ونظائره؛ فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) إعطاء المقل دون المعدوم؟ فهذا دليل على أنهما إذا انفردا اجتمعا، وفي قول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ))[التوبة:60] قال العلماء: الفقير الذي لا يملك شيئاً، أي: المعدم، والمسكين: هو المقل الذي لا يجد كفايته، وأما قوله تعالى: (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ))[المائدة:89] فلا يعقل أن المراد المساكين دون الفقراء؛ فنعطي المقلين ونترك المعدمين الذين ليس لهم شيء بالمرة! وإنما المقصود: الفقراء والمساكين معاً، فاللفظ يدخل فيه الاثنان معاً، وكذا في قوله تعالى: (( وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ))[البقرة:271] لكن لو أن أحداً أخفاها -أي: صدقته- وأعطاها المساكين فإنها تقبل، فهما مترادفان.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.