المادة    
الشارح رحمه الله يرد هنا على القول: بأن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، وهذه هي الشبهة الخامسة، فلو رجعنا إلى شبهات المرجئة وأدلة الأصحاب لـأبي حنيفة رحمه الله لوجدنا أن الشارح قد أجاب على الشبهة الأولى وهي أن معنى الإيمان هو التصديق من الناحية اللغوية، والثانية وهي تابعة للأولى من ناحية اللغة، وعلى الشبهة الثالثة وهي أن الإيمان ضد الكفر، وعلى الرابعة وهي شبهة التركيب، فأتى هنا للرد على الشبهة الخامسة وهي أن العطف يقتضي المغايرة، ونقدم لهذا بقاعدة سهلة إن شاء الله، وهي: أن لفظ الإيمان لو تتبعناه في القرآن وفي الأحاديث والآثار نجد أن اسم الإيمان له ثلاث حالات لا يخرج عنها:
الحالة الأولى: أن يذكر الإيمان مفرداً أي أن لا يذكر معه الإسلام ولا العمل.
الحالة الثانية: أن يذكر الإيمان ويذكر معه الإسلام.
الحالة الثالثة: أن يذكر الإيمان ويذكر معه أي نوع من أنواع العمل. ‏
وهذه الحالات الثلاث سنذكر لها الأمثلة.
  1. مجيء لفظ الإيمان مفرداً

    فأما ذكر الإيمان مجرداً فذلك جاء في قوله تبارك وتعالى: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ))[المائدة:5]، وقوله تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، وقوله: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22]، وقوله أيضاً: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:7]، وقوله: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106]، وقوله تعالى: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ))[الحشر:9].
    فهذه النصوص جميعاً ذكر فيها الإيمان وحده، وهو هنا يدل على الدين كله، فإذاً: قوله تبارك وتعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106] يعني مطمئن بالإسلام وبما شهد به وآمن به من هذا الدين، وقوله تعالى: (( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167] أي: الدين بمفهومه العام: الإسلام والإحسان والإيمان بمعناه الخاص، وكذلك بقية الآيات، فـ الإيمان إذا ذكر مفرداً فإنه يدخل فيه العمل الصالح كله، ومراتب الدين كلها، كما جاء في آخر حديث جبريل: ( هذا جبريل آتاكم يعلمكم دينكم )، فديننا هو هذه الثلاث جميعاً، فيشمل الأعمال الظاهرة التي في جواب: ( أخبرني عن الإسلام ) والأعمال الباطنة التي في جواب: ( أخبرني عن الإيمان )، فأركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وما يتعلق بالإحسان -وهو العلو في هذه الدرجات- هي الدين، وقد قال الله تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ))[آل عمران:85].
    وأما مثال مجيء الإيمان مفرداً في الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( وليس وراء ذلك مثقال حبة من إيمان ) وقوله أيضاً: ( يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من إيمان ) مثله قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) هذه الحالة الأولى.
  2. مجيء لفظ الإيمان مقترناً بلفظ الإسلام

    الحالة الثانية: أن يذكر الإيمان ويذكر معه الإسلام في آية واحدة أو في حديث واحد، وذلك مثل قوله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14].
    فالإسلام والإيمان إذا ذكرا مقترنين فيكون المراد بالإيمان الأعمال الباطنة، وبالإسلام الأعمال الظاهرة، ومثال ذلك حديث جبريل، وهو واضح في هذا؛ لأن جبريل لما سأل: ( أخبرني عن الإسلام..) فسره صلى الله عليه وسلم بالأركان الخمسة، وهي الأعمال الظاهرة، ولما سأله عن الإيمان فسره له بالأركان الستة، وهي الأعمال الباطنة.
    فإذاً: الإسلام والإيمان إذا ذكرا معاً فالإسلام ينصرف للعمل الظاهر، والإيمان ينصرف للعمل الباطن، وأعلاهما درجة هو الإيمان؛ لأن العمل الظاهر هو ثمرة للعمل الباطن، فثمرة إقرار المؤمن واعتقاده هو هذا العمل، فيصلي ويصوم ويلتزم بالأحكام الظاهرة، فـ إذا دخل الإيمان في القلب ورسخ أثمر زيادة في الذكر والصلاة، وإذا زاد إيمانه الباطن زاد خشوعاً؛ لأن الخشوع هو الجزء الباطن من الصلاة، وزاد محافظة عليها وحرصاً عليها، وهكذا في الزكاة والإنفاق وهكذا في بقية الأعمال، ولذلك قال الله تعالى في حق الأعراب: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ))[الحجرات:14] فنفى الإيمان عنهم، ثم قال: (( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14] فأرشدهم إلى أن يقولوا: أسلمنا، وهم وإن كانوا قد آمنوا من حيث الأصل بمعنى: الإقرار بالدين وانقادوا في الظاهر، فأصبحوا من جملة المسلمين، لكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، فكأنه قال لهم: الإيمان الذي تقصدونه أنتم إلى الآن لم يدخل، لكنه غير بعيد؛ لأن (لما) تدل على أن الحدث لم يقع، لكنه قريب الوقوع بخلاف (لم) فهي تفيد نفي مجرد وقوع الحدث، ولذا جاء بعد هذه الآية إيضاح مفهوم مهم، وهو أنه إذا كنتم تريدون معرفة المؤمنين، وتريدون أن تكونوا مثلهم ومعهم، وأن تستحقوا اسمهم فهم من قال الله فيهم: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ))[الحجرات:15]، أي: فهذه هي صفتهم، ومن صفاتهم قول الله تعالى عنهم: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))[الأنفال:2]، فليس مجرد من أذعن وأقر، وأدى بعض الأعمال الظاهرة يصبح مؤمناً، بل ذلك مسلم، والمؤمن هو من دخل الإيمان في قلبه.
    إذاً: الإسلام والإيمان إذا ذكرا معاً انفرد هذا بمعنى وانفرد هذا بمعنى، ويذكر العلماء قاعدة في الفرق بين الإسلام والإيمان ويقولون: إن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، بمعنى أنه إذا جاء لفظ الإسلام في نص فيكون معناه: الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا جاء لفظ الإيمان في نص فيكون معناه: الأعمال الظاهرة والباطنة معاً، وهذا لا ينفي أن بينهما عموم وخصوص من وجه، يعني: ليس أحدهما عاماً عموماً مطلقاً، والآخر خاصاً خصوصاً مطلقاً، بل بينهما عموم وخصوص من وجه، فإذا نظرنا إلى حقيقة الإيمان ومفهومه ودلالته فهو أعم؛ لأنه يشمل الإسلام، فالإيمان أعم من حيث حقيقته، أي: أن الإنسان يبدأ أولاً بالإسلام، ثم بعد ذلك يدخل الإيمان في قلبه ويزداد إيماناً، فتكتمل فيه شعب الإيمان، وأما الإسلام فهو الانقياد وأداء الأعمال الظاهرة، فإذا ازداد العبد إيماناً ازداد عمله الظاهر، فالذي لا يزال في مرتبة الإسلام إذا أذن المؤذن مثلاً فإنه ينتظر إلى الإقامة، ثم يذهب للصلاة متباطئاً، ويصلي أحياناً في المسجد، وأحياناً في البيت، فهذا من أهل الإسلام، لكن صاحب الإيمان كلما قوي إيمانه قويت علاقته بالمسجد وبالصلاة، فيخشع فيها ويتدبر ويتفكر في الآيات.
    فالإيمان أعم، ولذلك فالأعراب مسلمون لكنهم غير مؤمنين؛ لأن الإيمان لم يدخل في قلوبهم على الحقيقة، فالإيمان أعم باعتبار المعنى، ولكن من جهة الأفراد، فالإسلام أعم؛ لأن المسلمين أكثر من المؤمنين.
    إذاً: فالقاعدة على هذا أن نقول: كل مؤمن مسلم، ولكن ليس كل مسلم مؤمناً .
  3. اقتران لفظ الإيمان بالعمل

    الحالة الثالثة: أن يذكر الإيمان ويذكر معه العمل، وهذا هو موضع النزاع، وهذا هو الذي يجادل فيه المرجئة ويقولون: أنتم قلتم: إن الإيمان يشمل العمل، فماذا تفعلون في الآيات التي يذكر فيها الإيمان، ثم يُعطف عليه العمل؟ فهذا يدل على أن الإيمان شيء والعمل شيء آخر.
    وقد استدل هؤلاء بظواهر قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ))[الكهف:107]، وقوله تعالى: (( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))[العصر:1-3]، وقوله تعالى أيضاً: (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ))[مريم:60] وهذا كثير في القرآن وفي هذه الحالة لا مانع أن يفسر الإيمان بالتصديق والإقرار الباطن، وأن يفسر العمل بالامتثال ظاهراً أو باطناً، كما فسر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هذه الآيات، فيكون قول الله تعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[الشعراء:227] معناه: الذي صدقوا بالحق، وامتثلوا له وأذعنوا وانقادوا له وقبلوه، ثم بعد ذلك نرد على المرجئة بأن هذا لا يلزم منه أن العمل مغاير للإيمان، ولكنهما يذكران معاً على سبيل التلازم بينهما، والتنبيه على أهمية العمل، ولذلك كله مع العمل أسرار وحكم، وهذا هو الجواب العام، ولكن لا مانع -كما قلنا- من الرد بما في تفسير الطبري أن كثيراً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم يفسرون الإيمان في مثل هذه الآيات بالإقرار أو التصديق، ويفسرون العمل بالامتثال، فالإيمان عمل القلب، والعمل عمل الجوارح، فمن علم وأقر وصدق، ثم امتثل وانقاد، وفعل المأمورات، واجتنب المحرمات وابتعد عنها فهذا هو المؤمن الذي جمع بين التصديق وبين الامتثال، لكن هل تفسير الإيمان بالإقرار والتصديق يعني أن العمل خارج عن اسم الإيمان وحقيقته؟
    الجواب: لا.
    يقول المؤلف رحمه الله: (وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان) أي: كما يقول المرجئة (فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال الله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنفال:2] وقال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15]، وقال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ))[النور:62]، وقال: (( وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ))[المائدة:81]) كما في آيات الموالاة في المائدة وهكذا.
    إذاً: مراد الشيخ من هذا أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال، فكان الأقوى أن يقول: لأنها جزء من حقيقته، لكنه يأتي في مقام النقاش بما لا يختلف عليها أهل السنة ولا المرجئة بل يقبله الطرفان، وهو أن الإيمان مستلزم ومتضمن للأعمال، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) وقد تقدم الكلام في هذا، وأن له عدة معانٍ، وذكرنا ما هو الراجح من تلك المعاني، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أفشوا السلام بينكم )، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( من حمل علينا السلاح فليس منا )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من غشنا فليس منا ) وفي ورواية: ( من غش فليس منا )، وهذه الرواية أعم، أي: فلا يجوز غش أي شخص، ولو كان من أهل الكتاب، ويوضح هذا سبب الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( مر بصاحب الطعام فأدخل يده الشريفة صلى الله عليه وسلم فوجد بللاً، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته سنة -يعني: مطر، وأراد أن يخفي العيب- فقال: من غشنا فليس منا )، وهذا وقع في المدينة التي كان يكثر فيها أهل الذمة، والإسلام دين الإنصاف، حتى لو كان التبايع مع يهودي فإنه لا يجوز الغش.