يقول رحمه الله:
[ويشير الشيخ الطحاوي رحمه الله تعالى بقوله: (من الشرع والبيان) إلى أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين على نوعين: شرع ابتدائي] أي: المبتدأ الذي شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقوله: (وبيان) أي: البياني الذي هو
[بيان لما شرعه الله تعالى في كتابه العزيز، وجميع ذلك حق واجب الاتباع] لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي القرآن ومثله معه كما ثبت ذلك عنه، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً، أو أخبر بشيء زيادة عن ما جاء في القرآن، فهو شرع ابتدائي يقبل ويؤخذ، سواء ذلك في الأخبار أو الأحكام، فمثل الأحكام: (
لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها )، وكذلك: (
تحريم كل ذي ناب من السباع )، وكذلك: (
يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) وغير ذلك من الأحكام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم تكن في القرآن، مثل: التغريب، إذ إن حد الزنى في كتاب الله: الجلد، فزاد النبي صلى الله عليه وسلم: التغريب، وهكذا فما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام -وهو كثير- فهو حق ابتداءً، وما جاء به من الأخبار مثل:
الدجال ، ونزول عيسى، وفيه إشارة في القرآن، و
المهدي ، وطلوع الشمس من مغربها، وإن كان أيضاً فيه إشارة، قال تعالى: ((
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ))[الأنعام:158]، ونار
عدن ، وذكر أيضاً من أخبار عذاب القبر في القرآن، لكن التفصيل في عذاب القبر، وتفصيل ما يكون في المحشر، وأحوال أهل الجنة، وأحوال أهل النار في السنة كثير. والشرع البياني مثل: الصلاة، فقد أمرنا الله تعالى في القرآن بالصلاة، والذي بين لنا كيفية الصلاة، وأن هذه ثلاث أو أربع أو ركعتان، وهذه فريضة، وهذه نافلة، كل ذلك بينته السنة النبوية، ومثله الزكاة، فقد شرعها الله تعالى علينا، والذي بين لنا المقادير والأنصبة وأحكامها الأخرى هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الحج، فقد أمرنا الله تعالى به فقال: ((
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ))[آل عمران:97]، والذي بين لنا كيفية الحج هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ((
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ))[النحل:44]، وأيضاً حرم الله الربا، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أحكامه، بل زاد أيضاً في السنة أنواعاً من الربا ليست في القرآن، أو مما ذكره القرآن؛ لأن القرآن ذكر ربا الجاهلية المشهور، وهكذا كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان شرعاً ابتدائياً، أو كان بياناً، فهو حق واجب الإيمان والاتباع، قال تعالى: ((
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ))[النساء:80]، وقال: ((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ))[النساء:59]، وقال: ((
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ))[الحشر:7]، ويقول في آية الأحزاب: ((
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ))[الأحزاب:36]، فسواء جاء من عند الله، أو جاء من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ما كان لمؤمن يبلغه ذلك أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، بل إنما حاله التسليم المطلق، والإذعان والانقياد الكامل، وهذا نعلم به أن ما يفرق به بعض المبتدعة الآن في هذا الزمان ظهرت فرقة خبيثة في القرن الماضي الهجري من يسمون: (
أهل القرآن)، إذ يقولون: لا نؤمن إلا بالقرآن، ولا نحتاج إلى السنة، وهؤلاء في الحقيقة كفار بالقرآن، ولو كانوا يؤمنون به لآمنوا بما ذكرنا من الآيات الدالة على وجوب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بعضهم لا يصرح بهذا واضحاً جلياً، وأنه من القرآنيين، إنما يوجد بعض طوائف يشبهون هؤلاء كما قد تقدم، فيقولون: نردها إن كانت آحاداً، ونقبلها إن كانت متواترة، وهذا نوع من التفريق، فبعضهم يقول: لا نرد السنة إذا كانت متواترة عملية أو كانت بيانية، وإذا جئت تناظره وتقول له: لابد أن نؤمن بالسنة؛ لأننا إن طالبناه بالدليل على أن صلاة الظهر أربع ركعات؛ فإنه يفحم ويحرج، ويضطر أن يقول: نحن نؤمن بالسنة إذا كانت بيانية، أي: تبين شيئاً في القرآن، أما إذا كان ابتدائية، أي: شرع ابتدائي فلا نؤمن بها، وهذا كله ضلال؛ ولذلك إشارة الإمام
الطحاوي رحمه الله تعالى هنا إشارة عظيمة ورائعة؛ لأنه قال: كل ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق يجب الإيمان به، وليس كما يقول هؤلاء: نفرق بين السنة البيانية من الابتدائية، أو إن كانت عملية تواترت تواتراً عملياً كالصلوات، فهذه نؤمن بها؛ لأن الأمة تواترت بفعلها، أما غير ذلك فنرده، وهكذا من أسباب الضلال، ونحن قلنا عندما تعرضنا لهذه الفقرة المتعلقة بخبر الآحاد جاءت مدخلة في موضوع الإيمان، بين الكلام عن أول موضوع الإيمان وتعريفه والاستثناء فيه، وبين العبارات الأخيرة التي قالها، وقوله: (وأهله في أصله سواء) وقوله: (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن)، فيكون هذا مثالاً كما نبهنا إلى أن الإمام
الطحاوي رحمه الله تعالى لم يكتب على طريقة المتأخرين في الفصول والأبواب والتنظيم، وإنما كان علماء السلف رضي الله تعالى عنهم يسترسلون استرسالاً، ويكتب كل ما يرى أنه حق، ولا يشترط فيه التبويب كالذي يفعله المتأخرون. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.