المادة    
‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201]، وهذه الآية الكريمة ورد فيها قراءتان ثابتتان مشهورتان، فقرئ: (طَائِفٌ)، و(طيف) بالياء، فمن ناحية اللغة فالمعنى متقاربان، فالطيف أو الطائف بمعنى واحد، وأكثر ما ورد في كلام وشعر العرب: الطيف، ويعنون به الخيال والخاطر، ويستعمله الشعراء المتأخرون أو المحدثون بمعنى الخيال أو الصورة، وألف بعضهم في ذلك كتباً عن طيف الخيال، وهو أن يتخيل الإنسان بلاده ومحبوبه، أو ما يخطر في باله، ويسمون ذلك: طيف الخيال، وهذا كله من ناحية اللغة بمعنى واحد، والمقصود أنه يلم به لمة من الشيطان، فهي طيف أو طائف.
قال البارودي :
وقد تعوض طيف من سميرة زائر            وما الطيف إلا ما تريد الخواطر
فالشعراء يكثرون من ذكر الطيف والحديث عنه؛ لأنه في الحقيقة كما قال البارودي : ما تريد الخواطر، وإن كان بعد ذلك عبر عنه كأنه آتٍ فيقول:
طوى صدفة الظلماء والليل ضارب            بأركانه والنجم بالأفق غائب
فيالك من طيف ألم ودونه            محيط من البحر الجنوبي زاخر
فهو نفي إلى سيرلانكا ، وأخذ يتذكر أهله في مصر ، ويتصور أن هذا الطيف قطع الأميال والمسافات من مصر إلى هنالك، وهو الذي تخيل أو رآهم في خياله.
ولمة الشيطان أو طيفه في الحقيقة له ارتباط بالمعنى اللغوي من جهة أن العبد يتهيأ ويستعد نفسياً لاستقبال ما يأتيه من الشيطان في قلبه، وكأنها إرسال واستقبال، والقلب الذي ليس لديه استعداد لاستقبال ما يقذف الشيطان، لا يستطيع الشيطان أن يقذف فيه، أو أن يلم فيه بشيء من هذه الأمور، وهو القلب المحصن بذكر الله تبارك وتعالى، من استعاذة من الشيطان وأذكار الصباح والمساء وما أشبه ذلك، فإذا حاول الشيطان أن يعرض له فإنما يكون عبوراً خاطفاً لا يؤثر فيه بشيء، وفرق بين الهاجس أو الخاطر وبين ما يصبح هماً أو عزيمة وإرادة مما هو في معصية الله تبارك وتعالى فيقول الله تبارك وتعالى، في حال المتقين، وحال ما يقابلهم من الفجار وأولياء الشيطان: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201] فلم ينف عنهم المس، ولم يقل: إن الشيطان لا يلم بهم، أو لا يصيبهم بشيء؛ لأن هذا واقع، لكن دواؤه عاجل وقريب، فمجرد أن يشعروا بذلك تذكروا وعد الله، وتذكروا وعيد الله وثوابه وعقابه، وما أمر به وما نهى عنه، وتذكروا ما يجب على المؤمن الذي أعطاه الله اليقين والإيمان والتقوى، فتذكروا ما من شأنه أن يذهب عنهم هذا الطيف أو الطائف، وعندما يتذكرون قال: (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي: كأنما قد عشي بصره أو وضعت عليه غشاوة أو نام أو غفل أو نعس، وعندما أفاق تذكر وأبصر وعلم أن هذا عدوه الذي حذره الله تبارك وتعالى منه: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ))[فاطر:6]، وحزبه: أولياؤه وأتباعه الذين مآلهم إلى العذاب والعياذ بالله تبارك وتعالى، وبالتالي فيجب على المؤمن التقي أن يتخذه عدواً، وهذا حال المؤمنين المتقين، وقد نقل عن مجاهد أنه قال: [هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه].