المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق].
يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية و المعطلة و المعتزلة و الرافضة القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر وآحاد، فالمتواتر وإن كان قطعي السند، لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات. قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها، ولا من جهة متنها، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية، سموها قواطع عقلية، وبراهين يقينية، وهي في التحقيق: (( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:39-40].
قال: (ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص؛ فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح الموافق للفطرة السليمة.
بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده وسمى رده تفويضاً، أو حرفه وسمى تحريفه تأويلاً! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم).
  1. ذكر من رد الأخبار الصحيحة عن رسول الله من الطوائف

    يقول الشيخ رحمه الله: إن قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) عبارة عظيمة، والعطف في قوله: (والبيان) له حكمة ذكرناها وستأتي في آخر البيان إن شاء الله.
    والإمام الطحاوي رحمه الله بهذه العبارة يرد على الجهمية و المعطلة و المعتزلة و الرافضة ، وذكره لهذه الفرق الأربع فقط هو على سبيل التمثيل.
    قال: (بل كل فريق من أرباب البدع...) أي: فالواقع أن كل أهل البدع لا بد أن يردوا شيئاً من الأحاديث إن لم يردوا الأحاديث الصحيحة كلها وهذا على سبيل التمثيل، وأشهر أولئك هم المتكلمون الذين يشملهم كلامه، وقوله: (الجهمية و المعطلة و المعتزلة) يجمعهم كلمة: المتكلمون، ويضاف إلى ذلك الأشعرية و الماتريدية ، إذ إنهم أيضاً من جملة المتكلمين، فالرادون للنصوص على هذا المنهج، وبهذه الاعتبارات التي ذكرها هنا الشيخ، يجمعهم في الحقيقة طائفتان: الفلاسفة أو المتكلمون، فهذان طائفتان أو منهجان كبيران تحت كل منهج من الطوائف والأفراد ما لا يعلم عدده إلا الله تعالى.
    فالطائفة الأولى: من اتخذ أهلها سبيل المعقول كما يدعون، وهؤلاء هم المتكلمون والفلاسفة .
    الطائفة الثانية: التي اتخذ أهلها سبيل الكشف والوجد والذوق وما أشبه ذلك مما يعبرون عنه أحياناً بالعلم اللدني أو العلم الباطن، وهؤلاء هم معاشر وطوائف الصوفية على اختلاف درجاتهم ومراتبهم من أهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، إلى من كان دون ذلك من طرق كثيرة لا تحصى.
    فهذان هما الطرفان في هذه الأمة.
  2. مشابهة من رد الأخبار الصحيحة عن رسول الله لليهود والنصارى

    وهما في هذه الملة يشبهان الطرفين اللذين ذكرهما الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب قبلنا، عن الأمتين اللتين أوتيتا الكتاب قبلنا، وهما: اليهود والنصارى، حيث يأمرنا الله تبارك وتعالى في كل ركعة من صلواتنا -سواءٌ كانت نافلة أو فريضة- أن نقرأ بأم الكتاب، وأن نقول: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ))[الفاتحة:6-7]، فالمغضوب عليهم في الأمم هم اليهود ، ثم من اتبع نهجهم وطريقتهم ممن عرف الحق ولكنه لم يعمل به ولم يتبعه، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وسفيان بن عيينة وغيرهما: [من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن ضل من عبادنا ففيه شبه من النصارى].
    وبالتالي فـأهل تحكيم العقل والمعقولات هم أقرب إلى اليهود ومن نحا نحوهم في هذه الأمة من أهل القبلة لأنهم يطلعون على النصوص ثم يعارضونها بما يقولون: إنه قواعد عقلية وبراهين يقينية، وهذا هو الانحراف والعياذ بالله، إذ إنهم عرفوا الحق ولكنهم أعرضوا عنه وتحاكموا إلى غيره.
    والطائفة الأخرى في الأمم: هم الذين عبدوا الله تعالى على جهل، وتقربوا إليه بما لم يأذن به الله ولم يشرعه، وهؤلاء هم النصارى ، ومن نحا نحوهم كـ البوذيين وغيرهم؛ فإنهم قد تدينوا لله تبارك وتعالى بالرهبانية والانقطاع عن الدنيا وترك شهواتها، ومع ذلك فعملهم حابط وخاسر.
    وهم أصحاب الوجوه التي ذكرها الله تبارك وتعالى: (( عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ))[الغاشية:3-4]؛ لأن كدحها لم يوافق ما جاء عن الله، وما شرعه الله، وهذا في الأمم السابقة، أما في أهل القبلة أو أهل هذه الأمة فالذي يمثل هذا المنهج هم أولئك الذي أيضاً تصوفوا وتركوا الدنيا، وانقطع كثير منهم إلى التعبد وإلى الإذكار وإلى معالجة أمراض القلوب وإلى ما يسمونه: المقامات والأحوال وما أشبه ذلك، ولكنهم يعملون ويكدحون في غير ما شرع الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
  3. تخبط من حكموا العقل والكشف على الآثار والنصوص

    إذاً: أولئك الذين حكموا الكشف أو العلم الباطل أو منهج التصوف وما أشبهه، قد كفونا مئونة أنفسهم بما وقع بينهم من الجهل والاضطراب والتخبط الكبير؛ لأنهم يرجعون معرفة الحق إلى أمر غير منضبط، فهذا أبو حامد الغزالي وهو ممن يمثل هذا الاتجاه، وهو من خيرتهم وأمثلهم، يقول في كتابه الإحياء: (معرفة ما يؤول وما لا يؤول من الصفات لا يمكن إلا عن طريق الكشف) لكن هذا الكشف من أين يأتي؟ إنه يأتي من عند الله تعالى، فإذاً أحال إلى أمر غير منضبط، فقد يقول أحدهم: وقع في قلبي أن أءول صفة اليد، والآخر يقول: كشف لي أو وقع في قلبي أني لا أءولها، وإنما أءول القدم مثلاً، فما الذي يجعلنا نعرف الحق من الباطل؟ أو إلى شيء نتحاكم؟ لقد أحال إلى أمر غير منضبط، والمقصود أن هذا المنهج كله وأهله هذا ديدنهم، لكن أهل الكلام أو علماء الكلام -وهم ليسوا بعلماء إلا كما نقول: علماء، ونعني به من علم شيئاً سواء كان حقاً أو باطلاً- يقولون: نحن نحاكم إلى قواعد يقينية وقواطع وبراهين عقلية، سواء كان ذلك في باب الصفات، أو في باب القدر، أو في باب الإيمان، أو في أي باب من أبواب العقيدة الأخرى، كما في كلام الرازي فيما نسميه: القانون الكلي للتعارض، ومن هنا لبسوا على كثير من الناس أنهم أصحاب العقول، ولو تأمل الواحد في دوائر المعارف كما تسمى أو ما أشبهها مما يتعرض له الفكر الإسلامي كما يسمى، أو الفكر الفلسفي في الإسلام إلى غير ذلك من التسميات، لوجد أنه يجزم أو يحكم بأن أهل الكلام وأهل الاعتزال -وأشهرهم المعتزلة كما قال عبد الله بن المبارك - يمثلون حرية العقل، وحرية التفكير، واستخدام العقل والمنطق والحجج والبراهين.
    أما أهل الحديث فهم الذين يأخذون النصوص مجردة من غير فهم، قد يقال وقد لا يقال، المقصود كأنهم حرفيون، يأخذون مجرد العبارات دون فهمها ويقولون: آمنا وتمسكنا بها وانتهى الأمر، وهذا يؤدي إلى أن يعتقد أو يظن البعض أن الكتاب والسنة إنما هي مجرد أخبار أو نصوص، وليست قواعد ولا حججاً ولا بيانات ولا براهين تفيد اليقين، وهذا ما صرح به المتكلمون، وهذا ما يجب أن يبطل وأن يدحض؛ لأن هذا الدين -كما وضح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله بأطول وأجود البيان- أو هذا القرآن، أو هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تبارك وتعالى بالحجة والبيان والبرهان.
    ولهذا يضرب الله تعالى الأمثال الحسية العقلية؛ ليبين أن هذا الدين حق، وأن كل قضية من قضايا العقيدة حق يضرب الله مثلاً حسياً على البعث، وهو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، الذي عجب العرب وأكثر الأمم اليوم في الأرض كيف أن الله يبعث الناس بعد موتهم ويحاسبهم ويجازيهم؟
    إن هذه القضية مهمة، إذ إن كثيراً من الخلق يؤمن بأن الله حق موجود، لكن المشكلة أنه لا يؤمن بالآخرة، فيضرب الله تعالى مثلاً حسياً بالأرض أو بالزرع أو بالنبات، وذلك في مواضع كثيرة، وهو مثل حسي يشاهده أي إنسان، إذ إنه يرى الأرض هامدة أو خاشعة، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وأنبتت من كل زوج بهيج، وأصبح فيها كذا وكذا مما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام وغيرها من الحب المتراكب والنخل الصنوان وغير الصنوان وأصناف أخرى، كل ذلك جعله الله تعالى آيات شاهدات يراها كل أحد من الناس، وكذلك المثل العقلي أو الدلالة العقلية التي لا يشك فيها عاقل، فعندما يتساءل المشركون: كيف يبعثنا الله سبحانه وتعالى؟ من يحيي العظام وهي رميم؟ فيأتي البيان والبرهان العقلي القاطع بقوله: (( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ))[يس:79]، فهذا برهان عقلي وليس مجرد خبر أن الله يحييها مثلاً، إذ لو كان كذلك للزم منه الدليل العقلي، لكن المقصود ليس مجرد الخبر، بل هو حجة عقلية ملزمة مفحمة، فإن الناس جميعاً يعلمون أن من صنع آلة معينة، ثم وجدت مفككة متحللة فإنه قادر على أن يعيد تركيبها؛ لأنه هو الذي صنعها أول مرة أو ركبها.
    وكذلك دعوى النبوة، إذ إنها أعظم القضايا التي يترتب عليها ما بعدها، فإن من أقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لزمه أن يقر بما بعدها، فكيف جاءت النبوة أو إثبات النبوة؟ هل هي مجرد خبر أو دعوى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم أو أي نبي كان: أنا نبي فقط؟ أم يعطيهم الله تبارك وتعالى من الآيات والبينات والبراهين والمناظرة ما يفحمون به خصومهم، وتقوم عليهم الحجة به؟
    إن الله سبحانه وتعالى جعلهم حجة على عباده، وأعطاهم الآيات والبراهين كما أعطى موسى عليه السلام تسع آيات، وأعطاه تلك الحجة العقلية في مناظرته مع فرعون، وإلزامه إياه في كل قضية كما في سورة الشعراء مثلاً.
    وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه من المعجزات أو الآيات الحسية وحدها ما يزيد أو يقارب ألف آية، وأما ما عداها وهو أعظم منها فأعطاه الله عز وجل ما لا يدخل تحت الحصر، ولو تأملته العقول إلى قيام الساعة لعجبت منه، ولما انتهى عجبها من هذه الآيات البينات، وأعظمها هو القرآن والذكر الحكيم، وما نشأ وما يتفرع عنه من أخبار وأحكام وقصص وأمور لو اجتمع أهل الكتاب كلهم فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بشيء منها، فهذه أعظم أدلة على أنه صلى الله عليه وسلم صادق، وهي أدلة واضحة على ذلك.
    فـ المؤرخ إذا أراد أن يعرف صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يستطيع من خلال علمه بالتاريخ والمشرع كما يسمونه -كما كان يشرع الرومان وغيرهم- يستطيع أن يستدل على أن هذا الشرع من عند الله من خلال معرفته بالتشريع وضوابطه وقواعده إذا اطلع على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حتى اللغوي أو الشاعر المتعمق في اللغة يستطيع أن يجزم بأن هذا الكلام ليس كلام بشر ولا شاعر، وهكذا كل إنسان.
    ويكفي أن نعلم -مثلاً- أن الله قص علينا خبر أمتين من أعظم الأمم، وهما عاد وثمود، وهما من أكثر الأمم وروداً وذكراً في القرآن، وما جاء في غير القرآن أيضاً، فهذا الحديث لا نجده في كل كتب أهل الكتاب، فإذا راجع أحد كتب أهل الكتاب كلها؛ فإنه لا يجد فيها ذكراً لعاد وثمود، وهما كانتا قبل إبراهيم عليه السلام، كما نجد ذلك ظاهراً في سياق القرآن كما في سورة هود أو يونس أو غيرها لمن تأمل السياق.
    فالشاهد أن هاتين الأمتين العظيمتين بعد نوح وقبل إبراهيم عليهما السلام ما كان الناس يعرفونهما، مع أن أكبر أمة الآن تشغل بال الباحثين في التاريخ والآثار هي عاد، فأين عاد؟ وما هي حضارتها؟ وما هي ديانتها؟
    كل المؤرخين ممن لم يقرءوا ولم يعرفوا شيئاً عن الدين فإنهم يهمهم أمر هذه الأمة، ويريدون أن يصلوا إلى الحق فيها، وهم لم يجدوا لها ذكراً وفي توراتهم وأناجيلهم، ومع ذلك فهي مذكورة في القرآن.
    وهكذا فالأمثلة كثيرة جداً على أن هذا الدين حق، والشواهد الدالة على صدقه في الأنفس والآفاق أكثر وأعظم من أن تحصر.