المادة    
ثم قال: (بل كل فريق...) هنا أضرب عن كلامه الأول، وإضرابه عن كلامه الأول يعني ليس ذلك خاصاً بأهل الكلام، أو الفرق التي ذكرها: الجهمية و المعتزلة و المعطلة و الرافضة، (بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً) وهذا هو حالهم جميعاً، أي: أن أول شيء يقرره صاحب البدعة: منهجه ورأيه وفكره فيقول: أنا أرى أن أؤل -ضرورة التأويل- وأعتقد في القدر -مثلاً- أن أفعال العباد غير مخلوقة، وأعتقد كذا، أي: مما تعلم من كلام الرجال، وخلط ذلك بشيء من الحق الذي قرأه، وهذه عادة أهل البدع، فيقررون النظرية، ثم يعرضون عليها من كلام الوحي أو من كلام المجتهدين أو غيرهم من المخالفين، وبعد ذلك ينظرون فما وافق قبل، وهذه الآية لنا، ونحن أولى بها، وما خالف رد، وقد عبر الشيخ رحمه الله بعبارة أو بمصطلح شرعي عظيم فقال: (فما وافقه قال: إنه محكم).
وأخذ الشيخ كلمة: محكم، ومتشابه من الآية التي في أول سورة آل عمران: (( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ))[آل عمران:7]، فهم عكسوا الأمر، فالمحكم ما جعلوه هم قاعدة قطعية برهاناً عقلياً إلى آخره، والمتشابه ما خالفه، وقد مر معنا المثال الذي اعتمده الرازي في الأساس، ونقده أبو مظفر السمعاني رحمه الله في كتابه العظيم: الانتصار لأهل الحديث، والشاهد أنهم في هذه القاعدة أو هذا المثال يجعلون ما رأوه محكماً، فنحن نقول: إن كل آيات الصفات محكمة، فعندما يقول الله تبارك وتعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11]، فهذه آية محكمة، والمقصود بالمحكم: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وقوله: (( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ))[مريم:65]، لا شك أنها آية محكمة، وقوله: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ))[الإخلاص:1]، آية محكمة، وقوله تعالى: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64]، آية محكمة أيضاً لا تحتمل إلا ذلك، وهي واضحة في الدلالة، وليس هناك أي إشكال، وقوله: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]، آية محكمة، والذي جعلوه هو محكماً هم قالوا: الله تعالى يتنزه عن الجسمية والعرضية، أو عن حلول الحوادث، أو صفات الحوادث، فجعلوا هذا الكلام هو القاعدة المحكمة، فإذاً: هو لا يماثل أو لا يشابه الحوادث، وقالوا: إذاً نجعل كل الآيات التي جاءت فيها إثبات الصفات، وتوهم تشبيه الله تعالى بالمحدثات من قبيل المتشابه؛ لأنها تشكل على هذه القاعدة، فقوله: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64]، وقوله: (( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]، وقوله: (( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ))[طه:39] إلى آخر ذلك من الآيات كلها متشابهات، لكن كيف نردها؟ قالوا: عندنا هذه القاعدة الأصلية، فنجعل المحكم هو فقط قوله تعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11] محكمة، (( وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))[الشورى:11] مشتبه؛ لأنها تثبت السمع والبصر، وهذا فيه مشابه للمخلوقات، فجعلوا من القرآن ما هو محكم ومتشابه كما يشاءون، وفي الحقيقة أن المحكم هو ما قرروه هم؛ لأن الآية عندما وافقت ما قرروه -في نظرهم- جعلوها من المحكم، وعندما خالفت ما قرروه جعلوها من المتشابه.
وبالتالي فالمحكم في الحقيقة -حتى يفهم كلام الشيخ- هو البدعة التي أصلها هو، فيظل يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً- في ذهنه، فيجعله هو الأصل، (فما وافقه قال: إنه محكم وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه ثم رده) وهما هنا ينقسمان إلى فريقين كما قال شاعرهم:
وكل نص أوهم التشبيه أوله أو فوض ورم تنزيها
أي: إما أنه يفوض، وإما أنه يؤول حتى ينزه الله تبارك وتعالى، وفي الحقيقة أن توهمه جاء من عقله هو، وإلا لم يقل الله تبارك وتعالى، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفهم أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أهل اللغة العربية، ولم أنه إذا قال الله تعالى: (( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ))[المائدة:64] أن: (يداه) كأيدي المخلوقين، وبالتالي فهو الذي تخيل أو توهم، قال: ثم رده وسمى رده تفويضاً.
والتفويض هو رد المعنى والمدلول، أي: إذا جردنا أي لفظ عن معناه فما قيمته؟ إذا قلنا: (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ))[طه:5]، فيقول: أنا مؤمن بها، لكن أفوض معناها إلى الله، أي: لا أستطيع أن أفهم منها أي معنى، وبالتالي فهو يؤمن بأن هنالك حروفاً مكتوبة في المصحف، فهو في الحقيقة ردها؛ لأن الله تعالى خاطبنا، وأنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين، لينذر من كان حياً، ونحن يجب أن تحيا به قلوبنا، ونعرف الله سبحانه وتعالى، ونعرف صفاته، ونعرف أحكامه والحلال والحرام وأخباره منه، فإذا قلنا: لا ندري ما معنى هذه، ولا هذه، إذاً ما فائدة وما قيمة ذلك؟! هل القرآن للبركة فقط دون فهمه؟!
لذلك فإن التفويض رد؛ لأن من رد المعنى فقد رد اللفظ والمعنى، إذ إن اللفظ إذا تجرد عن المعنى فلا قيمة له.
ثم قال: (أو حرفه وسمى تحريفه تأويلاً) أي: يقول: هذه لابد أن نؤولها، فسبحان الله العظيم! الله تعالى ينزل علينا القرآن العظيم المبين ويحرم التأويل، والمسلم يقول: لابد من التأويل! أيرضى الواحد منا أن يتكلم بكلمة ثم يأتي آخر ويؤولها؟! فيقول: يا أخي! أنا كلامي واضح، وأنا الذي تكلمت، وأنا أقصد كذا وكذا، فكيف تؤول كلامي وترده؟! إن هذا لا يقبله أحد أبداً، فكيف بكلام رب العالمين وفي أمر الغيب؟!
وعليه فـ التأويل هو في حقيقته تحريف، ولهذا فعندما نعرف مذهب السلف نقول: إثبات ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم نقول: من غير تحريف ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل -أربع كلمات- والتمثيل هو التشبيه، والتمثيل أفصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ ))[الشورى:11]، فالمثلية هي المنفية، والتعطيل هو النفي والإنكار والجحد.
وبقي التكييف وهو: ادعاء معرفة الكيفية، أو تفسير الكيفية، والتحريف هو التأويل، وقال السلف: التحريف ولم يقولوا: التأويل؛ لأن التأويل في كلام السلف له معانٍ عدة، منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل بالاصطلاح، أي: أدخلوه في الاصطلاح وجعلوه معنى من معاني التأويل، وهو صرف اللفظ أو العدول به عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لقرينة، فهو في حقيقته تحريف.