قال: (وقال
فضيل : سمعت
سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا الله حسيبهم، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، لا ندري ما هم عند الله). وهذه قاعدة أخرى عظيمة من قواعد
أهل السنة والجماعة في الأحكام، وهي أن الناس ينظر إليهم من جهتين: من جهة أحكام الدنيا، ومن جهة أحكام الآخرة وما عند الله. فعندما نحكم فإننا نتحدث عن الإيمان من جهة أحكام الدنيا ويكون هذا الحكم مبنياً على الأمور الظاهرة، فلا نتكلم في البواطن أبداً، فإذا شهد المرء أنه لا إله إلا الله قلنا: هذا آمن، ولا ندري بحقيقته، فقد يكون منافقاً، فنجري عليه الأحكام الظاهرة كما قال صلى الله عليه وسلم: (
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام )، لكن المقصود بالظاهر ما لم يرتكب شيئاً ظاهراً، فنحن نعامله بالإقرار، فكل من أقر بالإسلام قبلنا قوله، وإن أقر في المعركة لم نقتله، وإن أراد الدخول إلى دار الإسلام وقال: أنا مسلم أدخلناه ليعيش بين المسلمين في أي موضع من المواضع، بل إن العلماء عملوا في ذلك بالقرينة وليس بالإقرار فحسب، كما إذا وجد مختون بين قوم غير مختونين وأشتبه فإنه يحكم بإسلامه.وكذلك إذا وجد لقيط في دار الإسلام في محلة فيها كفار، فاللقيط يغلب في حقه جانب الإسلام. وهكذا إذا جاءك امرؤ فقال: هلك هالك عن زوجة وابن وبنت وكذا وكذا، فإنك تفرض بينهم بحسب ما شرع الله من الفرائض على أنهم مسلمون، ما لم يتبين لك أن أحدهم كان مرتداً. وكذلك المناكحة فإذا جاءك رجل متزوج من امرأة فإنك تصحح العقد على أنهما مسلمان، وكذلك الحدود، فنقيم على الناس الحدود على أنهم مسلمون، وكذلك الذبائح، كما جاء في حديث
أنس : (
من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو مسلم )، فنحن نأكل ذبيحته وهو يأكل ذبيحتنا ما دام ظاهره هو الإسلام. قال
سفيان: (ولهم ذنوب وخطايا الله حسيبهم) وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (
وحسابهم على الله )، فنحن لا ندري ما ذنوبهم وما خطاياهم في السر، ولم يكلفنا الله عز وجل أن نشق عن قلوبهم، أو أن نتجسس لننقب عما يعملون لنتأكد من إيمانهم، ولم يكلفنا الله بامتحانهم. والحالة الوحيدة التي يكون فيها الامتحان هي إذا كان يترتب على ذلك مصلحة شرعية، فلو أنك أردت أن تتوثق من إنسان ليعمل عندك أو ليذبح لك فإنك تتحرى صلاته وأمانته ودينه، وهذا التحري شيء آخر، وكذلك تتوثق من إنسان لتصلي خلفه، هل هو مبتدع أم هو من
أهل السنة ، لأن ذلك لمصلحة في دينك أنت، وليس المقصود الحكم على دينه، فأنت يهمك شيء من دينك، ولهذا لما جاء
معاوية بن الحكم السلمي رضي الله تعالى عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجارية ما سأل ليحكم عليها بأنها مسلمة أو كافرة، لكنه جاء ليقول: إن أمي نذرت أن تعتق رقبة، وهذه الجارية قد صككتها وأنا بشر آسف كما يأسف الناس، فهل تجزئ أو لا تجزئ؟ ففي هذه الحالة اختبرها النبي صلى الله عليه وسلم وسألها أسهل ما يكون من الأسئلة؛ لأنه ليس المهم التنقيب، فقال لها: (
أين الله، و: من أنا)؟ وأوضح شيء في الدنيا كون الله تبارك وتعالى في السماء، يقر بذلك كل من له عقل، وكون محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الله أمر لا يجهله أحد في
المدينة مؤمن ولا كافر، فلما أجابت قال: (
اعتقها فإنها مؤمنة ). وكذلك إذا تقدم رجل ليخطب منك إحدى بناتك فإنك تسأل عن دينه لمصلحة شرعية، وهكذا. فالمقصود أنه لا تناقض، فالحكم العام على الناس هو الإسلام، فكل من أظهر الإسلام حكمنا له بالإسلام، أما في التعامل الذي يستدعي التأكد من ثبوته، فهذا لا بأس بالسؤال أو التحري عنه.