ذكر الله في سورة الفرقان صفات عباد الرحمن، إذ وصفهم الله تبارك وتعالى وصفاً عظيماً جامعاً لاجتناب الذنوب الأصول الثلاثة الذنوب والكبائر والموبقات، أو الأسباب الثلاثة التي يقع بها الفساد والانحراف والموبقات والذنوب في القلوب وفي العالم كله، فقال: ((
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ))[الفرقان:68] والثاني والثالث: ((
وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ))[الفرقان:68]، فأما الشرك بالله فلا يخفى على أحد من المؤمنين خطره وضرره وعظيم زجر الله تعالى ووعيده عليه: ((
إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، فهو أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، وأوبق الموبقات، وأساس كل شر وانحراف وضلال، وكل انحراف وشر وشرك وفساد وبغي وظلم وعدوان دون الشرك، فهو أخف وأهون وأرجى أو أقرب بأن يغفر بمشيئة الله تبارك وتعالى، أو ينجو صاحبه من النار ما لم يشرك، وإن بقي فيها ما بقي، فيخرج منها كما بينا في مواضعه، والمقصود أن الشرك أكبر الجرائم والموبقات، ودافعه هو أن الإنسان يدعو غير الله، وسببه هو أن بعض الناس يقول كما قال المشركون: ((
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ))[الزمر:3] ويحسب أن عند غير الله من ولي أو كاهن أو حتى شجرة أو حجر أو أي شيء أن عنده من الخير والنفع ومن دفع الشر أو الضر عنه ما يمكن أن يفعل به ذلك، ومن هنا يدعوه، فنفى الله تبارك وتعالى عن عباد الرحمن -وهم الخيار المصطفون- أن يكون فيهم هذا الأمر.ثم نفى عنهم الأمرين الآخرين، وهما ما يدل عليه قول الشيخ لما قال: (الشهوة والغضب مبدأ السيئات). فنفى أن يكون لديهم هذان العملان اللذان يدلان على غاية ومنتهى ما يصل إليه العبد إذا تملكته الشهوة أو الغضب، وهما شر ما يتخلق به الإنسان، وشر ما يتخلق به العبد بعد الكفر، أي: أن يكون ذا غضب أو ذا شهوة، إذ إن غاية الغضب هي القتل أو الظلم؛ لأنه إذا غضب العبد فإنه قد يبطش، قد يضرب، قد يظلم، قد يصل به ذلك إلى أكبر جرم وهو القتل لأفراد أو أمم أو جماعات والعياذ بالله، فهذه الجريمة ومقدماتها وما يتفرع عنها ناشئة عن المبدأ الأول الذي هو القوة الغضبية، والشيطان أحرص ما يكون على الغضب، ولهذا أمر الله تعالى العبد إذا غضب أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فقال: ((
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))[الأعراف:200]، ويظهر في وجه وفي شكل وفي طبع الغاضب من احمرار العينين والوجنتين، وهيئته ما يدل على أن الشيطان قد تملكه والعياذ بالله، وقد جاء ذلك في الأحاديث النبوية، والمقصود حالة الغضب تدفع صاحبها إلى ارتكاب أنواع وألوان من المعاصي غايتها القتل، وكثير من الناس إذا طلق أو ضرب أو قال ما لا يليق يعتذر بالغضب، ولا يدل ذلك على أن الغضب عذر وأن صاحبه يعذر، لكن يدل على أن مما تعارف عليه الناس أن الغضبان إذا غضب وتملكه هذا الأمر، فإنه يفقد عقله وصوابه ويتصرف بما لا يليق أن يفعله مثله.وأما الشهوة؛ فإن أقوى شهوة فطرية غريزة جعلها الله تبارك وتعالى في الإنسان، ومن أجلها أن يرتكب ما يرتكب، وأن يفعل ما يفعل، هي شهوة النساء، ولهذا قال: (وَلا يَزْنُون) ومقدمات ذلك كثيرة، من النظر والقبلة أو الكلام الذي فيه خضوع بالقول أو ما أشبه ذلك، كل هذا مما يمهد، وهو من الإثم بحسبه، فإن كان زناه بالأذن أو العين أو باللمس فزناه بحسبه، أي: بحسب ما فعل، ثم بعد ذلك الفرج يكذب ذلك أو يصدقه فيقع في الفاحشة الموبقة والعياذ بالله، وقد يعصمه الله تعالى ويحفظه، فهذا معنى قول الشيخ: (والشهوة والغضب مبدأ السيئات)، فإذا أبصر رجع. فيعود إليه إيمانه ويقينه ومعرفته بالله تبارك وتعالى، ويذهب عنه ما كان الشيطان قد زينه له مما هو غائب عن إحدى المبدأين، أو عن إحدى القوتين: إما القوة الغضبية وإما القوة الشهوانية.