المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى: (وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: (( قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ))[آل عمران:173] زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ؛ ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ))[آل عمران:167]، وقال تعالى: (( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ))[التوبة:124-125].
وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية فقال: حدثنا الفقيه ، قال: حدثنا محمد بن الفضل و أبو القاسم الساباذي ، قالا: حدثنا فارس بن مردويه ، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد ، قال: حدثنا يحيى بن عيسى ، قال: حدثنا أبو مطيع ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة قال: ( جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا، الإيمان مكمل في القلب، زيادته كفر ونقصانه شرك ).
فقد سئل شيخنا الشيخ: عماد الدين بن كثير رحمه الله عن هذا الحديث؟ فأجاب: بأن الإسناد من أبي الليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ، ضعفه أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و عمرو بن علي الفلاس و البخاري و أبو داود و النسائي و أبو حاتم الرازي و أبو حاتم محمد بن حبان البستي و العقيلي و ابن عدي والدارقطني وغيرهم، وأما أبو المهزم الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تصحف على الكاتب، واسمه: يزيد بن سفيان ، فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: (لو أعطوه فلسين لحدثهم بسبعين حديثاً). ‏
  1. تأويل المرجئة لآيات زيادة الإيمان

    المرجئة أولوا الآيات التي في زيادة الإيمان بأن قالوا: إن المقصود زيادة ما يؤمن به، أي: زيادة شيء أو أمر مشروع يؤمن به، وأما الإيمان في قلوب أصحابه فلا يزيد، أي: زادت مسائل علمية مطلوب من المؤمن أن يؤمن بها، فإذا آمن بها أضافها إلى ما لديه مما يؤمن به، ولكن إيمانه على حاله لا يزيد ولا ينقص، فهذا خلاصة ما قالوا، فرد الشيخ عليهم بمثل قوله تعالى: (( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ))[آل عمران:173]، فقال: ما الذي شرع؟ ما شرع شيء، وكذلك في آية الفتح التي نزلت بعد صلح الحديبية ، والآية الأخيرة التي من أواخر سورة التوبة: (( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[التوبة:124].
  2. زيادة إيمان أهل الإيمان عند نزول الوحي

    يقول: (وقال تعالى: (( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ))[التوبة:124]) فكان حال المؤمنين هكذا والحمد لله، وكان الجيل الأول من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لا تنزل آية إلا ويزدادون إيماناً، فيأتي السائلون يسألون: أيكم زادته هذه إيماناً؟ وهؤلاء السائلون قد يكونون من المؤمنين فيستبشرون ويسأل بعضهم بعضاً، وقد يكونون من المنافقين وممن في قلوبهم مرض؛ لأن دأب المنافقين هو الإرجاف وإحداث البلبلة والخلخلة والفوضى، فكلما جاء أمر من عند الله، أو كلما نزل شيء من السماء يأتي هؤلاء ويقولون للمؤمنين: ماذا ترى في هذا الأمر الذي نزل؟ فإن وجدوه مؤمناً موقناً -وهذا حال الصحابة والحمد لله- يئسوا وذهبوا من عنده، وإن وجدوا رجلاً رأى في هذا الأمر المشروع أمراً شاقاً أو صعوبة بدأوا يخذلونه قليلاً قليلاً، وكأنهم يختبرون ويبتلون الناس بمثل هذا، أو يقيسون النبض -كما يقال- ليروا ما أثر هذه الآية، فإن كان من أهل الإيمان واليقين قال: صدق الله ورسوله، وهو من عند الله، فإن كان أمراً فنسمع ونطيع، ولا نقول كما قال أهل الكتاب: سمعنا وعصينا، وإن كان خبراً نقول: آمنا وصدقنا ولا نكذب، ولا نقول: هذا لا يعقل، أو هذا يتنافى مع ما أخبرنا به الأجداد والأولون أو ما جاء في الكتب السابقة أو ما أشبه ذلك، فإن كان كذلك يئسوا منه، وإن وجدوا على أحد غرة من ضعاف الإيمان؛ فإنهم يعملون لاستدراجه ليصبح ضعيف الإيمان، أو مريض القلب، وفي النهاية يصبح منافقاً نفاقاً أكبر كحالهم -والعياذ بالله- فيقع منهم هذا وهذا، فيجيب الله تبارك وتعالى ويقول: (( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ))[التوبة:124]، فالمؤمنون يفرحون إذا نزل شيء من عند الله، وكلما أتى الوحي من السماء فهو خير وبركة ونور وهداية وحكمة وموعظة، أياً كان الموضوع، أياً كانت الآية، أياً كان الأمر، فإن كان واجباً يطاع ويتبع، وإن كان نهياً يترك وينزجر عنه، وإن كان وصفاً لأحوال القلوب، أو أحوال الناس، أو خبراً عمن قبلنا، أو حديثاً عن الآخرة والجنة والنار، أو ما هو أجل من ذلك وهو التعريف بالله تبارك وتعالى وبأسمائه وصفاته، فهم يستبشرون به، وكله خير ونور وحكمة وهدى، وهذا هو حال أهل الإيمان.
  3. جمع المحدثين بين رواية الأحاديث ومعرفة معناها

    يقول ابن القيم: (والعلم بمخبر الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه) فالعلم بالمخبر لا يكون بمجرد سماع الحروف، كما يظن المتكلمون أن هذه الأخبار إنما هي مجرد حروف نقلت، ثم يواصل قائلاً: (بل بفهم المعنى مع سماع اللفظ) أي: فقول المتكلمين بأنه لو ثبت تواتر هذا الحديث فإن دلالته اللفظية لا تفيد اليقين جوابه أنه ليس المقصود في الحديث اللفظ فقط، بل أيضاً المعنى، فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه الأخبار العلم بطريقها، ومعرفة حال راويها، وفهم معناها، حصل له العلم الضروري الذي لا يمكنه رفعه أو دفعه، وهذا والحمد لله واقع في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجتمع فيها العلم بطريقها، وحال رواتها وفهم معناها، ولهذا كان جميع أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث شاهدين بنسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جازمين بأن من كذبها وأنكر مضمونها فهو كافر، ومن له اطلاع على سيرتهم وأحوالهم يدرك أنهم كانوا من أعظم الناس صدقاً وأمانة وديانة، وأوفرهم عقولاً، وأشدهم تحرياً للصدق، ومجانبة للكذب رضي الله تعالى عنهم، ولم يكن أحد منهم يحابي لذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه ولا صديقه، فـ لا يمكن أن يكذب أحد من علماء الحديث بمجرد أن أباه يريد ذلك أو شيخه أو صديقه، فهم الشهداء في هذه الأمة، وهم من حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريراً لم يبلغه أحدٌ سواهم لا من الناقلين عن الأنبياء ولا عن غير الأنبياء، وقد شاهدوا شيوخهم على هذه الحال، وشيوخهم شاهدوا من فوقهم كذلك حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أعظم الثناء وهم الصحابة، فكانت رواياتهم طبقات عن طبقات، بخلاف غيرهم من الأمم كـالنصارى فإنه لا يوجد لدى النصارى وهم أقرب الأمم عهداً -لأن اليهود قبلهم- سند واحد متصل إلى عيسى عليه السلام، بل الأناجيل ليست منقطعة السند فقط بل منقطعة اللغة؛ لأن الأناجيل لم توجد إلا باللغة اليونانية، والمسيح عليه السلام إنما نشأ بين بني إسرائيل وهم يتكلمون اللغة العبرانية، فما العلاقة بين اللغة العبرانية واليونانية؟ ومن الذي ترجمها؟ وكيف نقلها؟ ومتى عرفت؟ الجواب أنه قد عرف بعضها بعد مائتي سنة من وفاة المسيح ورفعه إلى الله تعالى، حينها عرف أن لوقا له إنجيل ويوحنا كذلك وفلان له إنجيل، وهذا لا يمكن أن يكون كلام الله، فالفرق كبير جداً بينه وبين القرآن الذي قال الله عنه: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9] وقال: (( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))[فصلت:42] وهذا اختصاص من الله سبحانه وتعالى لكتابه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي تبع له.
    إذاً يقول الشيخ رحمه الله: هؤلاء الصحابة الذين اختارهم الله تعالى وجعلهم شهداء من تأمل سيرهم أفاده علماً ضرورياً بصدق ما نقلوه عن نبيهم أعظم من أي علم ينقله كل طائفةٍ عن أهلها، وهذا أمر وجداني عندهم لا يمكنهم جحده، بل بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة والحب والبغض، حتى أنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه، ويباهلون من خالفهم عليه، لأنه أصبح عندهم من اليقين أنه صلى الله عليه وسلم قد قال هذه الأحاديث، وأما قول هؤلاء القادحين في أخباره وسنته بأنه يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين فهو بمنزلة قول أعدائه صلى الله عليه وسلم بأنه يجوز أن يكون الوحي جاءه من شيطان أو كاذب، فـ قدح المتكلمين في الأخبار هو مثل قدح الكفار فيمن أبلغ الرسول الوحي وهو الأمين جبريل صلوات الله وسلامه عليه.
    يقول ابن القيم : (وكل أحد يعلم أن أهل الحديث أصدق الطوائف، ثم قال: هذه كلمة عظيمة لـ عبد الله بن المبارك يقول: [وجدت الدين لأهل الحديث] أي: في الطائفة المتبعين للحديث الذين حفظوه علماً وعملاً ([والكلام للمعتزلة]) أي: وأشد الناس كلاماً وبحثاً في علم الكلام وفروعه هم المعتزلة ([والكذب للرافضة]) أي: وأكذب خلق الله الرافضة، فالرافضي يختلق ما يشاء في لحظة، ويفتري الحديث والفضائل كما يشاء ([والحيل لأهل الرأي]) كبعض الأحناف كـالكرخي ، وليس كل حنفي يعمل بالحيل، بل بعضهم يأتي إلى حكم من الأحكام وهو حرام فيتحيل في تحليله أو حلال فيتحيل في تحريمه في لحظة، ([وسوء التدبير لآل أبي فلان])، لعله والله أعلم يقصد قوماً في عصره إما من الحكام أو من ولاة الأمر.
    إذاً: هذان النوعان: المتواتر لفظاً ومعنى، والمتواتر معنى فقط هما عند الأمة بهذه الدرجة العظيمة من الحجية.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.