ثم ثنّى على ذلك رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم: (
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين )، رواه الإمام
أحمد والشيخان وغيرهم، فهذا الحديث يدل على أن العبد لا يكمل إيمانه كما قال الشيخ هنا: (فالمراد: نفي الكمال)، فلا يكمل إيمانه، ويكون مؤمناً حقاً إلا إذا كانت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بهذه الدرجة، وهذا لا يكون لكل أحد من المؤمنين، فكثير من المؤمنين يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعادل منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلبه منزلة أحد من العظماء والكبراء والمتبوعين أو المطاعين إلا أنه يحب ولده أو والده أكثر منه صلى الله عليه وسلم، أو يحب نفسه أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقد قال
عمر رضي الله عنه: (
يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر ! قال: فوالله يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، قال: الآن يا عمر )، الآن بلغت حقيقة الإيمان وكمال الإيمان، فهذا هو معيار التفاضل عند المؤمنين، وهو من أكبر وأهم المعايير. و
محبة الله سبحانه وتعالى تقتضي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما متلازمان، فمن أحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت محبته لله ورسوله بهذه الدرجة؛ حتى يقدم ذلك على حب الأهل والوالد والولد والناس أجمعين؛ فهذا قد بلغ الغاية العظمى في الإيمان، ولازم ذلك ومقتضاه أن يقدم ما أمر الله به وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم على هوى النفس، وعلى شهواتها وعلى رغباتها وحظوظها، وعلى هوى ورغبة كل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمحبة كما تقدم هي أساس كل الأعمال وكما تقدم أيضاً في شرح حديث: (
من أحب لله وأبغض لله، ومنع لله وأعطى لله، فقد استكمل الإيمان ) فالمحبة أصل حركة القلب كما قال الشارح: (ومعناه: أن الحب والبغض أصل حركة القلب)، هذا أصله، فمن كانت محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنده بهذه المنزلة فلا يتحرك قلبه إلا بما يوافق دين الله وما جاء من عند الله وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن هنا لا بد أن تزكوا وتطهر أعماله الظاهرة والباطنة؛ لأنه أخرج من قلبه كل شيء يخالف حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يتنافسون في هذا، ويتسابقون ويتفانون في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهل
عروة بن مسعود لما جاء في صلح
الحديبية وابن أخيه
المغيرة بن شعبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بالسيف، ومعه من كان معه من أعيان قريش فتعجبوا؛ لأنه كان من ثقيف، وقال: والله لقد رأيت الملوك -وكان هو وبعض أشراف قريش ممن يذهبون إلى الملوك ويرونهم في
الشام وغيرها- فما رأيت أحداً يحب أحداً كمحبة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد؛ فقد رآهم يتسابقون لأخذ ما فضل من وضوئه صلى الله عليه وسلم، وما يتساقط من شعره، كما فعلوا ذلك لما اعتمر صلى الله عليه وسلم، ورأى الهيبة والتوقير والتعزير والعظيم الذي لا نظير له في الدنيا على الإطلاق؛ لأن الذين يحترمون الملوك والسلاطين أو القياصرة والأكاسرة هم مرغمون، ثم إن هذا مقتضى عملهم الدنيوي، وما يظهر من هذا إنما هو بمقتضى العادة أو المحبة الدنيوية، وأما هؤلاء فإنهم يفعلون ذلك عن رغبة، ويفعلونه طواعية، ويبتغون بذلك وجه الله، والتقرب إلى الله تبارك وتعالى بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا لما ذكر
الحسن البصري رحمه الله تعالى حديث الجذع الذي كان رسول الله يخطب عليه ثم تركه فحن الجذع كما يحن الفصيل إلى أمه، أي: وكأنه حيوان، بل وكأنه إنسانٌ سميعٌ بصيرٌ ناطقٌ يحس ويفكر، وقد فقد أعز وأغلى حبيب، فقال
الحسن : [
أيها الناس! هذا حنين الجذع وهو جماد فكيف لا تشتاق قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ]، وهذا من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم كما قال العلماء، فالمسيح بن مريم عليه السلام أعطاه الله تبارك وتعالى آية وبرهاناً على صدق نبوته وهي: إحياء الميت، والميت هنا قد كان حياً ثم مات، وسوف يحييه الله تبارك وتعالى مرة أخرى؛ فمن شأن الميت أن يعيش؛ لأنه كان قبل ذلك حياً وسيرجع حياً، فالحياة بالنسبة له أمر عارض لا تستغرب بمقدار ما يستغرب أن يتصرف الجماد الذي لا حياة فيه تصرف الأحياء؛ لأن الجذع لا حياة فيه، وكذلك الحصى الذي كان يسبح في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجر الذي كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الجمادات ليست مؤهلة بذاتها وبطبيعتها للحياة، ولا للنطق، ولا للتعبير عن المشاعر أو الأحاسيس، ومع ذلك كان منها ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا من أعظم الآيات والبراهين الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، فهو نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.فالمقصود: أن الإنسان بمقدار محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يرتقي في درجات الإيمان ومنازله، وبمقدار نقص هذه المحبة يكون نقصه في ذلك، وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصانه.