قال رحمه الله: (فأجاب: بأن الإسناد من
أبي الليث إلى
أبي مطيع مجهولان) وهذا قدح في السند، لكن ليست هذه كل العلة، وإنما هي علة واحدة. العلة الثانية ليست هينة، بل هي خطيرة كبيرة: وهي أن
أبا مطيع الحكم بن عبد الله البلخي كان في الحديث كما ذكر هؤلاء الأئمة، وقد تحدثنا عنه في أول شرح هذه
العقيدة عندما تكلمنا عن كتاب
الفقه الأكبر المنسوب إلى الإمام
أبي حنيفة رحمه الله، فقلنا: إن سند
الفقه الأكبر فيه
أبو مطيع ، بل إن الكتاب من تأليف
أبي مطيع ، لكن لا يعني ذلك أنه ليس فيه عبارات الإمام
أبي حنيفة ، لكنه من تأليف
أبي مطيع كما يظهر، وكما ذكرنا بعض الدلائل التي تظهر أن الكتاب أقرب إلى أن يقال: إنه من تأليف
أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله ، فهو في الحديث كما ذكر الشيخ هنا، وأما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كان موصوفاً بالجرأة والشجاعة في قول الحق، وهذه قد تجتمع في الإنسان؛ لأنه عالم، وله قيمة في الدولة ولا سيما في تلك العصور، فقد كان الغالب على تلك الدول هو التمذهب بالمذهب الحنفي، وكان من أئمة المذهب الحنفي في زمانه، فكان قوياً وشديداً في الحق، إلا أنه كان في الحديث كما ذكر هؤلاء الأئمة رحمهم الله تعالى، فمن مواقفه التي تشكر له، وذكرها العلماء كـ
الخطيب البغدادي وغيره: أن كتاباً قدم من عند الخليفة وفيه تعيين ولياً للعهد لا يزال حدثاً، أي: طفلاً دون البلوغ عين ولياً لعهد الخلافة الإسلامية، وهكذا كان الحال في عصور الانحطاط والضعف، فقد أصبح النساء والحجاب والعبيد وكبار الجند في القصور يتحكمون في الخليفة، من أيام
المعتصم فما بعد، حتى قتلوا من قتلوا، وسملوا عيون بعضهم، وبعضهم مثل الشاعر
عبد الله بن المعتز لم يتول الخلافة إلا ليلة واحدة ثم قتلوه، فكان أمر عجيب، وانحطاط في كل نواحي الحياة، فلما كتب له قام أحد المتملقين وخطب وقال: ((
وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ))[مريم:12] احتج على ولاية العهد بهذه الآية، فقام
أبو مطيع البلخي الحكم بن عبد الله وقال -وكان على أصول الحنفية-: من قرأ هذه الآية وجعلها في غير يحيى بن زكريا فقد كفر، أي: من جعل شيئاً من القرآن في حق فلان أو علان فقد كفر، وهذا مما ذكره -وهم منصفون رحمهم الله- علماء الجرح والتعديل، إذ ليس لهم نظير في العالم؛ لأنهم ميزان، ورحم الله
الذهبي عندما سمى كتابه
ميزان ، والشيخ
ابن حجر رحمه الله سمى كتابه
لسان الميزان ، وفعلاً هو ميزان، فما كان عندهم جور ولا حيف، بل ولا يترك أحداً لمجرد أنه ليس من مذهبهم، حتى لو كان من غير مذهبهم في العقيدة، أي: ليس فقط في الناحية الفقهية، حتى لو كان مبتدعاً متلبساً ببدعة، لكن له حفظ يقال له: حافظ، له شعر جيد يقال: كان جيداً في شعره، له موقف قوي في إنكار المنكر يقال له: له موقف قوي في إنكار المنكر، فهم متجردون؛ ولذلك فهم المعيار والميزان في الحكم على جميع الناس، ولولا ذلك لما استطعنا أن نلزم أهل البدع بكلامهم، أي: لو كانوا متعصبين فمن خالفهم أسقطوه وجعلوه لا قيمة له، لما استطعنا أن نلزم أهل البدع بكلامهم، لكن لأنهم حتى مع أهل البدع منصفون غاية الإنصاف، فيجب أن نأخذ كلامهم في الرجال مهما قالوا، سواء قالوا في صاحب سنة، أو صاحب بدعة، فهم لا يجاملون أحداً من
أهل السنة أو غيرهم، فلو كان من
أهل السنة وكان سيء الحفظ فلا يقولون: ثقة متقن ضابط إمام، بل يقولون: ضعيف، مهما كانت إمامته وفضله وجهاده، ومهما كان رده على أهل البدع وموقفه منهم، ولو كان -مثلاً- ممن يدخل على السلاطين، فإنه يقال: كان ممن يدخل على السلاطين، حتى لو كان من
أهل السنة المجاهدين في سبيلها، لا بد أن يذكر ما فيه من الذم، ولو كان قوياً في علم وضعيفاً في علم؛ ولذلك كان يقال لحافظ الحديث: كان حافظاً ثقة متقناً، وكان لا يحفظ القرآن، مع أنه من علماء السنة؛ ولذلك الأمة بحاجة إلى مثل هذا القول، وليس هذا غيبة ولا تشهياً ولا تشفياً، وإلا لكان بعضهم يجامل بعضاً، وإنما كانوا يقولون ما فيه من الحق ومن باطل؛ لحاجة من يريد أن يعرف حاله، ولهذا فهذا العلم دائماً محدود -علم الرجال- ومحصور لم يتخصص فيه إلا طائفة من الأمة، وهي التي تجيده وتتقنه إلى أن أورثتنا إياه -والحمد لله- كما نرى اليوم، فكان هذا الكلام مما يدونونه كما قال -أظنه-
عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء يكتبون ما لهم دون ما عليهم، وذلك أن
أهل السنة يريدون الحق أياً كان، أما أهل الأهواء فلا يكتبون إلا ما لهم؛ ولذلك كتب
الرافضة حينما تتأملها تجد أن كل من كان مع
جعفر أو خالط
جعفراً أو
علي بن أبي طالب أو أيده، هم رجال وثقات ومجاهدون ومشهورون لا تحتاج أن ننظر في أسانيدهم، ولا نحكم عليهم؛ وذلك لأنهم أهل هوى، كذلك
الخوارج يزكون أنفسهم، وهكذا كل أهل البدع، أما
أهل السنة فلديهم هذا الميزان العدل عملاً بقول الله تبارك وتعالى: ((
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ))[الأنعام:152]، فـالحكم بن عبد الله ضعفه الإمام
أحمد وكفى به رحمه الله، و
يحيى بن معين ، و
عمرو بن علي الفلاس ، والإمام
البخاري ، و
أبو داود ، و
النسائي ، و
أبو حاتم الرازي ، و
أبو حاتم محمد بن حبان البستي ، و
العقيلي ، و
ابن عدي ، و
الدارقطني وغيرهم، والمقصود أنه ضعيف، بل اتهم بالوضع، فهو يعد في الدرجة الدنيا من الضعفاء. وأما العلة الثالثة فهي:
أبو المهزم الراوي عن
أبي هريرة ، قال: وقد تصحف على الكاتب، أي: في الأصل:
ابن المحزم -بالحاء- فهو
أبو المهزم ، فقد تصحف على الكاتب أو على المؤلف، والمقصود أنه هكذا وجد، واسمه:
يزيد بن سفيان ، يقول: ضعفه أيضاً غير واحد، فهو مثل من تقدم في الضعف، وتركه
شعبة بن الحجاج الإمام العلامة الجليل المشهور، وقال
النسائي أيضاً: متروك، واتهمه
شعبة بالوضع، وقال فيه كلمة عجيبة: [
لو أعطوه فلسين لحدثهم بسبعين حديثاً]. وهذا مثل الصحفيين المعاصرين، أو وكالات الإعلام التي لا تتورع عن أي كذبة، فأينما كانت بدولار أو بدولارين يتكلمون كما يشاءون لمن أعطى، فهذا الرجل -نسأل الله العفو والعافية- الذي يقال فيه مثل هذا لا يمكن أن يحتج، أو يعتبر بحديثه، لو أعطوه فلسين فقط لحدثهم بسبعين حديثاً، وهذه العبارة تذكرنا بعبارة بعض السلف رحمهم الله، وأظنه
طلحة بن مصرف رحمه الله، إذ يقول: [
لو وافقت الرافضة على ما تقول لملئوا بيتي ذهباً وفضة]، أي: أن
الرافضة كانت تأتي إليه وتقول: حدث في فضائل
علي ، وحدث في فضائل أبنائه، وضع حديثاً في كذا وكذا، فيقول: (
لو وافقتهم لملئوا بيتي ذهباً وفضة)، فهم مستعدون بأن يدفعوا؛ لأن أهل الأهواء وأهل البدع وأهل الدنيا، بل
كل من عادى الحق وكرهه وأبغضه، يريد أن يظهر ما يعتقده من الهوى بأي ثمن كان، وهذه هي الكارثة والعياذ بالله، وقد وقع من هذا النوع كثير من الناس، وهم في كل زمان وفي جميع العصور، فهناك من هو مستعد أن يبيع دينه وأمانته، وأن يكذب على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الدين، وعلى العقيدة، وعلى عباد الله المؤمنين مقابل دراهم معدودة، ولو أعطي الدنيا كلها فهو خائب خاسر، فكيف إذا باع دينه بثمن بخس؟! فهذه العبارة دليل على أن هذا الرجل لا يقبل حديثه، وعليه فاجتمعت في هذا الحديث ثلاث علل، ويكفينا هذا، لكن زيادة على ذلك لننظر إلى متن الحديث.