المادة    
إلى أن يقول: (سمعت أبا عبد الله -وهو الإمام أحمد - يقول: الإيمان قول وعمل، قلت لـأبي عبد الله : فالحديث الذي يروى: ( أعتقها؛ فإنها مؤمنة ) ) يعني: الذين يقولون: الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان؛ يستدلون ببعض الأدلة منها ما قد أوردناه، فمثلاً يقولون: إن الإيمان هو نقيض الكفر، والله تبارك وتعالى يقول: (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ))[آل عمران:19]، ويقول: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ))[المائدة:5].
إذاً فالإسلام هو الإيمان، وهما شيء واحد، فمثلاً قال الله تبارك وتعالى في سورة الذاريات وقد تقدم إيضاحها، والدلالة منها، قال تعالى: (( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))[الذاريات:35-36]، وقلنا: إن هذا لا يقتضي الترادف، فهذا أحد الأدلة.
ومن الأدلة التي يستدلون بها على الترادف أيضاً: حديث الجارية التي جاءت قصتها في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لي جارية ترعى الغنم، فعدى الذئب على واحدة منها فأخذها، وأنا امرؤ أغضب كما يغضب الناس فصككتها صكة، ثم قال: يا رسول الله! إني أريد أن أعتقها، فجيء بالجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة )، ففهم الذين يقولون: إن الإيمان والإسلام مترادفان؛ فهموا من ذلك أن قوله: إنها مؤمنة؛ أي: مسلمة؛ لأنها لم تعمل، وإنما هي أقرت إقراراً، إذاً فالمقر مؤمن، والمؤمن هو المسلم، والمسلم هو مؤمن، فوقع الإشكال في هذا الحديث عند المرجئة ، فـالمرجئة عندهم أن الإيمان هو التصديق، وإذا أعلن هذا الإقرار بلسانه فهو مؤمن أيضاً، فجعلوا هذه الجارية مؤمنة، أي: في مرتبة الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنها مؤمنة بقصد أنها من المؤمنين أصحاب مرتبة الإيمان؛ الذين مدحهم الله، وأثنى عليهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين ذكروا في أول (سورة المؤمنون)، أو في آية الحجرات: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15] الآية وغير ذلك مما تقدم؛ ليس هذا المقصود، وإنما المقصود: مسلمة، أي: مجزئة تجزئ في العتق، هذا الذي فهموه، وفهم المرجئة واضح البطلان، وقد سبق أن نقضناه، والآخرون فهموا من الحديث: ( أعتقها فإنها مؤمنة ) أي: مسلمة، إذاً فالإسلام والإيمان مترادفان، فكما أن الإيمان قول وعمل؛ فالإسلام قول وعمل، فهما مترادفان، والإمام أحمد رحمه الله له في ذلك عدة أجوبة، وله -من ورعه رحمه الله- عدة مواقف أحياناً، كما في حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، فمرة يقول: ليس مؤمناً ولكنه مسلم، ومرة يتوقف ويقول: تظل أحاديث الوعيد على ظواهرها.
وفي الخلال: قلت لـأبي عبد الله : فالحديث الذي يروى: ( أعتقها فإنها مؤمنة )، قال: ليس كل أحد يقول: إنها مؤمنة؛ يقولون: (أعتقها)، قال: ومالك سمعه من هذا الشيخ - هلال بن علي - لا يقول: (فإنها مؤمنة)، وقد قال بعضهم: (فإنها مؤمنة)، فهي حين تقول بذلك فحكمها حكم المؤمنة، هذا معناه، وكلام الإمام أحمد هنا نفيس وعظيم، فقوله: ليس كل أحد يقول: إنها مؤمنة، أي: ليس كل الرواة الثقات يقولون: إنه قال: ( أعتقها؛ فإنها مؤمنة )، وإنما في بعضها: (أعتقها) فقط ولم يقل: إنها مؤمنة.
الشيء الثاني: قال: وقد قال بعضهم: لأنها مؤمنة، أي: ورد أيضاً من قال: لأنها مؤمنة، فهي حين تقر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وبوحدانية الله ومعرفة الله المتمثلة في جوابها وقولها: في السماء؛ فحكمها حكم المؤمنة، أي: أنها مؤمنة حكماً، أي: في الدنيا، فيجزئ عتقها، وليس المقصود: أنها مؤمنة من أهل مرتبة الإيمان والفضل، لكن هي رقبة مؤمنة، إذاً فتجزئك أن تعتقها، والمقصود في هذا هو أي رقبة مسلمة، ولم يقل أحد من علماء الأمة، وليس من شرط ذلك أن تكون المعتقة رقبة مؤمنة من درجة أهل الإيمان، وإنما المقصود غير كافرة، أي: مسلمة.
والشيخ الألباني رحمه الله علق على قول الإمام أحمد ومالك سمعه من هذا الشيخ - هلال بن علي - ولا يقول: إنها مؤمنة، فقال: قلت قد رواه يحيى بن أبي كثير عن هلال بن علي - وهو: ابن أبي ميمونة - بزيادة: (فإنها مؤمنة)، أخرجه مسلم وأحمد وغيرهما، ويحيى ثقة حجة، فزيادته مقبولة، وقد جاءت من طرق أخرى عن جماعة من الصحابة؛ ساق أحاديثهم الذهبي في أول كتاب العلو ، فهي زيادة صحيحة مقطوع بثبوتها، فلا وجه للتردد في ذلك.
كلام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى هذا صحيح من حيث إن الزيادة مقبولة؛ فهي زيادة ثقة، لكن الإمام أحمد يقصد شيئاً آخر، فإن الجواب قد جاء من طريقين ورجالهما ثقات؛ لا سيما هنا ويحيى بن أبي كثير أو غيره لا يداني منزلة الإمام مالك ، فـمالك في الدرجة والطبقة الأولى؛ أوثق من هؤلاء الثقات، فإذا جاء الحديث من طريقين إحداهما فيها الزيادة، والأخرى ليست فيها الزيادة؛ فالقول بأن الرواية التي لا زيادة فيها كافٍ في الجواب لا يعني الطعن في الزيادة، فالزيادة مقبولة، وهي لا تتعارض مع المعنى الصحيح الذي يقول به من يرى أن الحديث بدون الزيادة كاف، فلما قال صلى الله عليه وسلم (أعتقها) فهو كافٍ في الجواب، وقوله: (فإنها مؤمنة) زيادة في الإيضاح؛ فهي مقبولة، وقد جاءت من طريق ثقة، ولا تعارض الرواية الأخرى، فهي فقط للإيضاح وليست للمعارضة.
هذا الذي يريد الإمام أحمد أن يقوله، فيقول: ما دام أن الذي قاله مالك وغيره: (أعتقها) ولم يقل: إنها مؤمنة؛ فهذا دليل على اكتفاء القول وانتهائه، وأن الصحابي معاوية رضي الله تعالى عنه اكتفى من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في هذه الرواية: (أعتقها)، فعلم من ذلك أنها مجزئة، فهو إنما جاء يسأله: أتجزئ أم لا تجزئ؟ ولم يأت ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم أهي مؤمنة أم مسلمة؟ فهذا هو الفرق.