المادة    
  1. ترجيح مذهب أهل السنة في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

    والمقصود أن هذه الأحاديث وهذه الآثار التي ذكرها الإمام هشام رحمه الله تعالى تدلنا على حقيقة الإيمان وعلى معتقد السلف الصالح في الإيمان، فتبين أن الإيمان حقيقة، ودعائم، وأركان، وصريح، وطعم، ومحض، وعرى، وشعب، وحلاوة، ولباس، وذروة، وشطر، وزينة، وكمال، وبشاشة، وواجبات، وكمالات، ومستحبات.
    فهل من قال: الإيمان التصديق، ومن قال: إنه لا يزيد ولا ينقص يتناسب قوله مع هذا؟! كلا.
    وقول الإمام هشام في أول كلامه: (ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) ثم ذكره هذه الأمور يدل دلالة واضحة على أن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان يجمع بين المنقول والمعقول، والحمد لله؛ فإن من تدبر في هذه الآثار والأحاديث يستنتج أن الإيمان لا بد من أن يكون كذلك، وأن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم هم أعظم من فسر حقيقة الإيمان.
    وعليه فما سبق إيراده من النقول على إجماعهم على أن الإيمان قول وعمل، وما ذكرناه عن الإمامين الفضيل و هشام في توسيع مفهوم الإيمان وحقيقته وشعبه إلى آخر ذلك، كل ذلك ينتج من مجموعه أن المخالفين لهذا المذهب هم -بلا ريب- واقعون في البدعة وواقعون في الخطأ، وأقل أحوالهم أنهم أخطئوا حين خالفوا منهج أهل السنة والجماعة في حقيقة الإيمان.
  2. لزوم ظهور آثار التعبيرات القلبية للإيمان في عمل الإنسان

    ونستنتج كذلك أن الإيمان إذا كان تعبيرات قلبية فلا بد من أن يظهر لها آثار في عمل الإنسان؛ فإنه لا يمكن أن ينفصل فيه العمل عن الاعتقاد، فهما متلازمان، فالعبد إذا كانت عنده حلاوة الإيمان وطعم الإيمان وبشاشة الإيمان وكمال الإيمان وزينة الإيمان ولباس الإيمان إلى آخر ذلك؛ فهل يمكن أن تكون أعماله منافية ومخالفة لفرائض الإيمان وشرائع الإيمان؟!
    والجواب أنه لا يمكن ذلك؛ فهذه مرتبطة بتلك، فالظاهر مرتبط بالباطن، والعلاقة بينهما لا يمكن لها أن تنفصل ولا أن تنفك أبداً، فحلاوته وطعمه وبشاشته لا بد من أن تظهر آثارها، ومنها كما ذكر في الحديث الصبر على الطاعة، وإسباغ الوضوء على المكاره، وتحمل الأذى في ذات الله عز وجل، واليقين بما وعد الله تبارك وتعالى به، وهذه كلها تنتج عن إيمان العبد حقيقة وعن معرفته بالله وعن اليقين الذي يكون في القلب.
    وبقدر ما ينقص الإيمان الباطن -أي: بقدر نقصان بشاشة الإيمان أو حلاوة الإيمان أو طعم الإيمان وما أشبه ذلك- يظهر الأثر على الجوارح، فلو أن أحداً ذاق طعم الإيمان على الحقيقة لقام بفرائض الله تعالى على الحقيقة، فالذي يتذوق قراءة القرآن ويجد فيه من اللذة ما لا يمكن أن يجده في قراءة أو سماع أي نشيد أو شعر أو أي شيء مما يلتذ به الناس؛ يكون قد ذاق طعم الإيمان حقيقة، لكن لو أن رجلاً يقول: قد ذقت طعم الإيمان وذقت حلاوة الإيمان، ومع ذلك لا يتذوق ولا يلتذ ولا يشعر بحلاوة قراءة القرآن أو سماع القرآن؛ فإن عمله يكذب قوله.
    إذاً فهما متلازمان، ظاهر وباطن، وقول وعمل، واعتقاد وتنفيذ، وبهما تظهر حقيقة الإيمان الشرعي.
    وبعض الأمور -كما ذكر الإمام فضيل والإمام هشام - هي كمالات أو مستحبات، لكن بكمالها يكمل الإيمان.
  3. المحافظة على الفرائض والاستزادة من النوافل

    فالمسلم الذي يريد أن يحافظ على الفرائض يأتي بالنوافل، والذي يريد أن يستكمل النوافل يأتي بها على أكمل الوجوه؛ ولذلك يتفاوت الناس في النوافل ويتفاوتون تبعاً لذلك في الفرائض، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) ثم قال: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ).
    فأول ما يجب على العبد أن يأتي به الفرائض، فإذا أراد زيادة في ذلك فإنه يأتي ويتقرب بالنوافل، ولا يعني ذلك أنه يشتغل بالنوافل ويترك الفرائض، فهذا ليس منهجاً صحيحاً، بل مما يورده الشيطان ويحرص عليه، لكن من أراد أن يحفظ الإيمان الواجب فليجتهد وليسع في تحقيق الإيمان الكامل، ومن هنا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتعاهدون إيمانهم ويجددون إيمانهم، وقد عقلوا وفقهوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ) يعني: يبلى، أرأيت قطعة الثوب كيف تخلق وكيف تبلى حتى تتمزق وتتقطع؟! كذلك الإيمان في القلوب، فلا بد من تجديد الإيمان، ولا بد من تعاهد الإيمان، فالإيمان كأنه شجرة إن لم تسقها كل يوم ذبلت، وربما أدى بهذا ذلك إلى أن تموت.
  4. التدبر والتفكر في ملكوت السموات والأرض وأثره في تقوية الإيمان

    ومن مقويات الإيمان التي يحفظ العبد بها إيمانه التدبر والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وهذه من العبر العظيمة في الآيات المنزلة في القرآن التي يغفل عنها كثير من الناس، فقد أمرنا أن ننظر ونتفكر ونتدبر في آيات الله الكونية المشاهدة التي يراها من يقرأ ومن لا يقرأ، ولو أن العباد تفكروا فيها وتأملوها وتدبروها لأخذتهم هيبة وعظمة الله سبحانه وتعالى، وملأت قلوبهم من إجلال الله وتعظيم الله سبحانه وتعالى الذي يسبح له هذا الكون كله، فهو الذي جعل هذا الكون في غاية الاتساق والتناسب، وجعل هذا الكون بهذا الأحكام وهذا الإتقان: (( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ))[النمل:88]، (( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ))[الملك:3].
  5. الفساد الكوني وعلاقته بفساد إيمان الناس

    فإذا نظر العبد إلى هذا وتدبره وتأمله أورثه ذلك إيماناً بأن الذي ما جعل في خلقه من تفاوت هو الذي ما جعل في دينه وفي شرعه من تفاوت من باب أولى؛ لأن هذا الكون إنما هو للنظر والاتعاظ، وهو مسخر لنا، أما الشرع والدين فقد أحكمه الله تبارك وتعالى وفصله لتقوم حياتنا عليه، ولنعبد الله تبارك وتعالى كما أمر وشرع، ولتستقيم أمورنا بالعدل والإنصاف والتعامل فيما بيننا وفق ما شرع الله تبارك وتعالى.
    فلو أن الناس أقاموا حياتهم على ما أمر الله وعلى طاعة الله وعلى إرضاء الله لم يكن فيها من تفاوت، وإنما يقع الخلل ويقع الفساد في حياة الناس ويقع التفاوت وتقع الذنوب والمصائب العظام بسبب أن الناس لم يستقيموا على أمر الله تبارك وتعالى، والخلل الذي ينتج عن عصيان العباد وضعف إيمانهم يؤدي إلى الفساد الكوني أيضاً، فقد جاء عن بعض السلف قوله: (إن الحبارى لتموت في أوكارها من ظلم الظالم) حتى الطيور والبهائم تشكو إلى الله وتضج من ظلم الظالم وفجور الفاجر وبطش المتجبر وغدر الغادر؛ لأن الحياة الكونية تتأثر بالحياة البشرية، وهي عقوبات ينزلها الله تبارك وتعالى، وإذا جاءت العقوبة عمت، كما قال تعالى: (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ))[الأنفال:25].
    فمن هنا وجب على الإنسان أن يقوي إيمانه وأن يستكمل حقيقة الإيمان بقدر ما يستطيع، فإذا حصل ذلك في حياة الناس واستقام الناس على الإيمان وكمل إيمانهم فإن أمورهم تنتظم، فينتظم الجانب الاختياري الذي جعله الله تبارك وتعالى محلاً للعقوبة أو للمثوبة مع الجانب الذي جعله الله تبارك وتعالى جارياً وفق السنن الإلهية، كحركة الليل والنهار.
    فعلى الناس أن يجتهدوا ليوافقوا هذه السنن بأداء ما افترضه الله تبارك وتعالى عليهم، واتباع أمر الله ظاهراً وباطناً، والإيمان به كما أمر وكما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيل الأول الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ضرب القدوة والأنموذج الأعلى في هذا.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.